مدارات في الثقافة والأدب
رؤية تحليلية
٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩بقلم عزيز العرباوي
سبق لي أن قرأت الكثير من الكتابات التي ترى على أن قصيدة النثر نشاز أدبي وفني بامتياز وأنها لا ترقى إلى مستوى الشعر ، بل لاحظت الكثير من التحامل عليها وعلى أصحابها وكتاباها الذين رأوا فيها شكلا جديدا في جنس الشعر من خلاله يستطيع المبدع أن يبوح بمكنوناته وأحساسيه ومشاعره وبالتالي الخروج على العرف السائد في أن الشعر إذا كان لا يلتزم بالوزن والقافية فهو ليس شعرا.
ولكن بالمقابل هناك شعراء مجيدون ونقادا عربا كبارا قالوا العكس ومنحوا هذا الجنس الأدبي حق الوجود وصك الاعتراف به كجنس شعري حديث وجديد يستطيع أن يضيف إلى القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة الكثير إذا ما التزم بشروط الفنية واللغة والتجديد. ومن هؤلاء نجد الشاعر والناقد اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح الذي دافع عن قصيدة النثر بكل ما أوتي من قوة ومن معرفة أدبية نقدية وراقية.
في كتابه القيم والجميل”مدارات في الثقافة والأدب”الصادر عن مجلة”دبي الثقافية”مجانيا وهو عبارة عن مقالات في الشعر والرواية والنقد والفن استطاع الناقد أن يرد لهذا النوع من الشعر كامل حقوقه في الوجود والاعتراف ، بحيث أن الشعر لا بد أن يواكب كل التطورات والتغيرات التي طرأت على الإنسان في هذا العالم ، وليس من الحكمة أن يستقر الشاعر على نفس المنوال والحال ولا يواكب هذا التطور بحكم أن الشعر وُلِد موزونا ومقفى فهذا لا يعني أنه لا يتغير ولا يفقد هذه المميزات ، وإذا ما فقدها فهو ليس شعرا.
في مدار الشعر استطاع الشاعر والناقد الدكتور عبد العزيز المقالح أن يستفيض في الحديث عن هذا الجنس الرائع من الأجناس الأدبية وقدمه على باقي الأجناس الأخرى لأهميته ولقدمه وتميزه الفني وباعتباره ديوان العرب قديما ولقدرته على البقاء والاستمرارية رغم عوادي الزمن وانقلابات الفكر الإنساني وتغير أنماط التفكير والتعبيروالتدبير عند أغلبية المجتمعات وكذلك لقدرته البديعة على غزو الكثير من المجتمعات التي لم يكن لها عهد بالشعر فأصبحت تتعاطاه وتنتج النوادر فيه ومن خلاله ، ولعجز الدارسين على تحديد تعريف له عن الوقوف عند مفهوم محدد له كما يقول الشاعر.
ما أثار انتباهي في الكتاب هو حديث الشاعر عن الجدل العقيم حول الشعر والذي خلق الكثيرمن اللغط الذي لم يقدم ولم يؤخر شيئا في الأمر لأن كل ال\انواع الشعرية والمعروفةمازالت رائجة ومازال الشعراء ينجبون القصيدة الجميلة وكذلك لأن التافه من الشعر نجدهفي كل الأنواع فكما يوجد شعر تافه في قصيدة النثر نجده أيضا في الشعر التقليدي وفي قصيدة التفعيلة والعكس صحيح. فما بال هؤلاء يريدون تضييع الوقت والجهد الفكري في منح صك الاعتراف للقصيدة ويتركون الجوانب المحيطة بها كقصيدة وكذلك المواضيع التي تعالجها فنيا وموضوعيا؟.
وحول النقد طرح الدكتور المقالح في كتابه سؤالا أخذه عن مقال كتبه الناقد والشاعر جودت فخر الدين ألا وهو: هل لدينا نقد أدبي؟ ومن خلاله تمكن الدكتور المقالح أن يفند رؤية الشاعر جودت فخر الدين الذي ادعى أننا لا نتميز بنقد أدبي وأن كل ما كتب عبرعقود مضت هو مجرد صيحة في واد بل هو لا يشكل أي ظاهرة أو حركة ذات فعالية ولا يؤدي ما هو مطلوب منه حيال الأدب وبالتالي خلص إلى إمكانية غياب النقد الأدبي لدينا. وهذا كلام عار من الصحة ومردود على صاحبه ، فكل هذا الكم الهائل من الكتابات النقدية العظيمة التي كانت ولازالت تنهمر علينا وتتابع كل جديد وتعود إلى كل ما هو قديم لم تقنع الشاعر جودت فخر الدين. فماذا يقول في كتابات الراحل رجاء النقاش الذي أسس مدرسة للنقد الأدبي اعتمدت على البساطة في التحليل وعلى الرؤية الداخلية للنص الأدبي فقدم العديد من المؤلفات الإبداعية تقديما رائعا؟ وماذا يقول في كتابات الدكتور جابر عصفور الذي أعتبره من جانبي أغزر ناقد عربي بإنتاجاته النقدية الراقية والرائعة والتي لا أستطيع أن أكبح نفسي حقيقة إذا ما مررت بمقال من مقالاتهالنقدية أو بكتاب من كتبه الرائعة أن أقرأها وأعيد قراءتها؟ وماذا يقول في كتابات نقادعرب كثيرين كحاتم الصكر أو صالح هويدي أو سعيد يقطين أو نور الدين صدوق أو محمد مندور…. وغيرهم كثير لا تحضر أسماؤهم عندي الآن؟.
المصيبة هي في الجهل بمجهودات الآخرين وبمجهودات نقاد ومبدعين استطاعوا أن يغنوا الساحة الأدبية والنقدية والفكرية العربية بالكثير ، والمصيبة الأعظم هي بخس الناس حقوقهم وعدم الاعتراف بما يقومون به وما يقدمونه على حساب وقتهم وصحتهم وناسهم. ولكن لا حياة لمن تنادي.
قدم الدكتور المقالح في كتابه هذا نبذة عن بعض المفكرين والمبدعينالعرب القدامى والمعاصرينومنهم أبوحيان التوحيدي الأديب والفيلسوف والذي استطاع الكاتب أن يبين الجانب الاجتماعي والفكري في كتابات هذا الأديب العربي الكبير من خلال إبداعاته وكتاباته العظيمة التي بقيت إلى يومنا هذا تؤثر في العديد من الكتابات النقدية والفلسفيةالعربية وغير العربية. كما تحدث المؤلف عن الشخصية القلقة في الفكر العربي المعاصر والمتمثلة في المفكر عبد الرحمن بدوي الذي امتاز بالعجرفة والأنانية والرؤية الاستعلائية. فيما كان ميخائيل نعيمة ذلك المفكر الإنسان في زمن الحروب والصراعات والانهيارات الأخلاقية والروحية.
ومازال ابن خلدون ذلك العالم والمفكر والباحث يثير الجدل في الغرب والشرق ومازالت كتاباته وأبحاثه محط اهتمام واسع عند الكثيرين بل مازالت مقدمته تحظى بالكثير من القراءاتفي عالمنا العربي أو عند الغرب لأهمية ما طرحه فيها من أفكار مازالت صالحة في عصرنا هذا عصر الحروب والقيم الهدامة. ولذلك فعودة ابن خلدونفكريا ونقديا عودة حميدة ومرجوة. وإعجاب الدكتور المقالح بالمؤرخ والشاهد على العصر الراحل نقولا زيادة لا يفوق إعجابي به ايضا فهذا المفكر والمؤرخ يستحق إعادة الاعتبار له من خلال إعادة قراءة موسوعته التاريخية والبحث فيها وتقديمها للأجيال اللاحقة للتعرف على تاريخ وطنهم العربي الكبير ومعايشة الأحداث التي مر بها عبر عقود خلت كانت صعبة عليه.
في مدار الرواية قدم لنا الدكتور المقالح روايات جميلة نقديا واستطاع أن يحيط بها فنيا وموضوعيا كرواية”الحزام”لأحمد أبو دهمان ورواية”المحاكمة”لليلى العثمان ورواية”رماد الدم”للروائي والقاص الإماراتي علي أبو الريش ورواية”فخاخ الرائحة”ليوسف المحيميد ورواية”الوناس عطية”لحسن حميد وأخيرا رواية”دمشق 67”لخليل النعيمي.
عندما يهبط الفن إلى مستوى الابتذال والبحث عن الشهرة الزائفة وعن المال دون الأخذ بعينالاعتبار رسالته العظيمة في تحسين ذوق الجماهير وتوعية ذائقتهم الفنيةفهذا ما لا يمكن تسميته بفن بل هو هراء وغثاء لا يستحيق الاهتمام به والبحث في جوانبه الفنية الأخرى. هذا ما يحصل عندنا في هذه الأيام ، فأصبح كل من يستطيع أن يطوع آلة موسيقية أو من يستطيع أن يخربش كلمات ساقطة لا رابط بينها وكل من يستطيع أن ينبح كالكلاب ويموء كالقطط يدخل غمار هذا الجنس الفني المسمى الغناء والطرب. لقد أصبحت الساحة الفنية غارقة بأجساد ممشوقة تتلوى كالثعابين وتبين ما ستره الله لكي تفؤض على الناس غناء وطربا ما أنزل الله به من سلطان ولا كان في زمننا أو في تراثنا وتاريخنا الفني أبدا.
وكما جاء في الكتاب موضوع المقال أن الواقع الراهن إلا الغثاء في المواقف وفي أساليب التعامل بين مخلوقات هذا الوطن الكبير فماذا يتوقع الإنسان أن يصدر عن هذا الغثاء في مجال الفن؟ وهذا ما يؤكد أن الإبداع هو في حقيقة الأمر انعكاس للواقع وصدى لمؤثراته الاجتماعية والاقتصادية