لغة عصام الغزالي الشعرية
لا تستعصي على بحر أو قافية .. وتقوم على معجم إسلامي

بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
..........................................

لغة الشعر عند عصام الغزالي تتميز بالسلاسة واللين والمطاوعة، وهي مثل العجينة في يده، يشكّلها كيف يشاء، دون تكلف أو عناء، ولا تستعصي على بحر ولا قافية، وهي بصفة عامة تقوم على معجم قرآني، إسلامي يلحظه القارئ بوضوح عبر قصائده، منذ بداياته حتى الآن، وذلك يعود بالطبع إلى رؤيته الإسلامية للكون والحياة، وثقافته القائمة على الوعي بالتراث الإسلامي.. إلى جانب ثقافة التخصص التي كوَّنت حياته العلمية والعملية.
والمعجم الإسلامي يتدفق عبر المفردات والتراكيب، بل الصورة والبناء الشعري جميعاً، ويستطيع القارئ أن يطالع في معظم القصائد مفردات الطهارة والتسبيح والتوبة والتقوى والاستغفار والترتيل والصلاة والجنة والحور العين والفتوى والنور والتكبير والصبح والاغتسال والابتهال والصبر والعفة والرزق والبراءة والقضاء والشهادة والزكاة والصحابة والمنابر والبدر، والرسول { والقرآن الكريم والحرام والحلال والهلال والسلام والوضوء والكوثر والمسك والآيات والتوحيد والرق المنشور، والشفاعة والبشارة والاعتصام والفجر والصيام... إلخ.
وهذا المعجم يعطي بلا شك إشعاعاته الإسلامية في القضايا التي طرحها الشاعر عبر قصائده أو التجارب الشعرية التي يعالجها بصفة عامة، كما أنه يعطي مذاقاً خاصاً للغة الشاعر وصياغته الشعرية، يختلف بالطبع عن المعجم العادي أو المعجم المخالف الذي يلجأ إليه شعراء آخرون، لا يؤمنون بالتصور الإسلامي، أو يؤمنون به ولكنهم لا يطبقونه في تجاربهم الشعرية لسبب أو لآخر.
إن المفردة الإسلامية في القصيدة لدى عصام الغزالي تعطيها خصوصية من حيث البناء أو التركيب فضلاً عن الرؤية، ولعل قصيدته "عدالة الطين"، تعد من أفضل الأمثلة الدالة.. يقول فيها:
أقاضيكم أمام الله فاحتفظوا بحجتكم إلى حين
فلا التزيين يقنعني بموقفكم ولا التخويف يثنيني
ولا الأوراق تجعلكم على حق بأصباغ وتلوين
ولا العدل الذي أرجوه عندكم فأطلب منه تمكيني
@@@
أحاسبكم أمام الله فانتظروا سيحييكم ويحييني
ويوقفنا ويسأل وهو علاَّمٌ.. ويفصل في البراهين
@@@
أقاضيكم وحسبي اليوم أن خاصمتُ في رفق وفي لين
وحسبي الله في تأجيل مظلمتي وفي إهدار تأميني
أقاضيكم.. وحسبي الله في عجزي أمام عدالة الطين.(1)
إن القصيدة تطرح فيما يبدو مظلمة خاصة وقعت على الشاعر، ولكنها في الإطار العام تناقش قضية أوسع تتعلق بالعدالة المطلقة، والعدالة العرجاء أو العدالة الظالمة التي لا تشفي غليل المظلومين، والشاعر يعلن هنا ثقته في العدالة المطلقة التي تتم أمام الله سبحانه، ويسحب هذه الثقة من العدالة العاجزة التي يكنِّى عنها بعدالة الطين، وبين "الثقة" و"سحب الثقة"، نجد المعجم القرآني أو المعجم الإسلامي يحكم البناء الشعري، مفردة وتركيباً وتصويراً.
إن الشاعر يبدأ قصيدته بجملة "أقاضيكم أمام الله"، والظرف "أمام" يحسم المسألة ويعطينا ما نسميه بثقة الشاعر في العدالة الإلهية، وبالتالي "سحب ثقته" في العدالة الدنيوية العاجزة عن الوفاء بالحقوق. ولفظ الجلالة المضاف إليه يؤكد وجوده في التركيب على انتماء الشاعر واعتقاده، لذا فإن ثقته المطلقة في ربه تقول لخصومه "فاحتفظوا بحجتكم إلى حين"، كأنه ينبههم إلى أن العدالة الدنيوية وإن حكمت لصالحهم فلن تلغي بحال العدالة الآخروية التي تتم بين يدي الله. ثم نرى الشاعر يؤكد على ثقته بالعدل الإلهي من خلال رفض الخوف والتزييف والتزوير.. ولا "الأوراق تجعلكم على حق.."، بل إنه يكرر أن العدل الذي يرجوه ليس عند هؤلاء الدنيويين الذين يستخدمون الترهيب والترغيب.
وفي خطاب الشاعر لظالمه ما يؤكد أيضاً على إيمان واثق بالبعث والحساب الدقيق يوم الحشر، "فانتظروا سيحييكم ويحييني"، وهو إيمان واثق بأن الله علاَّم الغيوب يعلم السر وأخفى: "ويوقفنا ويسأل وهو علاَّم.." وهو إيمان واثق يدل عليه تكرار لفظ الجلالة أربع مرات، وتكرار الضمير العائد عليه أكثر من مرة، والإتيان بوصفه الدال عليه "علاَّم".. هذا الإيمان الواثق يزرع الأمل في نفس الشاعر التواقة إلى العدل الحقيقي، والرافضة للعدل الخادع الذي يصنعه التخويف والتزوير والتزييف... ومن ثمَّ، فإن مخاصمة الشاعر لظالميه في رفق ولين لا تعني أن حقه قد ضاع، وإنما سيأتي في يوم مشهود.. وفي هذه المرحلة، فإنه يكتفي بربه... "وحسبي الله في عجزي أمام عدالة الطين".
إن الإيمان الواثق بعدالة الله يختلف عن غيره من السلوكيات والمعتقدات، ولو تصورنا شاعراً غير واثق بالعدالة الإلهية، يواجه هذه المظلمة، فإن المرجح أنه سينتقم من الظالمين الذين "أهدروا تأمينه"، أو على أحسن الفروض سينخدع بتزييفهم ويستسلم لهم، وكلا الأمرين لا يتفق مع الرؤية الإسلامية.
شفافية وطهر
وفي قصائد "عصام الغزالي" معجم يفيض شفافية وطهراً، وصفاء، ولعل قصيدته "تركة تاجر مسك"(2) من خير الأمثلة على ذلك، وهي تنقلنا إلى أجواء الزهادة والطيبة، وتأمل دلالة "المسك" على رائحة من نوع خاص، ترتبط غالباً بالمسجد وروَّاده، وأذكر ونحن في زمن الطفولة البعيد، كان هناك من يأتون إلى مسجد القرية ويوزِّعون علينا عطر المسك، أو يحملون صناديق خشبية لها باب من الزجاج، تضم أنواعاً مختلفة من العطور، أبرزها المسك، يعرضونه للبيع، وكنا ونحن أطفال نمد أيدينا للبائع كي نصيب شيئاً من روائحه مجاناً، وقصيدة "تركة تاجر مسك" رثاء لراحل عزيز هو والد الشاعر، ويمكن أن تحمل دلالة رمزية دون افتعال بدءاً من مطلعها الذي يقول فيه:
يا تاجراً للمسك لا في السوق بالمال
خلَّفت ريح المسك في الذكرى وفي الآل
فارقتني والدمع في عيني محتبسٌ
لكن ريح المسك حولي أصلحت بالي
كما أن القصيدة تحمل معجماً دالاً على الشفافية والطهر والصفاء، ويتردد في جنباتها مفردات: الآيات، القرآن، البعث، المصحف، صوت الحق، التنزيل، النور، الترتيل، ظل الله، العفو، الإقبال، الربح الإلهي، الدين، الخروج من الضيق، المحراب، بيت العلم والقرآن، فضلاً عن العطر والمسك وحاملهما... وتأتي أهمية هذا المعجم من أن الشاعر يطرح من خلاله مفارقة التركة التي تشمل متاعاً دنيوياً، والتركة التي تحمل ميراثاً من القيم والمثل العليا، فضلاً عن الدين، وهذا ما تركه الراحل العزيز:
يا حافظ التنزيل في صدر وفي شفة
يرقى بك الترتيل من حال إلى حال
والنور حول الوجه من رفق ومن دعة
والظل ظل الله من عفو وإقبال
خلّفت ما خلَّفت من دين وتربية
أحن على الأبناء من عمٍّ ومن خال
أغنيت من قدَّرت أن الله مخرجهم
من كل ضيق نالهم من غير إذلال
يا تاجراً للمسك إرث المسك ثروتنا
تربو مع الإنفاق من علم ومن مال
ثراء لغوى
وتبرز أهمية المعجم الإسلامي في الشعر هذه الفترة خاصة، حين نعلم أن المنشور على الساحة الأدبية أو معظمه، يبدو بعيداً عن هذا المعجم، بل معادياً له، بل معادياً للذوق العام، ولست في حل الآن من إيراد نماذج له، ولكن الشاعر مع اهتمامه بالمعجم الإسلامي في الإطار الشامل، يستفيد بالمعجم الشعبي والمعجم العلمي، وكلاهما ليس نقيضاً للمعجم الإسلامي، بل داعم له، وصانع مزيداً من الثراء اللغوي والشعري.. ويلاحظ أن كمية المستخدم من المعجمين تبدو قليلة..
ويبدو المعجم الشعبي في أفضل استعمالاته مقروناً بالحديث عن الوطن، والتعبير عن حبه، وتظهر مفردات وتركيبات "ترعة الكفر"، وروضة التوت" و"حظيرة الدواجن"، و"الشطوط"، و"الطبلية"، و"القلة"، و"الموت في الوطن".. عبر قصيدته "مصر 1970م"(3) لتقدم نوعاً من المقاومة في وجه الهزيمة والضياع السائدين في تلك الفترة، يقول الشاعر:
أنا فيك يا بلدي أموت.. فلا أموت ولا العشيرة
أنا من ترابك زهرة مالت عليه لكي تنيره
@@@
أنا ترعة الكفر العجوز وهامة البرج الشهيرة
وأنا المآذن والنخيل ودوحة التوت الكبيرة
أنا حين تجمع أسرة "طبلية" عند الظهيرة
أنا في تماثل من يخفُّ إذا القلوب أتت سريره
في "قلة" الماء التي يطفي الظميّ بها الهجيرة
أنا في عيون هريرة.. وعطاء سنبلة فطيرة
أنا مصر تشرق في ابتسامة طفلتي ذات الضفيرة
إن المعجم الشعبي يشير إلى تجذّر الانتماء الوطني، وتداخله في النسيج الشعوري، لدى الشاعر، فالمفردة الشعبية ليست مجرد ديكور يزين به أبياته، ولكنها دلالة على عمق نفسي وروحي يربط ما بين الشاعر والوطن.. تأمل "قلة الماء" التي يستخدمها المصريون، وخاصة في القرى، لتبريد ماء الشرب منذ آلاف السنين، ودلالتها في التعبير عن خصوصية الوطن، تجد أنها نقلت القصيدة مع مثيلاتها من المفردات والتركيبات الشعبية من تعبير مجرد إلى تمازج واندماج بين الوطن والمواطن، أو بين الشاعر والوطن.
مفردات عصرية
أما المعجم العلمي أو العصري، فقد ورد في قصيدة واحدة يحمل عنوانها دلالة علمية عصرية أيضاً، وهو "سوق اللدائن"(4)، واللدائن هي المصنوعات البلاستيكية التي ظهرت في عصرنا، وهي مرادف لمفردات شتى، مثل التضخم والأشعة والكهرباء والشرائط والمعارض والسرعة والأضواء، والشاعر يستخدم المفردات العلمية أو العصرية للمقارنة بين نوعين من القيم.. قيم الخير وقيم الشر، والقصيدة في مجملها إدانة للعصر وتقلباته التي تكون غالباً ضد الإنسان، يقول في مطلعها:
يا عصر فلسفة "البلستك" والغثاء
من لي بعودة فلسفات الأقوياء؟
عصر التضخم، والصراخ، طغى على
القيم الجميلة ضاحكاً في كبرياء
عصر اللدائن، والأشعة، والجنون
والانتحار تقدماً، والكهرباء
هل عالم هذا الذي أحيا به
أم غابة الإنسان: حقد واعتداء؟
وإذا كانت "سوق اللدائن" تحمل دلالة عصرية، فإن العديد من عناوين قصائد عصام الغزالي تحمل الدلالة ذاتها، ويكفي أن نطالع مثل هذه العناوين في مجموعة شعرية واحدة من مجموعاته: رقص بالقنبلة، أوراق اعتماد، شد الرحال، قصيدة بقلم كاتم الصوت، كتابة التاريخ بالأرجل، مرثية رجل في جهنم، فات ميعاد العمل، خواطر مواطن في حديقة الحيوانات(5)، والعناوين في مجموعها تنبئ عن معايشة شاعر لمجتمعه معايشة حميمة، كما تخبرنا عن معاناته القاسية في بعض الأحيان مما يجري في هذا المجتمع.
الهوامش:
..............
(1) هوى الخمسين، ص89.
(2) أهددكم بالسكوت، ص102 وما بعدها.
(3) لو نقرأ أحداق الناس، ص40 41.
(4) دمع في رمال، ص 38 39.
(5) انظر صفحات 12 14 20 65 84 103 104 على التوالي في مجموعة "دمع في رمال".