نجيب الكيلاني أول روائي إسلامي

بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود

يُعدُّ نجيب الكيلاني (1931-1995م) الروائي الإسلامي الأوَّل في اللغة العربية، حيث قدَّم للمكتبة العربية عدداً كبيراً من الروايات والقصص القصيرة، وهي غالباً محمومة بالتصوُّر الإسلامي وصادرة عنه، ومن خلال هذا الإنتاج القصصي الغزير استطاع أن يقدِّم النموذج الإسلامي في الرواية والقصة.
وقد مرّ إنتاجه الأدبي الروائي بمراحل ومستويات عدة، يمكن أن نضعها في أربعة إطارات:
ويمثِّل الرّواية الرومانسية، ويضم العديد من رواياته، وقد عبّر من خلالها عن هموم النَّاس والعلل الاجتماعية المتفشية بينهم، مثل الفقر والجهل والأمراض المتوطنة والسلبية والتخلف، ومزج ذلك بالعواطف المشبوبة والخيالات الحالمة والآمال المجنِّحة، ويمكن أن نرى أمثلة على ذلك من رواياته: الطريق الطويل، الربيع العاصف، الذين يحترقون، في الظلام، عذراء القرية، حمامة سلام، طلائع الفجر، ابتسامة في قلب الشيطان، ليل العبيد، حكاية جاد الله..
ويمثِّل الرواية التاريخية، التي تستلهم السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بصفة عامة، وقد استدعى التاريخ واستلهمه ليقدِّم النماذج الإنسانية المشرفة من حضارتنا، ويرصد جهاد الآباء في شتى جوانب الحياة، دفاعاً عن الدّين وسعياً لتأسيس مجد غير مسبوق، وفي بعض الأحيان كان يستدعي التاريخ ليعالج من خلاله قضايا راهنة أصابت الأمَّة بالإحباط واليأس، ويوقظ به الأمل في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق إحياء الهمَّة وبعث العزيمة والإصرار، وفي كل الأحوال فإنَّ استلهام التاريخ في الرّواية عند "نجيب الكيلاني"، كان إبرازاً لمعطيات الإسلام العظمية، وإمكاناته الهائلة في تحويل الإنسان المسلم إلى صانع حضارة وباني مجدٍ وجندي ظافر في معاركه ضد الشرّ والتوحُّش، ويمكن أن نجد عدداً كبيراً من رواياته التي عبَّرت عن ذلك، مثل: نور الله، قاتل حمزة، أرض الأنبياء، دم لفطير صهيون، مواكب الأحرار (أو نابليون في الأزهر)، اليوم الموعود، النداء الخالد، أرض الأشواق، رأس الشيطان، عمر يظهر في القدس.
ويمثِّل الرواية التي يمكن أن نسميها بالرواية الاستشرافية التي عبَّر فيها عن هموم المسلمين خارج حدود العالم العربي (دول آسيا الوسطى التي كانت أو ما زالت تحت الستار الحديدي الشيوعي من الاتحاد السوفييتي والصين-إثيوبيا- إندونيسيا-نيجيريا)، واستطاع أن يكشف للعالم مأساة داميةً أصابت ملايين المسلمين المنسيين الذين لا يتحدَّث عنهم أحد إلاَّ نادراً، ولا يعرف عنهم المسلمون في العالم العربي إلاَّ القليل، وفي الوقت ذاته توقَّع انتصارهم وتحرّرهم، وهو ما حدث بالفعل في أكثر من مكان وبخاصة في الدول الإسلامية التي استقلَّت أو تحاول الاستقلال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتعدّ رواياته: ليالي تركستان، الظل الأسود، عذراء جاكرتا، عمالقة الشمال، من أشهر رواياته في هذا الإطار.
ويمثِّل الرواية عند نجيب الكيلاني في المرحلة الراهنة، وهي التي نُطلق عليها الواقعية الإسلامية، ويعبِّر فيها عن القضايا الاجتماعية التي تهمّ جموع المستضعفين في الوطن، ويبرز فيها ما يلقاه النَّاس من ظلمٍ وقهرٍ واضطهاد، ويتخذ من تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية عناصر أساسية يرتكز عليها في بناء هذه الروايات، وأيضاً فإنَّه يطرح عبر سطورها رؤية الجيل الجديد للأحداث، وموقفه من قضايا الحرية والعدل والأمن والرخاء والمستقبل، وتُعدُّ روايات الأربع أو رباعيته التي أنتجها على مدى عامين تقريباً، ونشرت على مدى شهورٍ متقاربة ـ وهي: اعترافات عبدالمتجلي، امرأة عبدالمتجلي، قضية أبو الفتوح الشرقاوي، ملكة العنب ـ من أفضل النماذج وأبرزها في الدلالة على هذا الإطار، وهي موضوع دراستنا.
والواقعية الإسلامية تختلف بالضرورة عن الواقعية الأوروبية (الانتقادية والطبيعية)، والواقعية الاشتراكية (الماركسية)، وإن كانت هنالك أسس موضوعية وفنية قد تجمع بينها جميعاً..
فالواقعية الأوروبية واقعية نقدية تعنى بوصف التجربة كما هي، حتى لو كانت تدعو إلى تشاؤم عميق لا أمل فيه، في حين تحتّم الواقعية الإسلامية أن يثبت الكاتب في تصويره للشرّ دواعي الأمل في التخلُّص منه فتحاً لمنافذ التفاؤل حتى في أحلك المواقف، ولو أدَّى إلى تحريف الموقف بعض الشيء.
أمَّا الواقعية الإسلامية، فإنَّها ـ مع انتقادها للواقع ـ تنطلق في انتقادها من التصوُّر الإسلامي الذي يكون دائماً منصفاً، فلا يبالغ ولا يهوّل، أيضاً لا يتحامل بسبب المغايرة في الانتماء، ولا يحبِّذ الصراع بين الطبقات كما يبتغي الواقعيون الاشتراكيون، فضلاً عن أنَّ الأمل في الواقعية الإسلامية، هو أمل إيماني يقوم على أساس نُصرة الحقِّ في كل الأحوال، حياة وموتاً. إنَّها باختصار ترفض التشاؤم كما ترفض التفاؤل الذي يقوم على الخداع أو التزييف، ثم إنَّها تستقي مادتها من الحياة الاجتماعية، ومشكلات العصر على إطلاقها، وتختار شخوصها من عامة المجتمع وجميع طبقاته؛ لأنَّها تعتقد بأنَّ الخيرَ والشرَّ ليسا قاصرين على طبقة بعينها، ولكنَّهما موجودان في النفس البشرية، ايّاً كانت طبقتها أو انتماؤها الطبقي، وأنَّ الإنسان يمكن أن يكون خيِّراً أو شرّيراً ِوفقاً لاختياره، وعوامل أخرى مؤثِّرة في هذا الاختيار من قبيل التربية والتوجيه والقدوة والظروف المحيطة...إلخ، لذا؛ فإنَّ الطبقة ليست هي العنصر الحاسم في الصراع بين الخير والشرِّ، وإنَّما الإرادة الفردية ومكوناتها.. وهو ما يتسق مع التصوُّر الإسلامي:}فَألهمها فُجُورها وتقواها*قد أفلحَ مَنْ زَكَّاها*وقد خَاْبَ مَنْ دَسّاهَا{[سورة الشمس: 9،8].
وإذا كانت الواقعية الانتقادية والواقعية الاشتراكية توجهان سهام نقدهما للطبقة الوسطى (البرجوازية) لأنَّها ظلمت الطبقة الدُّنيا، وأنزلت بها أسوأ أنواع القهر والغبن، عندما وصلت إلى السلطة، فإنَّ الواقعية الإسلامية، ومن خلال روايات نجيب الكيلاني، تنتقد الفئة الظالمة والأفراد الظالمين أيّاً كان انتماؤهم، إلى الطبقة العليا أو الطبقة الوسطى أو الطبقة الدُّنيا، على السواء، فهناك من يوجّه إليهم الانتقاد ممَّن يُعدّون في الطبقة العليا أو الطبقة الوسطى (الحكام-الضباط-رجال الأعمال)، وهناك من يوجِّه إليهم الانتقاد من الطبقة الدُّنيا (العمال، الفلاحين، صغار التجار)، وهكذا فالشرُّ موجود في كل الطبقات، والخير أيضاً.
والواقعية الإسلامية من هذا المنطلق تمثل الصياغة الفكرية والتطبيقية لمفهوم الأدب الإسلامي، في صورته المقبولة والمؤثِّرة في مجال الرواية والقصة على وجه الخصوص، حيث تحقِّق الغاية الخلقية والفنية لعملية الإبداع الأدبي، وإذا كانت بعض التيارات الأدبية تعارض أن يكون للأدب غاية خلقية، فإنَّ الواقعية الإسلامية لا يمكنها أن تتخلّى عن هذه الغاية التي ألحّ عليها كثيرون في الماضي والحاضر. لقد أكدّ "أوسكار وايلد" على الرسالة الخلقية للفنِّ بالمعنى الواسع، وتعني هذه الرسالة لديه: مساعدتنا على فهم الحياة، وقد آمن بهذه الرسالة أفلاطون وأرسطو من قبل، ثم مونتاني وموليير من الفرنسيين، وبن جونسون ودكتور جونسون من الإنجليز.
إنَّ التعبير عن هموم المظلومين والمقهورين والمستضعفين من عامة النَّاس يمثِّل لبّ الرسالة الخلقية للواقعية الإسلامية، وهو ما ألحَّ عليه كثيراً أدب نجيب الكيلاني بعامة، ورواياته بخاصة، فالطبقة الدُّنيا المظلومة المقهورة المستضعفة، حاضرة في رواياته حضوراً مستمراً دائماً، ونماذج المظلومين والمقهورين والمستضعفين تملأ صفحات كثيرة في أدبه، إلى جانب الاهتمام أيضاً بالنماذج العادلة والقوية والظافرة وفق المفهوم الإسلامي. وهذا الاهتمام بقضايا المجتمع من خلال هذه النماذج أو تلك يأتي استجابة لتوجيه إسلامي كي نهتم بأمور المسلمين اليومية والاجتماعية.
ولعل اهتمام نجيب الكيلاني بحياة الفلاحين في القرية المصرية وما يجري لهم، وأيضاً تعبيره عن بسطاء المدينة وما يعانونه، يُمثِّل ملامح استجابته للتوجيه الإسلامي بالاهتمام بأمور المسلمين الذي يترجم عنه في واقعيته الإسلامية ذات الرسالة الخلقية، وإذا أضفنا إلى ذلك تصدِّيه بالانتقاد للفئة المتحكِّمة وفساد رجالها والمحيطين بها، وأيضاً انتقاده لانحراف الأفراد من العامة مع بيان سبب هذا الانحراف، فإن الصورة تكتمل في أذهاننا لأسلوب الأدب الإسلامي ومنهجه في معالجة هموم المجتمع وقضايا الأمَّة ومشكلاتها.
ومن الجدير بالذكر أنَّ نجيب الكيلاني بذل جهداً تنظيريَّاً مهماً في هذا السياق، للتعريف بمفهوم الأدب الإسلامي وأبعاده، في عديد من الكتب والبحوث المنشورة، أهمها كتابان، أوَّلُهما "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، وثانيهما "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، وفيهما يوضِّح علاقة الأدب بالدين، ومفهوم الالتزام الإسلامي في الأدب، ويقارن بين المذاهب الأدبية السائدة، ويعرض لمناقشة بعض القضايا التي تتعلَّق بالأدب الإسلامي وتثير العديد من التساؤلات، سواءً من المؤيِّدين للأدب الإسلامي أو المعارضين، مع إشارة لبعض الأدباء الإسلاميين في العصر الحديث أمثال: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد محرَّم، وتقديم نماذج معقولة للأدب الإسلامي. كما ركَّز على الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية الفصحى في الكتابة والتعبير بوصفها البيان الأدبي الأرقى للأسلوب.
إنَّ كفاح نجيب الكيلاني لتقديم الرواية أو القصة الإسلامية، يمثِّل انعطافة كبيرة في مسيرة الأدب الإسلامي، ليس في مواجهة أعدائه فحسب، بل في مواجهة بعض ضيقي الأفق الذين يرون في الأدب عموماً ترفاً يجب أن يترفَّع عنه المسلمون، وما علموا أنَّ العلاقة بين الأدب والدين علاقة حميمة، أو كما صوَّرها (هنري برجسون) بأنَّها علاقة نسب، عندما قال: إنَّ الفنَّ ابن الدين. ونسوا أو تناسوا أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم كان يستجيد الشعر ويستنشده، وكان يحثُّ حسّاناً على استخدام شعره في معركته ضد المشركين، وأنَّ عمر بن الخطَّاب رضى الله عنه يُعدّ أوَّل ذواقةٍ للشعر وناقدٍ له من الخلفاء الراشدين.
ومهما يكن من أمر، فإنَّ دخول نجيب الكيلاني إلى مجال الواقعية الإسلامية في الرواية، يعد نقلة أكثر تطوراً وعمقاً؛ لأنَّه يواجه المجتمع بمشكلاته المزمنة والمؤرِّقة مواجهة جادة ملتزمة، مع ما قد تجرُّه عليه هذه المواجهة من متاعب شخصية واجتماعية تعوّدها منذ مطلع شبابه.
ثمة ملمحٌ أخيرٌ تختلف فيه الواقعية الإسلامية عن الواقعية الانتقادية والواقعية الاشتراكية، وهو الناحية الأسلوبية، فالواقعيون - بعامة- لا يحبون المبالغة في العناية بالأسلوب؛ لأنه وسيلة لا غاية، والأهمية كلها للمنطق، وللطريقة التي تسود بترتيب الأحداث والتعبير عنها.
والواقعية الإسلامية ـ فيما أتصوَّرـ تحرص على الأسلوب وتعنى به؛ لأنَّه يمثل ـ بطريقة ما ـ عناية باللغة وارتقاء بها وسموّاً ببيانها، وهو ما يعني في حقيقة الأمر الحرص على قيمة جمالية كبرى من قيم البيان العربي، ولعلَّ التفوُّق الأسلوبي لدى بعض المشاهير، كان سبب شهرتهم في المجال الروائي، سواءً كانوا مخلصين للواقعية الانتقادية أو الواقعية الاشتراكية أو الرومانسية أو غيرها، بدءاً من مصطفى لطفي المنفلوطي حتى نجيب محفوظ، مروراً بآخرين من أمثال علي الجارم، محمد فريد أبو حديد، محمد سعيد العريان، محمد عبدالحليم عبدالله، عبدالحميد جودة السحَّار، فتحي غانم...
وقد اهتم نجيب الكيلاني بأسلوبه الروائي، الذي تحدَّثنا عنه في موضع آخر، اهتماماً كبيراً، ولعلَّ ذلك يرجع إلى كونه شاعراً أيضاً، يملك القدرة على الأداء اللغوي الجيِّد، كما يملك معجماً غزيراً يتيح له فرصة للتعبير الدقيق والمتسامي عن مختلف المشاعر والأحاسيس، والصور والمشاهد.
يبقى بعدئذ، أن نشير إلى أنَّ الواقعية الإسلامية عند نجيب الكيلاني، تظلُّ وفيّة للقضايا الإنسانية الكبرى التي تعني الإنسان المسلم في حاضره ومستقبله، وتترفع في الوقت ذاته عن القضايا المبتذلة والرخيصة التي تتسافل به أو تهبط به إلى درك الحيوانية حيث تبحث عن الإشباع الغريزي وحسب.