ضد التعصب أم ضد الإسلام ؟ (3 مـن 6)
أ.د. حلمي محمد القاعود
............................
يبكي الدكتور جابر عصفور في كتابه "ضد التعصب" من أجل الدكتور نصر أبو زيد الذي رفضت اللجنة العلمية ترقيته إلى درجة أستاذ، ويخصص أكثر من نصف الكتاب للدفاع عن نصر، وسرد محاكماته، وانتقاد الأحكام التي صدرت بردّته والتفريق بينه وبين زوجته نتيجة لتأويلاته الفاسدة لمبادئ إسلامية ثابتة ومعلومة.
والحقيقة أن نصر أبو زيد ضحية لجابر عصفور ومن معه، فقد ألقاه في اليمِّ وحذره من الغرق وهو لا يعرف العوم!
ويعلم جابر عصفور أن اللجنة العلمية، وخاصة لجنة الأساتذة المساعدين التي كان مهيمناً عليها، مع وجود من هم أقدم منه سناً وعلماً ووظيفة قد ظلمت كثيرين، ونكلت بكثيرين، وغدرت بكثيرين، لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا على منهج أهل اليسار والدنيويين، أو لأنهم أرادوا التعبير عن ذواتهم ونهوضهم في وجه المتاعب والصعاب.
هؤلاء المظلومون ـ وما أكثرهم ـ لم يجدوا صفحة للحوار القومي تساندهم، ولا صحافة يسارية تعضدهم، ولا أقساماً أو مجالس كليات علمانية تدعمهم، بل لم يجدوا من يصغي لهم أو يهدهد أحزانهم، وقد سمعت بأذني أحد أعضاء اللجنة يسخط على المهيمنين عليها، ويقول: إنهم يريدون ذلك، أي عدم ترقية فلان أو علان.. فالترقية المزاجية لم تكن ضد "نصر أبو زيد" ولم تكن رغبة "عبدالصبور شاهين" الذي اتهمه جابر عصفور بتهم غليظة، ولكنها كانت ضد المخالفين لليسار وأتباعه، ورغبة المحكمين اليساريين الدنيويين!.
مشكلة جابر عصفور وجماعته أنهم لا يرون إلا أنفسهم ومصالحهم، وهذه مأساة بكل المقاييس، وكانت الظروف التي تقدم فيها "نصر أبو زيد" للترقية حافلة برغبة جهات خارجية وداخلية للقضاء على بقية مظاهر النشاط الإسلامي، حتى الأنشطة الخيرية، مما أعطى لجابر وجماعته فرصة الانطلاق، ليس دفاعاً عن نصر بقدر ما كانت سعياً لعملية الاستئصال والتشهير بالإسلام، والداعين إليه وإلى تطبيق تعاليمه في الحياة اليومية والعامة، لا شك أن "نصر أبوزيد" كان ضحية لعملية واسعة ضد الإسلام، حيث كان موضوعه مدخلاً لبعث الأفكار الرديئة والكتابات السخيفة والتصورات الفاسدة التي تصب في تقويض مفاهيم الإسلام وأخلاقه، وتخدم الغرب الصليبي الاستعماري وقاعدته اليهودية في فلسطين المحتلة.
فرأينا مقولات الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، والإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، والمرأة في الإسلام لمنصور فهمي، وتربية سلامة موسى، ومؤلفات لويس عوض، وغيرهم من الذين استباحوا ثوابت الإسلام وقيم الأمة، يعاد إنتاجها من جديد، أو تطبع مرة أخرى، في الوقت الذي يتم فيه حصار الكتاب الإسلامي والمجلة الإسلامية والصحيفة الإسلامية من خلال أجهزة الدولة.
"نصر أبوزيد" كان شخصاً متديناً، وكان فلاحاً مجتهداً، ولكنه تحول بفضل الهيمنة اليسارية الدنيوية إلى ما اعتقد أنه صواب، فتجرأ على القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي بغير الحقيقة العلمية، ودخل في متاهات، ما كان أغناه عنها لو أنه احتكم إلى المفاهيم الصحيحة للتأويل من خلال المنظور الإسلامي، وليس المنظور الغربي "الهرمينوطيقا"، إن القرآن الكريم يضم آيات محكمات وآخر متشابهات، والمحكمات واضحة وضوح الشمس لا يجوز تأويلها لأنها تقنن العقيدة والشريعة في قوانين إلهية لا تحتاج إلى تأويل أو اجتهاد، وقد أجمعت عليها الأمة سلفاً وخلفاً، فما الذي يدعوه إلى اختراق الثوابت واللعب بها؟ إنها الدعاوى التي غررت به وثبت زيفها: حرية التعبير وحرية الفكر، والعقلانية والاستنارة.. وكأن الإسلام لا يعرف شيئاً من ذلك أبداً في مفهوم اليساريين!.
أما المتشابهات من الآيات فمردها إلى أولي العلم الذين يملكون صلاحية البحث والتحري، وهؤلاء هم الثقات الذين تستريح إليهم الضمائر والأفئدة، ولهم اجتهادهم أو تأويلهم الذي يصل بهم إلى الحقيقة والصواب بإذنه تعالى.
لقد أخطأ نصر حامد أبوزيد، ورصدت محكمة النقض ـ أعلى درجات التقاضي ـ عدداً من أخطائه الفادحة والفاضحة، ولكن هذا لم يقنع جابر عصفور الذي بات ينوح على نصر، ويهجو القضاة والمحكمة والحكم، ويستشهد بآراء اليساريين والدنيويين الذين انحازوا إلى التجليات الفكرية الاستعمارية.
مشكلة جابر وجماعته مركبة ومعقدة، لأنهم يرفعون قميص عثمان ويطالبون بالثأر له، ولكنهم في الحقيقة يريدون الانتقام من الإسلام الذي يمثل عائقاً وحائط صد خطيراً في وجه التغريب والعلمنة والهيمنة الاستعمارية.
ترى لو أن نصر حامد أبوزيد استخدم التأويل في تفسير الإنجيل والتوراة، وذهب إلى عكس ما تعارف عليه الكرادلة والحاخامات هل كانوا سيتركونه أو يتركون المؤازرين له؟ وهل كان جابر عصفور وجماعته يستطيعون رفع أصواتهم، بل يتحدون القانون الذي يحظر التعليق على الأحكام الصادرة عن القضاء، وخاصة محكمة النقض؟
هل وصل الأمر إلى أن يكون الإسلام ديناً مستباحاً وأن يكون تسفيه أحكامه وتشريعاته ومبادئها لتي تربط الفرد بالمجتمع وتضع أسس العلاقة بين الراعية والراعي، أمراً مطلوباً من جهات خارجية وداخلية لإذلال العرب والمسلمين، وترسيخ أقدام اليهود في فلسطين. (فلا وربك لا يؤمنون حتى" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما(65)) (النساء ) .