التوحش الأمنى .. إلى أين ؟
بقلم: أ.د. حلمى محمد القاعود
................................
هل سياسة العنف التى يتبعها البوليس المصرى تأتى فى سياق ظاهرة عابرة أو مؤقتة .. أم تمثل استراتيجية ثابتة ودائمة ؟ دعونا أولاً نقرأ هذه القصة بما فيها من مفارقات تضىء لنا الإجابة على هذا السؤال ..
شيخ الخفر حمدان قريبى ، وكتبت عنه من قبل ، وهو يتصور أنه يحكم القرية التى ننتمى إليها ونعيش فيها ، ويرى أن من واجبه أن يتمم على كل شبر فيها ، ويعلم كل خبر عن أهلها ، ويسرع بإبلاغ ما يعرفه إلى العمدة ، وإن لم يجده فإنه يتصل بالمركز ، ولكى يثبت أهميته وجديته وولاءه ، فإنه عادة يلجأ إلى التهويل الذى يثير الهلع فى القلوب والنفوس ، ويستفز السكون ، ويحرك الكسل والخمول !
كان هناك شيخ طيب ، وإمام مشهور فى مدينة المحلة الكبرى يأتى سنويا ليزور مدينة دسوق حيث مقام الولى الشهير " إبراهيم الدسوقى " ؛ فيصلى الظهر أو العصر ثم ينتقل إلى قريتنا حيث مقام والده " عبدالعزيز أبى المجد " ، فيؤدى الفريضة التالية ، ويبذل الصدقات على الفقراء والمحتاجين هنا وهناك ، كان يصحبه فى زوراته التى بدأت منذ ثلاثة عقود أو أكثر بعض محبيه من كبار تجار المحلة وغيرهم فى سيارات فاخرة ، ويفعلون مثلما يفعل ، ويوجههم أحياناً لاستكمال مشروع خيري فى هذا المسجد أو ذاك .
فى آخر زورة للشيخ الطيب قبل عشرة أعوام تقريباً بدا له أن يحمل كيسا يُشبه " الجوال " مليئاً بأوراق المصاحف المتهرئة ؛ والكتب المستهلكة التى عدا عليها الزمان ، ورأى أن أنسب مكان للتخلص منها حتى لا يدوس عليها أحد أو ينال من قدسيتها أحد ، هو نهر النيل الذى يفصل بين دسوق وقريتنا ، وبوساطة مركب صيد صغير قذف الجوال وسط النهر . كان الوقت عصراً ، ورأى الناس ما فعله الشيخ الطيب الذي عاد لينتظر الصلاة .. ولكن شيخ الخفر حمدان علم بالأمر ، ويا ويل الشيخ ومن معه ، من حمدان الذى كان متأثراً بأحداث العنف بين السلطة والجماعات آنئذ .. فقد جرى حمدان واتجه إلى رؤسائه ، وأبلغ أن الإرهابيين كانوا يرمون سلاحاً فى ماء النيل وأنه تم القبض عليهم واحتجازهم بمركز شباب القرية !
قامت الدنيا ولم تقعد ، وبسرعة البرق كانت لوريات الأمن المركزى وسيارات الشرطة والأجهزة الأمنية والإدارية ،تسد عين الشمس؛ وانقلبت الدنيا فى قريتنا الوادعة .. وتم استدعاء الضفادع البشرية ، وامتلأ نهر النيل باللنشات التى تحمل خفر السواحل ، وجرى مسح لقاع النهر ، لم يُسفر عن شىء !!
كان الشيخ ومن معه قد تعرضوا لاستجوابات ومساءلات ، وما أدراك ما الاستجوابات والمساءلات التى ظلت حتى اقترب منتصف الليل ، وبعد اتصالات ومكالمات بين من يعرفون الشيخ من المسئولين وكبار رجال الأمن فى الغربية ، ونظرائهم فى البحيرة ، تم الإفراج عن الشيخ الطيب – رحمه الله – وصحبه ، وانسحبت الضفادع البشرية ولنشات السواحل ولوريات الأمن المركزى ، وسيارات الشرطة ورجال الأمن والإدارة !
شيخ الخفر حمدان ، يُقال إنه تلقى مكافأة على ما فعله ، لأنه دلل على يقظته وإخلاصه ووفائه للجهاز الأمنى .. ولم يسأل أحد نفسه ، هل هذه العقلية الأمنية تصلح لحماية البلاد والعباد ، وهى العقلية السائدة الثابتة منذ الاحتلال الإنجليزى حتى اليوم؟ !
بالتأكيد ، لم يسأل أحد ، ولن يسأل أحد ، لأنه منطق القوة ، وليس منطق العقل ، هو الذى يحكم حياتنا بصفة عامة ، وأجهزتنا الأمنية بصفة خاصة .
ثارت ثائرة بعض الصحف التى يوالى نفر منها أجهزة الأمن ، لأن كميناً على ساحل البحر الأحمر ، احتجز مواطنا مع أسرته ، وعذبه ، وأذله ، وقهره ؛ وهدده بالاغتصاب ، وأرغمه على تقبيل أحذية الجنود !
ومع أن الأمر عادى فى بلادنا المحتلة " احتلالاً وطنياً ! " ، فقد بدا الأمر لبعض الناس أن المسألة استثناء ، وأنها غريبة ، وأن السلطة يجب أن تتخذ موقفا مما جرى !
الإنسان المصرى ، كما قلت وأقول وسأقول ، هو أرخص سلعة فى مصر، لا كرامة له ولا حرية لديه . هو عبد يفعل به المحتلون الوطنيون ما يشاءون وقتما يريدون بالطريقة التى يحبون .. دعك مما يقال عن الدستور وسيادة القانون ووجود القضاء ، فكل هذا لا يغنى عن المواطن شيئاً أمام سطوة الغزاة الوطنيين الذين يرون أن مصر هى أرض الميعاد للتنفيس عن كل عقد العالم النفسية فى مواطنيها أيا كانوا ، كبارا أو صغاراً ..
ألم تسمع عن القضاة الذين تم ضربهم فى لجان الانتخابات التشريعية الأخيرة ، وشتمهم بأقذع الألفاظ ؟ ألم تر وتسمع عن سحل القاضى المستشار فى قلب المحروسة أمام جموع الخلق وعلى مرأى ومسمع من كاميرات التلفزة ووكالات الأنباء العالمية ؟
ثم دعك من كل هذا ، وتذكر أن سجون مصر ومعتقلاتها تضم عشرات الألوف من المصريين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والوحشية التى يعف عن ممارستها الحيوان المتوحش فى الغابة ؟ لقد سجل التاريخ المعاصر أبطالاً وأعلاماً فى التعذيب الوحشى من الجيش والشرطة على السواء ، وأظنك سمعت عن شمس بدران وصفوت الروبى وصلاح نصر وفؤاد علام وحسن أبوباشا وزكى بدر .. الإنسان المصرى لا قيمة فى دولة تسحقه وتدمره لتثبت أنها على صواب ، وأنها تملك العناد الذى يجعلها لا تتراجع عن خطأ أو منهج مهما كان الحق واضحا أبلج !
شعبنا الطيب المسالم ، لا يحتاج إلى مليون ومائتى ألف جندى شرطة كى يحرسوه .. لا يحتاج إلى هذا العدد من السيارات المدرعة والمدافع الرشاشة والخوذات الحديدية ، ووضع الاستعداد الدائم ، والطوارئ المستمرة ..
شعبنا الطيب المسالم يحتاج إلى العدل .. والعدل أمر سهل وبسيط لو أراد الغزاة الوطنيون والمستعمرون المحليون ..
إن القبضة الحديدية أو التعذيب الوحشى لن يحل مشكلة سياسية أو جريمة جنائية ، بل إنه يُضاعف من المشكلات والجرائم ، فمن يدخل السجن مرة ، أو من يُعذب مرة ، لن يخشى السجن أو يخاف التعذيب مرة أخرى . والأمثلة أوضح من أن تذكر .
إن التعذيب خلق العنف ، وضاعف الجريمة ، وأتاح للإرهابيين والمجرمين أن يتكاثروا وأن ينتقموا وأن يُحوّلوا البلاد إلى بيئة للخراب لم تعرفها على مدى تاريخها .
إن احترام كرامة الإنسان المصرى كفيل وحده بتحقيق الأمن والأمان ، أما الاعتماد على القبضة الحديدية والتعذيب الوحشى ، فهو طريق الندامة ، للوطن كله ، بما فيه الغزاة الوطنيون والمستعمرون المحليون .
إن صراخ المواطنين فى أقسام الشرطة لن يحقق هيبة الدولة ولن يُرسى دعائم الأمن ، وإلقاء المواطنين موتى إلى الشارع بعد تعذيبهم فى بيوتهم لا يعنى أن السلطة قوية ظافرة ، وتلفيق التهم والقضايا للأبرياء لن يخلى مسئولية الغزاة الوطنيين والمستعمرين المحليين ، وعشرات المآسى اليومية التى تتحدث عنها الصحف نتيجة للإهانة والإذلال على يد من يحرسون القانون وينفذونه ، لن تجدى فى بناء دولة آمنة مطمئنة !
يظن بعض الطغاة أن الزمان كفيل بالتغطية على جرائمهم .. ولكن هيهات ! هل يمكن أن يفلت قاتل " كمال السنانيرى " مثلاً ؟ إنه لن يفلت من الله ولو أفلت من خلق الله .
وأخشى أن يتحول المظلومون الذين يُلاقون التعذيب والإهانة ، إلى وحوش ضارية لا تنتظر كلمة القانون بقدر ما تنتظر اللحظة المناسبة للثأر الشخصي والانتقام بأيديهم .. ويا ويل مصر .. إذا يئس المظلوم من تحقيق العدالة ، ورأى المجرم يمشى فى الأرض مرحاً ، وتدافع عنه أو تلمعه أبواق مأجورة ، وصحف منافقة ، ودعاية كاذبة ، ووطن صامت !
........................................
*المصريون ـ في 12/6/2006م.
</i>