وعلى الرغم من تعدد الخيوط الشعرية والنفسية التي يتكون منها النسيج العام للرؤية الشعرية في هذه المجموعة وتنوعها وتشابكها فإننا نستطيع أن نُدرك بوضوح أن الشاعر كان أكثر انشغالاً بالهموم العامة ـ سياسية كانت أو اجتماعية أو فكرية أو إنسانية عامة ـ منه بالهموم الذاتية الخاصة، بحيث لا نكاد نعثر على بعد ذاتي من أبعاد رؤيته لم يُحمله ملامح هم عام، وتمتزج الهموم العامة بالهموم الخاصة إلى الحد الذي لا يُدرك القارئ في كثير من الأحيان ما إذا كان الشاعر يتحدث عن محبوبته الحقيقية، أو عن وطنه، وما إذا كان ينفث مواجعه الخاصة أو مواجع الناس، وما إذا كان يعبر عن أحلامه أو أحلام الجماهير، فالعام في تجربة الشاعر يمتزج بالخاص ويذوب فيه ويتحد به.
ويمكننا أن نلمح بوضوح أن الوجدان الديني يمثل مكوناً أساسيا من مكونات الرؤية الشعرية في هذه المجموعة، فنحن نجد قصيدتين من قصائد المجموعة يُشكل الوجدان الديني فيهما لحمة الرؤية الشعرية وسُداها ..
وأولى هاتين القصيدتين هي قصيدة «التجربة» التي كانت أول قصيدة أتعرف منها على صاحب هذه المجموعة الشاعر المبدع حسين علي محمد، وقد قلتُ عن هذه القصيدة في مكان آخر( ): «أما قصيدة «التجربة» للشاعر حسين علي محمد فتحقق لوناً آخر من الامتزاج بين الحداثة والموروث؛ حيث ينتقل الموروث في هذه القصيدة في مضمونها الروحي والصوفي، بينما تتمثّل الحداثة في البناء الشعري للقصيدة، سواء في ذلك الجانب الموسيقي بما فيه من استخدام لآخر إنجازات التجديد في مجال الشعر الحر كالتدوير، والجانب التصويري بما فيه من توظيف بارع للصور في الإيحاء بجوانب هذه «التجربة» الروحية الخصبة، حيث يرسم الشاعر أبعاد هذا الجو الروحي بمجموعة من الألفاظ الصوفية الموحية، ومجموعة من الصور البارعة التي تحملنا إلى هذا الجو الشفاف الذي يتجرد فيه المريد من كل هموم الحياة ومشاغلها وأثقالها، ويُصبح هدفه الأسمى هو الوصول «اترُكْ أحزانَكَ قُدَّامَ البابِ، اخْلعْها جنْبَ حذائكَ، وتعالَ إليْنا، فستحْيا أحلى لَحَظاتٍ في ظِلِّ الشيخِ "وليِّ الدِّينِ" الليْلَهْ!» ولنتأمل على سبيل المثال هذه الصورة الذكية «اخْلعْها جنْبَ حذائكَ» بما فيها من إيحاءات غنية، هذه الإيحاءات التي لا تقف عند حد ضرورة التجرد من هموم الحياة وأثقالها وتركها عند الباب، وإنما تتجاوز ذلك إلى التعالي عن هذه المشاغل والهموم، واحتقارها، ووضعها بجانب الحذاء.
وأخيراً ذاك الختام الشعري الرائع للتجربة يإيحاءاته العميقة، حيث يفر الشيخ ويترك المريدين بعد أن وضعوا أقدامهم على الطريق، فالوصول إلى الله ليس في حاجة إلى وسائط، وحسب المرشد أن يضع أقدام المريدين على طريق الوصول، وقد يكون الراغب في الوصول أقدر على سلوك الطريق من المرشد ذاته: «لكنَّ الشَّيخَ العاشقَ شربَ الكأْسَ، ونظَر ملِيًّا في الصَّدْرِ النَّابِضَ بالحبِّ الأسمى للخالقِ، نظرَ وقالَ: "أحبَّائي، إنِّي أضعفُكُمْ، إنِّي آخرُكُمْ قُدَّامَ اللهِ"، وأعطى ساقيْهِ للريحِ، وفرّْ».
ولا شك أن انفتاح شعرنا الحديث على هذا النبع المتمثل في تراثنا الروحي يصل شعرنا بمعين لا ينضب له عطاء، ويمثل أملاً من آمال هذا الشعر في اجتياز أزمته الحالية».
أما القصيدة الثانية التي يمثل الوجدان الديني فيها البعد الأساسي في الرؤية الشعرية، فهي قصيدة «ترنيمة بلال»، حيث يمثل «بلال» فيها تجسداً آخر من تجسدات «الحلم المناضل»، ويحمل دلالات رمزية معاصرة، ويستغل الشاعر من شخصية بلال ـ ـ ملمحين أساسيين: المؤذن، والمجاهد الصامد، فإلى جوار كون بلال هو مؤذن الرسول فهو واحد من الذين تحمّلوا أقسى صنوف العذاب في سبيل عقيدته، وصمد صموداً فذا والمشركون يجرّونه في شعاب مكة، ويضعون الصخور على صدره ليُعلن كفره بالدين الجديد، ولكنه لم يكن يُحرِّك لسانه بسوى هذا الدعاء العلوي «أحد .. أحد». وقد امتزج هذان الملمحان امتزاجاً فنيا بارعاً، للرمز من خلال هذا المزج إلى انتصار صوت الحق دائماً في النهاية، واكتساح نور الحق لكل ظلمات الضلال والظلم، شريطة أن يجد هذا الحق أنصاراً في مثل صمود بلال، ومثل يقينه:
خلفَ النوافذِ حطَّ عصفورٌ شريدْ
نقرَ المساءْ
فافترّ عنْ فجرٍ جديدْ
فجرِ العصافيرِ التي
غَنَّتْ كثيراً للصباحْ
أحَدٌ .. أحَدْ
أحَدٌ .. أحَدْ
أحَدٌ .. أحَدْ
والليْلُ يرحلُ والجراحْ
والشمسُ شمسُ محمّدٍ
تجتاحُ مكّةَ والبِطاحْ
وبالإضافة إلى هاتين القصيدتين الكاملتين نجد هذا الوجدان الديني يترقرق عبر الكثير من جوانب رؤيته، ونجد المعجم الديني ـ وبخاصة المعجم القرآني ـ يمثل مكوناً أساسيا في الكثير من صوره وأدواته الفنية، فالذي يقرأ الصور التالية مثلاً «تعالَوْا نقرأْ "للمنصورةِ" فاتحةَ الوصْلِ ، … لوْ متنا فالقبْرُ مضيءٌ فيهِ الياقوتةُ خيْرٌ منْ ذهبِ الدُّنيا .. هأنذا أُبْصِرُ مقعدَنا منْ جنَّاتِ اللهِ العُلْيا ، والطيرُ الأخضرُ ينسربُ من الرُّوحِ ، ويَرِدُ الأنهارَ ، ويأكلُ منْ ثمراتِ اللهِ ، ويأْوي للقنديلِ الهابطِ منْ سقْفِ العرْشِ» (قصيدة «الأميرة تنتصر»)، و«في الفجْرِ تراني أخرجُ طفلاً عرياناً بين الرحمِ وماءِ الصلبِ الدّافقِ» (قصيدة «قنديل الحلم»)، و«نكص على عقبيْه وفر» (قصيدة «المهرج») و«يركب خيل الليلِ السريِّ، ويصحبُهُ طيْرُ أبابيلَ فيُمطرهمْ» (قصيدة «سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق»)، و «يسقطُ من عينيها ظل شعاعٍ فتانٍ، يبعثُ في الوهْمِ السُّفليَّ النارَ القدسيَّةَ، فأكادُ أموتُ وحيداً بين الطينِ ورحمِ الأرضِ الحبالى بالنور العلويّْ» (قصيدة «شجرة الحلم») .. الذي يقرأ هذه الصور وغيرها لا يُخطئ إدراك دور المعجم الديني في تشكيل هذه الصور، ومدى تغلغل الوجدان الديني في رؤيا الشاعر.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الأدوات الشعرية التي يستخدمها الشاعر في تجسيد رؤيته الشعرية، والحقيقة أن أدواته تمتزج امتزاجاً بارعاً بأبعاد رؤيته، وتتحد بها، إلى الحد الذي تُصبح فيه محاولة الفصل بين أبعاد الرؤية الشعرية وأدوات تجسيدها ضرباً من التعسف، ومن ثم فإن الحديث عن الأدوات الشعرية هو بالضرورة حديث عن الرؤية الشعرية التي تتقمّص هذه الأدوات.
وكما تعدّدت أبعاد الرؤية وتنوعت فقد تعددت الأدوات أيضاُ وتنوعت، وإن كانت الأداتان الأساسيتان في هذه المجموعة هما «الصورة» و«الرمز»، وإن كان الشاعر قد اعتمد إلى جانب ذلك على أدوات إضافية أخرى، كالأسطورة، ووسائل التشكيل اللغوي المتنوعة، والموسيقى، والمفارقة التصويرية، وبعض التكنيكات المسرحية كالحوار وتعدد الأصوات وتصارعها في القصيدة .. وغير ذلك من الأدوات الفنية المتعددة التي تمتزج وتتفاعل، ليُثري بعضها إيحاء بعض، ولتزيد بدورها الرؤية العامة في الديوان ثراءً وعمقاً ورحابة.
وقد تنوّعت المصادر التي يستمدُّ منها الشاعر مواد صوره ورموزه، فهو يستمدها تارة من الطبيعة، وتارة من التراث القديم والمعاصر، وتارة من الأساطير، وتارة من عالم اللاشعور حسبما تقتضي طبيعة الرؤية الشعرية.
ولعل أكثر رموز الطبيعة شيوعاً في المجموعة هي تلك الرموز التي توحي بالخصب والحيوية والعطاء، كالنهر والشجرة، وهما رمزان أساسيان من الرموز التي يتكئ عليها الشاعر اتكاءً كبيراً في الإيحاء بأبعاد تجربته، وتتعدد إيحاءات هذين الرمزين وتتنوّع، فلا يتجمّدان على إيحاء واحد؛ فالنهر مثلاً يرمز للعطاء والخصب «إنِّي أعرفُ كيْفَ يغيضُ النَّهرُ …، وكيفَ يفيضْ»، ويرمز للطهارة «أنزلُ للنَّهْرِ وأغسلُ وجْهي ، تتعلَّقُ بالثَّوْبِ الأبيضِ ذرَّاتُ الطَّمْيِ الأسمرِ»، ويرمز للقوة والتدفق والعنف والثورة «ينطلِقُ النِّيلُ حصاناً همَجِيَّ الخُطُواتْ»، ويرمز للأمل المرتقب «أتشهَّى جسَدَ امرأةٍ تطلُعُ منْ زهْرِ النَّارِ، وتُعطيني أحواضَ الدُّنيا، تمنحُني الكوْثَرْ». وقد يحمل كل هذه الدلالات ويشع بكل هذه الإيحاءات في آن واحد كما في قصيدة «نهر الغضب» ـ وهي مرثية لنجيب سرور ـ حيث يصبح النهر في هذه القصيدة رمزاً لكل المعاني السابقة «نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ أراهُ يفورُ ، ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ ، ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ … ويُمنِّينا أنْ يحملَ فوقَ قِلاعِ الغضبِ صباحَ العيدْ». وما يُقال عن النهر يُمكن أن يُقال مثله عن «الشجرة» وعن «النار» وعن «النور» وعن «العصافير» وغيرها من المعطيات التي استمدها الشاعر من الطبيعة ليشكل منها صوره ورموزه.
أما المصدر التراثي فإن الشاعر يلجأ إليه في بعض الأحيان، ويستمد منه أدوات ومعطيات يوظفها توظيفاً رمزيا بارعاً، كما فعل مثلاً في قصيدته «الأميرة تنتصر» ـ وهي واحدة من أجود قصائد المجموعة ـ التي اتكأ فيها على الموروث التاريخي، ووظفه توظيفاً رمزياً بارعاً يمتزج فيه المُعاصر بالموروث، والماضي بالحاضر امتزاجاً فنيا رائعا. وقد اختار الشاعر لحظة من أكثر لحظات موروثنا التاريخي إشراقاً ونصاعةً، لتكون هي محور البناء الفني في القصيدة، وهي معركة المنصورة، التي حقق فيها الجيش المصري الأيوبي المسلم بقيادة الملك الصالح أيوب ـ ثم زوجته شجر الدر وابنه تورانشاه من بعده ـ نصراً حاسماً على الجيوش الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، حيثُ عادت هذه الجيوش تجر أذيال الخيبة والهزيمة بعد أن تكبّدت أفدح الخسائر، وبعد أن أُسِر قائدُها لويس نفسُه. وقد استغل الشاعر المعطيات التراثية لهذه اللحظة بمهارة فنية واضحة، واستطاع أن يُوحِّد بينها وبين معطيات الواقع المُعاصر في رؤية شعرية شديدة الشفافية والعمق والبراعة، ولا يكتفي الشاعر بمعطيات هذه اللحظة فيرفدها بمعطيات تُراثية أخرى تزيد من نصاعتها وإشراقها:
«هذي "شجرُ الدُّرَّ" فكمْ يشتاقُ الصَّالحُ للضَّمَّةِ ! ، هذي قِطَعُ الليلِ القادمِ منْ دِمياطَ ، العابرِ لُجَجَ المتوسِّطِ لمْ تُرْهِبْنا ، لمْ نتبدَّلْ في النَّقْعِ (وكانتْ حين التحمَ الجيشانِ كسَدٍّ عاتٍ يحمينا منْ أسيافِ الأعداءِ ، وكانتْ تلثُمُ هذا الجمعَ المتشرنِقَ في الليلِ ، الباحثَ عنْ نورِ الفجْرِ) وأرضُ الباحةِ تمتلئُ بخيْلٍ يصْهلُ ، وبصُلبانٍ ، ونواقيسَ . ومئذنةُ الفجْرِ أراها تصرخُ في أعماقِ الجمعِ : صموداً . يُشرقُ خالدُ وابنُ الخطابِ وسعدٌ في الظُّلمَةِ أقماراً ، هذا وعْدُ اللهِ لنا ، لمْ يكتُبْ في اللوْحِ الباقي ـ للأبناءِ البررةِ ـ غيْرَ النصرِ ، فهاتي حضنيْكَ ، وهذي "المنصورةُ" تصبرُ وتقاتِلُ ، تنفضُ عنْ كتِفيْها ذُلَّ العُمْرِ ودَهْرَ السُّخْرَهْ ! »
ولا يقف استرفاد الشاعر للتراث عند حدود تراثنا القديم ـ بمصادره المتعددة ـ وإنما يتجاوز ذلك إلى تراثنا الأدبي المعاصر، فيستمد منه رموزاً تلائم طبيعة الرؤية التي يُجسدها، فمثلاً في قصيدة «ثلاثة أصوات ترسم النهاية» التي يُهديها إلى سر بدر شاكر السياب ـ تُصبح معطيات حياة السياب ومُعطيات شعره أدوات فنية في يد الشاعر، ورموزاً يُسقط عليها أشدَّ أبعاد رؤيته خصوصية وذاتية. وهكذا تتحول «إقبال» ـ زوجة السياب ـ و«بويب» ـ نهر جيكور الذي طالما غنّى له السياب ـ و«البصرة» ـ بلد الشاعر ـ و«لندن» ـ التي قضى فيها الشاعر مرحلة مرضه، و«الأقنان» ـ الذين كتب عنهم السياب أحد دواوينه «منزل الأقنان» ـ هكذا تتحوّل كل هذه المعطيات إلى رموز ووسائل إيحاء تمتزج برموز الشاعر الخاصة، وتتحد كل هذه الرموز بأبعاد رؤية الشاعر الذاتية في هذه القصيدة:
«إني أحمل في القلب حكايا وتراتيل
وباقة أشعارٍ خضراءْ
وتغريدةَ عصفورٍ،
أُطلقُها في أفيائكِ يا "لندنُ"
حتى تسكبَ موسيقاها
في شريان الشجرةِ "إقبالَ"
ويهدرُ قلبٌ أخضرُ:
عادَ يُغنِّي، يمشي مرفوعَ الهامةِ
يطرقُ أبوابَ الفجرِ
ويجلسُ مع أصحاب صباه مساءً
قُدّامَ الدارِ،
وأنت "بُويبُ" حزينُ، قل لي:
لمَ لا تُثمرُ أشجارُ حدائقِكَ اليابسةِ
لماذا لا ينطلقُ العصفورُ بنارِ الوصْلِ
ويحرقُ تذكاراتِ (الأقنانِ) التعسةِ والحلوهْ؟»
وهو يصنع نفس الصنيع في قصيدته «السمان والخريف» التي يستمد أدواتها من رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، فالرمز الأساسي في القصيدة هو «عيسى الدباغ» بطل رواية نجيب محفوظ.
بل إن الشاعر يقوم في مجال استرفاد التراث الأدبي المعاصر بتجربة جريئة، حيثُ يُضمِّن بعض قصائده مقاطع كاملة من شعر أصدقائه من الشعراء العرب الشبان المُعاصرين، كما فعل مثلاً في المقطع الأخير من قصيدة «سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق»، وهو المقطع الذي يحمل عنوان «طائر الخرافة»، فقد ضمّن الشاعر هذا المقطعَ مقطعاً كاملاً من شعر الشاعر الأردني عبد الله الشحام:
«قالَ صديقي عبدُ اللهِ الشَّحّامُ قديماً
"فليحصُلْ ما يحْصُلْ
ولتُصبِحْ مأساتي صلصلةً وأزيزا
ولتُصبِحْ أُقصوصةُ حبي مَحْرَقَةً وخريفا
ولتنْدكَّ قلاعُ الكَفَرَهْ!
ولْيحْصُلْ غزْوٌ ما
هذا .. هذا
شاهدْتُ العالَمَ كالقائمِ
والمنكوبَ صليباً وغماما
شاهدْتُ الدُّنيا بالمقلوبِ
وشاهدْتُ البحْرَ على الشاطِئِ
يحملُ سيفاً ورصاصاً، ويُعيدُ عيوني»
ويُعلِّق شاعرنا في قصيدته على هذا المقطع بقوله:
«وكأنَ صديقي عبدَاللهْ
كانَ يُطالِعُ في اللوحِ المحفوظِ
فقالَ، وعاشَ، وشاهدَ ما أُبصرُهُ الآنَ»
وكأنما يُقدم التبرير الفني للجوئه إلى هذا التكنيك الشعري البارع، وهو وحدة الرؤية، ووحدة المُعاناة.
ولكن إذا كان الشاعر قد حقق هذا النجاح الكبير في استرفاده لموروثه العربي والإسلامي ـ القديم والمُعاصر ـ فإنه لم يكن على نفس هذا القدر من التوفيق عندما حاول أن يسترفد بعض التراثات الأجنبية، كالتراث الإغريقي مثلاً، حيث تبدو هذه التراثات غريبة على نسيج رؤيته الشعرية وطبيعة أدواته الفنية، ويبدو استخدامه لهذه الموروثات مجرد مجاراة لتيار اللجوء إلى التراثات الأجنبية، دون أن يكون في طبيعة الرؤية الشعرية ما يقتضي هذا اللجوء أو يبرره .. فضلاً عن أن هذه التراثات تظل غريبة على وجدان المتلقي العربي وذوقه، وهذا واضح في مقطع «مشهد الموت والميلاد» من قصيدة «شجرة الحلم» الذي اعتمد فيه الشاعر اعتماداً أساسيا على معطيات أسطورة «أوديب» الإغريقية، وقتله لأبيه «أيوس» ـ دون أن يعرف أنه أبوه ـ وزواجه من أمه «جوكاسته» ـ دون أن يعرف أنها أمه ـوقد فقأ عينيه وقتلت أمه نفسها بعد اكتشاف الحقيقة .. فعلى الرغم من أن الشاعر نجح في أن يُحمِّل هذه المعطيات بعض رؤيته العامة في القصيدة فإن هذه المعطيات تظل ـ رغم ذلك ـ غريبة على النسيج العام للرؤية الشعرية .. وطبيعة الأدوات الأخرى المستخدمة في تجسيدها.
*
أما بالنسبة للموسيقا في الديوان، فيستلفت النظر فيها ظاهرتان:
الأولى: أن الشاعر استخدم وزناً واحداً في معظم قصائد الديوان؛ فجاءت قصائد المجموعة باستثناء عدد قليل منها من «بحر الخبب» الذي هو أحد صيغ «بحر المتدارك»، ووحدة إيقاع هذا البحر «فعلن»، وموسيقى هذا البحر على قدر كبير من الاضطراب بطبيعتها وقريبة من النثرية والركاكة الموسيقية، ولكن شاعرنا نجح في إن ينأى بإيقاعه الموسيقي ـ إلا في مواضع قليلة ـ من هذه الركاكة الموسيقية التي هي سمة طبيعية من سمات هذا الوزن.
أما الظاهرة الثانية فهي استخدام الشاعر لأسلوب «التدوير» استخداماً بارعاً في هذه المجموعة. و«التدوير» ظاهرة أخرى شاعت في نتاج الشعر الحر شيوعاً لافتاً للنظر .. بحيث أصبح استخدام معظم الشعراء له لوناً من التقليد والمُجاراة للآخرين دون أن يكون في طبيعة الرؤية ما يُبرر استخدام هذا الأسلوب .. فضلاً عن أن الاستخدام غير الواعي لهذا الأسلوب يُضاعف من ظهور النثرية والركاكة الموسيقية في معظم نماذج الشعراء الشباب، ولكن شاعرنا واحد من الشعراء الشباب القليلين الذين ينجحون ـ في معظم الأحيان ـ في السيطرة على هذا الأسلوب وتجاوز مزالقه، خاصة وأن رؤيته في هذه المجموعة فيها من التدفق والاطراد ما يُلائم هذا الأسلوب الموسيقي .. وإن كان الشاعر لم يسلم تماماً من الوقوع في مزالق النثرية وعدم الانضباط التي يقود إليها استخدام هذا الأسلوب.
وقد وضع الشاعر بعض الضوابط الموسيقية الفنية على تدفق هذا الأسلوب غير المنضبط، بأنه كان يلجأ إلى عدد من القوافي تكون بمثابة محطات، يتوقف عندها تدفق الإيقاع، ويستريح معه القارئ، فكانت بعض القصائد تتكوّن من مجموعة أبيات طويلة مدوّرة موحدة القافية. والنموذج على ذلك قصيدته «الأميرة تنتصر» التي تتألّف من ثمانية أبيات مدوّرة طويلة، يصل طول بعضها إلى ما يقرب من مائة تفعيلة، وكل هذه الأبيات مبنية على قافية موحّدة، حيث تتوالى قوافي الأبيات الثمانية على النحو التالي: «البررة. المندحرة. الوعرة. الشجرة. المستعرة. الدرة. السخرة. السترة».
وفي القصائد التي تتألّف من مقاطع منفصلة كان الشاعر يبني كل مقطع من مجموعة من الأبيات المدورة الموحدة القافية، ويغيِّر القافية من مقطع إلى آخر.
كما كان الشاعر يلجأ في بعض القصائد إلى استخدام أبيات قصيرة غير مدورة، إذا كان في طبيعة الرؤيا ما يقتضي ذلك، كما في قصيدة "نهر الغضب" وهي مرثية كتبها للشاعر نجيب سرور .. شاعر الثورة والغضب، ففي هذه القصيدة يستخدم الشاعر ـ إلى جانب الأبيات الطويلة المدورة ـ أبياتاً قصيرة غير مدورة، فحين تهدر رؤيته بالغضب والثورة يتدفّق الإيقاع هادراً في أبيات مدورة، على قدر واضح من الطول والتدفق، أما حين يطغى عليه الحزن فإن الأبيات تقصر، وتأخذ صورة الندب شكلاً وإيقاعاً، كما في المقطعين الثاني والثالث اللذين يندب فيهما الشاعر نجيباً:
2
*لكنَّ نجيباً غابْ
*والفجرُ الأخضرُ كنتُ أراهُ على الأبوابْ
3
*منْ قتَلَ نجيبْ ؟
*والليلُ كئيبْ ؟
وهذان المقطعان يتوسطان مقطعين آخرين يتألف كل منهما من بيتين طويلين مدوّرين، يتدفقان بالغضب، ويبلغ طول بعض الأبيات المدورة أكثر من ثلاثين تفعيلة، كما في البيت الأول من المقطع الأول، الذي يقول فيه الشاعر:
*نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ أراهُ يفورُ، ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ، ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ، اندفعتْ منْ شرنقةِ الليلِ نساءُ الفجْرِ، هتفْنَ بصوتِ الغضبِ الثورةِ: هذا النهرُ عنيدْ
هكذا يُسيطر الشاعر على أدواته، وهكذا تُصبح الموسيقى وسيلة إيحاء وتعبير وليست مجرد إطار نغمي عام، وإنما هي كالصورة، والرمز واللغة تتشكل بشكل الرؤية الشعرية وتُجسدها.
وبعد؛
فأرجو أن تكون هذه القراءة النقدية لمجموعة الصديق الأستاذ حسين علي محمد إسهاماً متواضعاً في إلقاء بعض الضوء على جهود شعرائنا الشباب، ومحاولتهم النبيلة تحدي كل عوامل الإحباط واليأس التي تُطالعهم من كل أرجاء الواقع المُحيط بهم ..
كما أرجو أن تكون تحية مخلصة للشاعر، وكل الذين يشاركونه محاولة الاحتفاظ للكلمة الشعرية بنصاعتها وتألقها من ذوي الأحلام النبيلة المُناضلة.
علي عشري زايد
</i>