(19) قراءة تحليلية في قصيدة «رحيل الظلال»

للشاعر حسين علي محمد



بقلم: سعيد عاشور

...............

أ-النص:
رحيل الظلال
(قصيدة إلى مفتتح عام 2003م)
شعر: د. حسين علي محمد

الظلالُ التي أدمنتْ حبَّنا / هجرنا ..
ـ هكذا قالت الريحُ في سِفرِها ـ
تخدعُ الروحَ، توعدنا بالهلاكِ،
فهل ترحلُ الآن ـ قبل رحيل الظلالِ ـ خُطى القافِلةْ؟
قالتْ الآنَ هذي الظلالُ التعيسةُ:
هذا أوانُ الرحيلِ،
سأترك وقْعَ خطاك على الصَّخْرِ،
كمْ قادني البوحُ نحو الفراغ الذي يجتليه الربيعُ ،
العنادلُ في هدأةِ الوقت تحرسُ تلك الأغاني
.. التي لم تمتْ في صقيع ِ المجرات، في الهدأةِ القاتِلةْ
للحقيقةِ قال حداءُ القوافلِ فجراً،
لتلك التلال الصديقة :
أنتِ نصوصي التي فاوضتني الجبالُ على طهرها،
أنتِ لنْ تسقطي تحت أرجلِ هذا الشتاءِ الكسولِ،
تعاليْ ..
لقد سرق اللصُّ ما وفرتهُ النمالُ،
وذي جوقةٌ للِّصوص تُغنيكِ: هيا لنهربْ ..
هيا لنأخذ كعكتنا في الشتاء المواتي و نهربُ ..
ـ لن نركب الرحلة الآفلة
سنبقى هنا، نتحاورُ،،،
ويْ .. يا لتلكَ النسورِ المهيضةِ ..
....!!
والأرضُ لن تترك الأُسْدَ تبكي
بتلك الفؤوس التي تفتح الآن بطن السهول ليظهر هذا النخيلُ المقاتلُ
نحضنُ ظلَّ الضحى في السنابلِ،
نرقبُ عشقَ الجداولِ،
... كمْ ناغتِ القريةَ الغافلة
ولن يعبر الوحشُ في نومةِ العاشقِ المستكينِ على جثةِ النخْلِ
لن يمتطي صهوةِ الريحِ في أفقنا ..
كيفَ يأخذُ فيضَ البداياتِ،
لا نرتجي أن يكونَ الرحيلُ رفيقاً لنا
سنتركه فوق هذا الرصيفِ المخاتلِ
يبكي على الوعْدِ، والسابلةْ
هنا،
يتعفن هذا الفراغُ الذي حاصرَ الوقتَ ..
أُسكتهُ بالحياةِ التي تتحدّى الحصارَ،
وتقتلُُ في فزعةِ الروحِ: ليل العذابِ
/ النهاياتِ
/ صوتاً له ملمحُ الرَّعدِ ..
أوْ هجمةَ القنبلةْ.
الرياض 5/1/2002م
................
ب-القراءة:
يقول الشاعر
(الظلالُ الَّتي أدمنت حُبَّنا/ هجرنا )
فلننظر للمفردة الأولى (الظلال)، الظلال: جمع ظل، يعني ظلالاً كثيرة، فـ(الظلالُ ) تعني الأماكن، و(الظلال) قد تكون ظلال الأشجارِ، أو ظلال الحوائط الأسقفِ و..و..و... مما يعني في النهاية أنها هي ظلال الوطن أو الأوطان.
وكل هذي الظلال عاشرتنا وأحبتنا؛ أحبتنا في حبنا، وأحبتنا في هجرنا حتى أدمنت هذا الحب وأصبحت لا تستطيع أن تهجرنا، ولا نحنُ نستطيع أن نهجرها ولو فقدنا أنفسنا وأرواحنا وكل ما نملك!
فماذا يُريد الشاعر أن يقول حتى خرج علينا بهذا المفتتح لِأن البيت الذي سوف يأتي بعد هذا البيت يقولُ فيهِ:
( هكذا قالت الريحُ في سفرها) ولو نظرنا في هذا البيت سنجد فعلاً وفاعلاً: الفعل (قال) فعل ماضٍِ والتاء تاء التأنيث، أما الفاعل هُنا فهي (الريح). ولماذا قال الشاعرُ (الريحَ) ولم يقل (الرياح) إشارةٌ إلى قول النبي صلى الله عليهِ وسلم : ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) لِأن الريحَ تحملُ من الشرِ أكثرُ من الخيرِ (ريحٌ صرصرٌ) قرآن كريم) هُنا يرى الشاعر مالا يراهُ الآخرون لِأن الشاعرَ تنبأ بأنَ هُناك ريحٌ سوف تأتي إلينا تحملُ شراً لِأنها تخدعُ الروحَ، وتوعدنا بالهلاك، وتهددنا بالرحيلِ، وليسَ برحيلنا وحدنا، بل: الظلال كذلك سوف ترحل هي الأُخرى.
يقول الشاعر
(هكذا قالت الريحُ في سفرها)
( تخدعُ الروحَ ، توعدنا بالهلاك)
ثمَ تقول الريحُ
(فهل ترحلُ الآنَ ـ قبلَ رحيل الظلال ـ خُطى القافلة)
ثمَ يأتي البيت الذي يلي ذلكَ:
(قالت الآنَ هذي الظلالُ التعيسة )
(هذا أوان الرحيل )
قالت، مَن هيَ التي قالت؟ مازال الكلامُ للريحِ، لِأنَ هذي الريحُ العاتية هي التي تقولُ بل تأمر ثم تصف الظلال التي عشقتنا وأدمنت حبها لنا بأنَّها ظلالٌ تعيسة، بل تأمرها بالرحيلِ، وتأمرنا نحنُ أيضاً بالرحيلِ لِأنها تقولُ:
(فهل ترحلُ الآن قبل رحيل الظلالِ
ثمَ ينقلنا الشاعرُ نقلة أُخرى : فيقول:
( كم قادني البوحُ نحو الفراغ الذي يجتليهِ الربيعُ)
ولننظر هذا البيت: كم يعني مراتٍ كثيرة، ولننظر هُنا لياء المتكلم في قادني ومَن هو القائد : القائد هُنا هو البوح وماذا يُريد أن يبوح : البوح ليسَ في هذا البيت (البوح) في البيت الذي يلي هذا يقولُ الشاعر (العنادلُ في هدأةِ الوقت تحرسُ تلكَ الأغاني)
كأنما أرادَ أن يقولَ إنَ الطيورَ هيَ التي سوف تحرسُ ما تركناهُ من تراثٍ لِأننا أصبحنا عاجزينَ عن هذا، وأصبحنا عاجزينَ تماماً أمام هذهِ الريح العاتية: لأنَ ما تركناهُ من تراثٍ مرتْ عليهِ هجماتٍ كثيرة قبل ذلكَ من خلال البيت التالي يعني تلكَ الأغاني :
(التي لم تمت في صقيع المجرات في الهدأةِ القاتلة)
الهدأة تعني الأوقات التي مرتْ على هذهِ الأماكن التعيسة، وهي تلك الأُوقات العصيبة التي حاول فيها المستعمرونَ إذلالنا، ولكن كُنا نقاوم. أما الآن فنحنُ عاجزونَ وما دمنا عاجزينَ فسوف نترك هذا التراثُ للعنادلِ، وهي التي سوف تحرسهُ، وهذا دليلٌ على عجزنا واستسلامنا .
يقولُ الشاعرُ بعد ذلكَ :
(للحقيقةِ قالَ حداءُ القوافلِ فجراً لتلك التلال الصديقةُ)
هُنا (قالَ)، فمَن هو هذا القائلُ؟ إنه حدُاء القوافل، أي غناء القوافل. ولا بد أن يكون الغناء في هذه الساحة حزيناً! فمن يقصد بالحداء؟ ومَن هو؟ إن الحداءَ هنا هو ذات الشاعر، أو نفسهُ،. لقد أخرجَ الشاعرُ ذاتهُ وجعلها تتحدثَ مع تلك التلال الصديقة : التلال التي اعتادَ عليها ولم يتصورَ أنَّهُ سوف يتركها ولو دفنَ فيها يقولُ لها أنتِ نصوصي أنتِ تراثي الذي لا أفرط فيهِ أبداً :
(أنتِ نصوصي التي فاوضتني الجبالُ على طهرها) (أنتِ لن تسقطي تحت أرجلِ هذا الشتاء الكسول).
ثم تأتي مفردةٌ في سطر وحدَها، مفردة نداء: (تعالي). ولنتتبع هذا المشهد الدرامي الذي سوف يحدث من خلال هذهِ المفردة (تعالي) مَن يُنادي على مَن ذات الشاعر أو نفسه؟ تنادي على تلك التلالُ : التلالُ الصديقة التي راودتها الجبالُ على طهرها : تُنادي عليها (تعالي) أسرعي ماذا وراءَك أسرعي كي أخبركِ.
التلالُ: ماذا تُريدين وعم تُخبرين؟
ـ (لقد سرقَ اللصُّ ما وفرتهُ النِّمالُ )
ـ أي لِصٍ تقصدين؟
ـ اللِّصُّ صاحبَ الريح العاتية التي هددتنا بالرحيل نحنُ والظلال!
ـ وأي نمالٍ تقصدين؟
ـ النمال التي كنا نحسب أنَّها ديناصورات وما علمنا أنَّها نمالٌ إلا بعد ما أتى اللصُّ صاحب الريح العاتية الذي ضرب ودمرَ ولم يستطيع أحدٌ الوقوف في وجههِ.
ولنتتبع استكمال المشهد عندما يعتري النفس الإنسانية الوهن والخمول تُريد الهرب ولكن في ظل شيءٍ تحتمي فيهِ فتخاطب التلال تقول
(وذي جوقة للصوصِ تُغنيكِ: هيا لنهرب
هيا لِنأخذ كعكتنا في الشتاءِ المواتي ونهرب)
فتأبىَ التلالُ الأبيةُ ما تعرضهُ عليها النفس وتقول (لن نركب الرحلة الآفلة سنبقى هُنا نتحاورَ ،،، وي..يا لتلكَ النسورِ المهيضة والأرضُ لن تتركَ الأُسدَ تبكي.
ثمَ تُشيرُ إلى الفؤوس وكأنها تقولُ (بتلك الفؤوس التي تفتحُ الآنَ بطن السهولِ لِيظهر هذا النخيلُ المقاتل نحضنُ ظلَّ الضحى في السنابل نرقبُ عشقَ الجداول ولن يعبرَ الوحشُ في نومةِ العاشقِ المستكين على جثةِ النخلِ لن يمتطي صهوةِ الريح في أُفقنا ...كيفَ يأخذ فيضَ البدايات، لا نرتجي أن يكونَ الرحيلُ رفيقاً لنا سنتركهُ فوقَ هذا الرصيفِ المخاتل يبكي على الوعد ، والسابلة. : هُنا، يتعفن هذا الفراغُ الذي حاصرَ الوقتَ .. أسكتهُ بالحياةِ التي تتحدى الحصار وتقتلُ في فزعةِ الروحِ:ليل العذاب) ثمَ أنهت كلامها بهذا المقطع الرائع (النهاياتِ: صوتاً لهُ ملمحُ الرَّعدِ أو هجمة القنبلة) .
هكذا يجب أن تكون الجملة الشعرية أو السطر الشعري. أن تكون الجملة فيها حياة وحركة من خلال الصورة مع الصوت مع الخيال لِإجادة الدهشة والحركة. وسوف يظهر الصدق الفني في النص، فتصبح الجملة فيها حركة غير عادية كمثل خلية النَّحل فتجد المفردة التي تتساوى مع الملكة الأُم التي سوف نطلق عليها اسم المفردة الملكة، أما باقي المفردات فسوف نطلق عليها المفردةَ الشغالة التي تأتي بالرحيق من الزهور والتي تعملُ على حماية الخلية والتي تصنع الغذاء للملكة الأم فتقوم كل مفردة بما طلب منها تحت نظامٍ دقيق يتساوى فيهِ الجميع.
وسنضربُ مثالاً على ذلكَ من خلال بعض الجمل الشعرية... ، ومنها: (الظلالُ )التي أدمنت حبَّنا / هجرنا، و هكذا قالت ( الريحُ ) في سفرها ، كم ( قادني البوحُ )نحو الفراغ الذي يجتليهِ الربيع، و( تعالي )، لقد سرقَ اللصُ ما وفرتهُ ( النِّمال )، و( تلكَ الفؤوس ) التي تفتحُ الآن بطن السهول ليظهر (هذا النخيل المقاتل )، و( ملمحُ الرعد ) ( أو هجمةِ القنبلة ) ... وغيرها.
وهذا على سبيل المثال وليس الحصر .