وحشية الأمن.. وثقافة الخوف!!

بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
.................................

تساءلتُ في مقالٍ سابقٍ عن التوحشِ الأمني الذي تجاوز السجونَ إلى المجتمع.. إلى أين؟ ولا شك أنَّ هذا التوحش إستراتيجية ثابتة ومستمرة في النظامِ البوليسي الفاشي، وقد بدأ مع أواخر عهد السادات، حين تسلَّم هذه الإستراتيجية من النظامِ العسكري الذي بدأ في يوليه 1952م، الذي تسلمها بدوره من "كونستابلات" الإنجليز؛ الذين كانوا يرون الإنسان المصري، مجرد عبد ملعون، لا يُجدي معه غير السوط، والدعس بالأقدام، ثم إلقائه في أقرب حفرةٍ حين يكون جيفةً أو جثةً هامدةً تخلفت عن الجلدِ والتعذيب! وإن كان هؤلاء في وحشيتهم أكثر رحمةً من وحشيةِ الإنجليز السمر، الذين هم أبناء جلدتنا، وتجري فيهم دماؤنا!
وهناك رأي وجيه يُشير إلى ما يُسمَّى بثقافةِ الخوف نبهني إليه الأستاذ حسين راشد، وهي الثقافة التي تربَّى عليها الشعبُ المصري منذ الفراعنةِ الذين حكموا البلدَ بالحديدِ والنار، انطلاقًا من كون الفرعون "ربكم الأعلى" الذي "لا يُسأل عمَّا يفعل"، والذي يدين له البشر والحجر بالولاءِ والطاعةِ العمياء، حتى لو تحوَّل إلى جلادٍ كبير، ولصٍّ أكبر، وخائن أعظم.. وهذه الثقافة تُشجِّع الجلادين الوطنيين على الاستمرارِ في وحشيتهم وهمجيتهم دون خوفٍ من المساءلةِ أو العقابِ.
ولا ريبَ أن ثقافةَ الخوف ترسبت عبرَ آلاف السنين؛ فمن يغضب عليه الفرعون، يغضب عليه الكهنة والجلادون والخدامون والشماشرجية ومَن يُقبِّلون الأعتاب، مما يعني أن الخوف يهبط إلى القلوبِ والنفوس، ويسكنها ولا يبرحها مهما كان صاحبها يملك الحقَّ والصواب والصدق، والفرعون وأشباهه في الرتب الأدنى لا يكتفون بالغضب؛ ولكنهم يُنزلون بالمغضوبِ عليهم أبشع أنواع العقاب؛ أهونها المحاربة في الرزق، وأهمها العقاب البدني الذي ينال من الكرامة والإنسانية والشعور، ويتمثل في الإذلالِ والتعذيب حتى الموت! ومن ثم نشأت ثقافة الخوف التي أنشأت أدبيات خاصة بها: "النفاق, الاستسلام، المشي بجوار الحائط، مَن يتزوج أمنًا نقول له يا عم، داريني يا حيطة، ابعد عن الشر وغني له، إذا لقيت البلد تعبد العجل حش وارم له، وأنا مالي...إلخ".
الأمن في بلادنا قسمان: أمن النظام، وأمن الشعب. الأول هو الأهم، ترصد له الميزانيات، ويُؤتى له بالكفاءاتِ وفقًا لمفهوم الحكام، ويجند له الحراس من كلِّ حدب وصوب، الآخر هو الأهون، لأنه لا يعني الحكام، ولا يشغل بالهم.
أمن النظام، يعني أن تستقر الكراسي، وأن يسود الهدوء، وأن يعم الصمت، يجب على الشعب وخاصةً النخب التي يعنيها أمره من مثقفين ومتعلمين ومهنيين وخبراء ونقابيين وعلماء وباحثين وناشطين، أن يكون في ذهنه دائمًا؛ فكرة البعد عن الحكم والحكام، اللهم إلا بمقدار الولاء والطاعة المطلقة والتصفيق في كل الأحوال، وإلا.. فمَن يخالف يعرف المصير الذي ينتظره!!
لذا فالأمن الخاص بالنظام يعرف كل صغيرةٍ وكبيرةٍ عن المعارضين، أو مَن لا يعلنون الولاء.. كل منهم له ملف، واسمه على الكمبيوتر الشهير أمامه: مطلوب فورًا، أو مطلوب "لاحق".. وأجهزة الأمن تتابعه في بيته وعمله، ولدى أصحابه ومعارفه، ومَن يتعامل معهم، وتعرف ماذا يحمل بريده، وماذا يقول في هاتفه.. وعند اللزوم تأخذه إلى حيث لا ينفع مال ولا بنون، وتستبيح أن تفعل معه كل شيء في زنزانته أو خارجها، ولو أدَّى إلى موته تعذيبًا وقهرًا, ومَن يبقى على قيدِ الحياة فمصيره مجهول، مثل عشرات الآلاف الذين تغص بهم سجون المحروسة ومعتقلاتها من وادي النطرون ودمنهور إلى الوادي الجديد وطره!
لو قلبت الصورة على الوجهِ الآخر لترى أمن الشعب، ستجد عجبًا.. السرقات، الاختلاسات، غسيل الأموال، احتكار الأقوات، المخدرات، الدعارة، البلطجة، القتل، على عينك يا تاجر، والجناة لا يعبأون بحكومةٍ أو سلطةٍ أو شرطة، مَن يطبق عليه القانون منهم؛ قلة قليلة سيئة الحظ، أما الأغلبية من المجرمين، فهم يخرجون مثل الشعرةِ من العجين.. الرشوة والوساطة والمحسوبية والقسمة، كفيلة بإخراج أعتى المجرمين من محبسه، وتوفير الحماية له، ومعاملته لو دخل السجن معاملة اللوردات.. السجين الجنائي لا يُعذب ولا يُهان ولا يُذل, كرامته محفوظة بمقدار سخائه وعلاقاته.. عكس السجين السياسي، أو صاحب الضمير!
في برنامجٍ تُقدمه مذيعة متحررة، استضافت فيه مجموعة من "بنات الليل"- أي العاهرات- ليحكين تجاربهن وقصصهن، قالت العاهرات في مقتطفاتٍ من البرنامج الذي لم يُذع حتى كتابة هذه السطور: إنهن يمارسن الرذيلةَ في حماية البوليس، أي رجال الأمن!! والشهادة تُذاع يوميًا على أكثر من قناةٍ من خلال القمرِ المصري الذي تملكه الحكومة المصرية، واسمه "نايل سات"، أي بالعربي الفصيح "قمر النيل"، ومع ذلك لم تنفِ وزارة الداخلية ما قالته العاهرات، ولم تكذبه، ولم تقل إنه حالة استثنائية! حتى إذا قالت، فالناس يعلمون أن رجل الأمن الجنائي، وخاصةً الجندي مسكين وحاله لا تسر، ولديه قابلية لعمل أي شيء، نظير أي شيء، في المرور، في المحكمة، في النيابة، في القسم، في المركز، في النقطة، في الجوازات، في الموانئ، في المطارات، في السكة الحديد، في السجن، في الترحيل.. إلا ما يتعلق بسجناء الضمير ومعتقليهم.. أي المعارضين، الذين يتكفل بهم أمن النظام، فهم أشد خطرًا من اليهود الغزاة، والجواسيس الأجانب، فضلاً عن عتاةِ المجرمين الجنائيين!!
في إحدى المحافظاتِ المجاورة للقاهرة جنَّد تجارُ المخدرات رئيس مكتب المخدرات ورجاله لحمايتهم حتى يشتروا ويبيعوا، دون خوفٍ أو ملاحقةٍ أو مساءلة، ونشرت صحف السلطة تفاصيل القضية.. أرأيتم أمن الشعب ورجاله؟!
أمن النظام أكد ثقافة الخوف وزرعها- كما قلت- في القلوبِ والنفوس؛ لأنه يتعامل دون رحمةٍ مع الجميع متهمين وأبرياء، فالقاعدة لديه أن المصري متهم حتى تثبت براءته، وحتى ذلك الحين فكل شيء مباح: الكلاب البوليسية المتوحشة، الصعق بالكهرباء، نتف الشعر من الذقونِ والأماكن الحساسة، التعليق كالذبيحة، فضلاً عن الضربِ والسب والإهانة والإذلال (اقرأ على سبيل المثال رواية: رحلة إلى الله لنجيب الكيلاني- وقد وثَّق الشيوعيون المصريون ما جرى لهم من تعذيبٍ في كتبٍ عديدةٍ تكشف وحشية أمن النظام في عهوده المتعاقبة).
ولكن هل يستسلم الناس لثقافةِ الخوف؟ كلا.. فمع قسوةِ الحياة وصعوبتها؛ غلاء وبطالة وزحامًا وانهيارًا في شتى جوانب المجتمع؛ فإن مقاومةَ الخوف والتعذيب ممكنة، إنَّ جمعيات حقوق الإنسان المحلية والعالمية، والنقابات المهنية والصحافة الحرة والإعلام النزيه والمبادرات الشخصية من المظلومين الذين انتهكت حقوقهم وكرامتهم، يمكن لهؤلاء وغيرهم أن يقاوموا وأن يفضحوا الجلادين المتوحشين، وأن يؤلبوا الرأي العام المحلي والدولي ضد المجرمين الطغاة، وأن يطاردوهم في كل مكان.. إن دماء الأبرياء الأطهار وكرامة المجاهدين الشرفاء يجب ألا تضيع هدرًا في ظل ثقافةِ الخوف.
إنَّ هؤلاء الوحوش يصرخون عندما يقوم بعض الضحايا بالردِّ العنيف، ويتنادون على مكافحةِ الإرهاب وملاحقته، ويتناسون ما اقترفت أياديهم الملطخة بالدماء والجريمة، وهو ما ينبغي أن يذكرهم به الشعب كله في المحاكم وعلى موجاتِ الأثير وصفحات الصحف وشاشات التلفزة، وتسقط ثقافة الخوف.. من أجل حياة حرة كريمة وعادلة.


</i>