* يدعي بعض الناس أن الشعر الى إنقراض في ظل هذه الظروف التي ساوت اليكترونيا بين كل الأشكال ..وجعلتها كلها سردا ذي اشكال متعدده ..وفي ظل التسارع المتزايد لن يبقى مكان سوى للقصة القصيرة أو المايكرو .قصة ..وسنتقرض الرواية وقد تتبعها المسرحيه ..فما رأيكم في هذا الطرح المتشائم ..ومدى قربه من الواقع ...
.دمت سالما غانما ...

* أنا بطبعي شخص متفاءل . وليس لدي أي تحفظات على الكتابة الحقيقية الأصيلة التي تقدم كشوفا جمالية مختلفة ، ولها فضيلة الكشف عن الجوهري والباطني في أعماق الكون ..
أما ما يقال عن انقراض أجناس أدبية بعينها ، وتلاشيها فغير صحيح بالصورة التي يتم بها الطرح .
قلنا في ردنا على سؤال سابق أن العالم ـ وقبل العولمة بقرون ـ في صيرورة ، ربما تسارعت التحولات لكن القيم ثابتة ومستقرة مهما تبدلت الأشكال .
هناك قيم راسخة كقيمة الجمال والخير والعدل ، وهي قيم قد تأخذ لبوسا مختلفة كل فترة زمنية طالت أم قصرت ، لكن لا يمكن أن ينتصر الفن للقبح والظلم والفساد .
الشعر قد يكون في أزمة مرحلية ، لكن الحياة بجفافها وبزحف التصورات المادية عليها لا يمكن الاستغناء عنه كإبداع مواز للحياة بأي شكل . المرأة تهدهد طفلها وتحنو عيه رضيعا بغناء خالص بسيط ينتقل عبر الأجيال . وقد رأيت بنفسي في قرية " عزبة البرج " الصيادين ينشدون أهازيجا ساعة طرح الشباك ولمها : " هيلا هيلا .. صلي ع النبي " . الغناء مندس في قلب الأشياء . كذلك يمكننا ان نقول ان الحكاية ولدت مع ميلاد البشرية . في " الألياذة " و" الأوديسا " ، في الحكايات الطريفة بالعهد القديم . وكذلك في سور معينة من القرآن الكريم ، منها سورة " يوسف " وسورة " الرحمن " التي تهز القلب طربا وجمالا . وفي حياتنا الشعبية لا ينام الطفل قبل أن تقوم أمه بسرد حكاية خرافية أو من منقولات من الذاكرة .
لم تكن لي جدة تحكي أي حكايات . وكذا كانت أمي مشغولة بالبحث لنا عن لقمة عيش نظيفة وحلال. لكنني عرفت السرد من معلم بالمرحلة الأولى كان اسمه رفعت قطارية أطال الله عمره . كان يحكي لنا حكايات لطيفة ويغني معنا ولنا " ذهب الليل .. طلع الفجر .. والعصفور صوصو .. صوصو " . وقد جاء بقفص عصافير ملون وعلقه في سقف الفصل . ما زال أجمل المشاهد في الذاكرة .. بعدها بسنوات عرفنا " علي صلى " وهو مثال كان يصنع تماثيله من الصلصال ويحرق ذلك الصلصال في فرن معدني ، وكنا نساعده في عمله . في فن النحت حكايات : كيف يتشكل بالصلصال وجه آدمي او عصافيرأوكتاكيت بأجنحة طرية . القصة كما سأعرف بعد لها مرونة التشكل الخلاق. نفخة إلهية تسكن اللغة فتحركها ومن جواها ينبعث شيء حميمي بديع.
أكتب حاليا القصة القصيرة ، ولا أميل للقصة القصيرة جدا ، وقد جربتها فبدت لي غير مشبعة . جربتها في " إرتباكات 1، 2 "، وفي " مكابدات " . لكنني ومنذ شهور قليلة شعرت بالحنين للمسرح ، وللحوار الرشيق فكتبت ثلاثة نصوص جديدة .
مع المسرح أنت أمام لغة متحركة تجري على لسان أبطالها . يخيل لي أحيانا وأنا أكتب أنني أتقمص دور شخصية ما وأخرج عن الخطوط المرسومة ، واستدعي "مونولوجات " تكشف عن مأزق الشخصية وانكسارها . التراجيديا فيها سموق وعلو وارتفاع عن الأرضي الوضيع . من قال أن المسرح يموت . ومن بإمكانه ان يدعي أن شكسبير سوف يسدل عنه الستار ؟؟ أو أن روائعه مثل " ماكبث " أو " عطيل " أو " شيلوك " في تاجر البندقية يمكنها أن تتوارى مع الزمن ؟ هذا تصور شبه مستحيل ..
الصحيح أنهاـ أي النصوص ـ قد تقدم برؤى ومعالجات مختلفة لكن المسرح لن يختفي . والرواية قد تتشكل بأقانيم وأنساق مختلفة عن روايات القرون 18 ، و19 ، و20 لكنها ستظل موجودة ومشتبكة مع الواقع. الشيء الحقيقي سيبقى ، والمسألة ليست في الطول أو القصر بل في الحيوية والعنفوان . أسأل نفسي باستمرار : لماذا يبقى شعر فيدريكو جارسيا لوركا ، ولماذا نظل نتغنى ببدر شاكر السياب وهو يهتف بعراقه الجريح ، ولماذا يكون ديوان " أوراق الغرفة رقم 8" لأمل دنقل هو نفس أوراقنا؟ أليس لما نستشعره من ترديدات وجدانية ومن حفر شعوري داخل ذواتنا يفعله الأدب الأصيل ؟
الفن يبحث عن الشخصي جدا ، والذاتي لدرجة التوحد انطلاقا للدخول في قضايا كبيرة . المجرة هي نفسها الذرة . منظومة الحركة والتحول والصيرورة قريبة جدا .
وعلى الكاتب الفاهم أن يدرك أن عليه أن يكتب عما يعرف و ألا يرتمي في أحضان الشائع والمكرور والمألوف وإلا أعاد استنساخ ما تم تدوينه من قبل في عصره أو في عصور سابقة .

* هل أنت مع أو ضد الشعر العامي؟

يبدو السؤال بسيطا ، لكنه في طبيعته أشعرني بارتبارك حقيقي .
فأنا مع كل إبداع حقيقي ، ومنحاز لكل كتابة صادقة .
لي في حقل شعر العامية خمسة دواوين هي :

ـ الخيول ـ سبتمبر 1982.
ـ ندهة من ريحة زمان ـ 1991 .
ـ ريحة الحنة ـ 1998 .
ـ نتهجى الوطن في النور ـ أبريل 2000.
ـ سجادة الروح ـ مايو 2000.

إذن فبداياتي مع هذا اللون من الإبداع الأصيل ، ولا يمكنني أن أشعر نحوه إلا بالحب والتقدير .
لقد اتجهت في الآونة الأخيرة للقصة القصيرة والرواية ، ولكنني لا أنقطع عن قراءة بيرم التونسي ، وفؤادحداد ، والأبنودي ، وفؤاد قاعود ، وسيدحجاب ـ أقرب الشعراء إلى نفسي ـ وصلاح جاهين .
واقرأ الأجيال التالية لهم ، ومنهم مجدي نجيب ومحمد كشيك وزكي عمر ، وفؤاد حجاج ، وعبدالدايم الشاذلي وماجد يوسف ، وابراهيم الباني ، ومحمد عبدالقادر . وغيرهم كثيرون.
ومازالت الفرق المسرحية المختلفة تستعين بي في كتابة أشعار المسرحيات الجديدة ، وكان آخرها ما يعرض الآن بعنوان " رحلة حنظلة " عن معالجة درامية قام بها الراحل السوري سعد الله ونوس لنص بيترفايس .



ماهو مستقبل الكتاب الورقى فى ظل هذا التقدم الكبير لوسائط المعرفة الدش و الانترنت وغيرها؟؟


لا يمكنني أن أخفي توجسي من هذا الاقتحام المرعب لثقافة الصورة في مقابل ثقافة الكلمة .
قبل أكثر من خمس سنوات أقام إقليم القاهرة الكبرى مؤتمرا أدبيا جعل محوره الرئيسي هو " مستقبل ثقافة الكلمة في مواجهة ثقافة الصورة " وكان لي بحث يصب في هذا المجرى .
قلت وما زلت أقول أن التغيرات المتلاحقة تتسم بالرعونة وعدم التخطيط . هناك قفزة معرفية هائلة ، وثمة وسائط حديثة للتقنية أحدثت حالة من الفزع والرعب . هذا بعد أول.
لكن أي مادة فنية أو درامية او تشكيلية لن تستغني يوما عن الكلمة فهي التي تحدد القيمة وتوزع الأدوار ، وتمنح المعنى والقوام والمعيار للصورة . وهذا بعد ثان .
بهذا الفهم لا يمكننا ان نلغي الكلمة ، وندعي ان الوسائط الحديثة كالقنوات التلفزيونية وشبكة الأنترنت وغيرها ستحل محلها .
يمكننا القول أن دور الكلمة سيختلف لكنه لن ينعدم او يتقلص . ككل شيء في الكون هناك منطق للأشياء وصيرورة ، وحكمة الحياة قائمة على التوازن والتساوق ودعم فكرة التقاطع والتحاور . الماء نفسه في تحول ، والمادة التي لا تفنى ولا تستحدث من عدم يمكن أن تفيدنا في هذا الموضوع.
أدعي أن الكتاب الورقي سيبقى وسيشاطره النفوذ الكتاب الرقمي . وستكون للصورة أسبقية ، لكن الكلمة المطبوعة سواء على الورق أو الشاشة ستحافظ على نفوذها .
سيظل العالم وسط هذا الضجيج والعنف والقفز المرعب بحاجة إلى كتابة متوازنة ، وأفكار ناضجة ، ونظريات تحاول فك طلاسم العالم . وكل هذه الأشياء تحتاج للكلمة .
نحن خائفون نسبيا ، لكن الحياة تجدد ذاتها ولو بقينا على أفكارنا ذاتها فسوف نندثر كالديناصورات!