منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: سِيرَةُ رَجُلٍ

  1. #1

    سِيرَةُ رَجُلٍ

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    سِيرَةُ رَجُلٍ
    ... ثم يحمل كرسيه الخشبي العتيق ومذياعه الصغير .. يحملهما كلما ارتفعت الشمس وابتعدت في السماء عن مشرقها .. يمسك الكرسي باليد اليسرى، وبيمناه يمسك المذياع، ثم يركب خطاه مغادرا بيتا له فيه من الأيام والذكريات التي لن ينساها العدد الكثير .. يلقي بقدميه المتعبتين على أرضية الزقاق المتجعدة، فيترك الانحدار يسحبهما من تحته، بين ارتعاشة ساقيه وانحناءة رأسه المشتعل شيبا .. أما بياض عينيه المنتفختين جراء السهر والأرق، فقد علته حمرة شديدة .. على قدميه يمشي موقعا حديثا أخرسته حمى الهذيان حتى يبلغ بهما منتهى الزقاق في الأسفل ...
    صباح الخير .. تحية يبديها لهذا وذاك، وهذه وتلك، وقد علت محياه ابتسامة ضامرة تنازعه التحية في صمت، بينما ملامح وجهه البارد تنطق بغربة أيامه بين الأيام .. اللقب غلب على اسمه، ومع توالي الأيام صار يفخر بما لقبه به أناس كثيرون يعرفهم ويعرفونه، منهم القريب ومنهم البعيد في النسب، وكلما ذهبت الخمرة برشده يرسل ذاك اللقب الذي صار ملازما له بصوت مرتفع، وكأنه يحاول إنشاده في وقت أطبقت فيه ظلمة الليل على كل ما كان مرئيا طوال النهار، ثم ينطلق لسانه بزغردة طويلة، قد يكتفي بها دون مزيد، وقد يلحق بها ثانية وثالثة .. تمضي تلك الزغردة أو تلك الزغردات في الزقاق مسموعة تشق سكون الليل ..تمضي من بيت غدوه معلنة رواحه، وسكره الساهر معا ...
    ألف كرسيه العتيق حتى صار مطيته وجزءا منه، ولزم مذياعه الصغير حتى صار أنيسه الوحيد في سره وعلانيته .. في أمكنة مألوفة لديه ومعلومة عند الناس .. يمكث صحبة كرسيه ومذياعه مددا من الزمن، قد تطول وقد تقصر، يستقبل أشعة الشمس الدافئة بوجهه البارد الأسمر، وحيث مالت الشمس يميل، وأثناء ذلك يظل يوزع رسائل متنوعة ومتميزة في آن على كل من يمر به .. التحايا يسلمها للبعض كلامية أو إشارية، والإرشادات يمد بها البعض الآخر .. لا يبخل على أحد بالمساعدة .. مرة كتب أحد المستفيدين من خدماته على الحائط خلف مجلسه المعتاد كل يوم: هنا مكتب الإرشادات ...
    رجل في الخمسين من عمره وزيادة .. يحيا حياة متقلبة سيئة .. يرثي نفسه بأحاديث يقذف بنفسه فيها ليحترق ويذوب .. يرثي نفسه ويرثيه الناس بنظراتهم أكثر ما يرثونه بألسنتهم .. ينظرون إليه صباح مساء وهو ينهش دنياه بقسوة شديدة، ويهدم ذاته بمعول يحول الفرحة حلما مزعجا ومخيفا، بل كابوسا وأي كابوس .. يعز على الناس أن يضعوه حيث يضع شاربوا الخمر أنفسهم .. يعز عليهم ذلك لطيبته وحبه النادر لخدمة الآخرين ومساعدتهم ...
    يفر من نفسه إلى الناس .. يشكو الوحدة القاتلة، والعذاب، والاحتراق، ويفر من الناس إلى نفسه خوفا من نظراتهم المشفقة عليه .. إذا أثار أحد معه الحديث حول سوء حاله، تندفع من عينيه حمى مريرة، ومن بين شفتيه يلفظ كلمتين دون أن يزيد: الله يعفو.
    تمتد من بيت تناثرت فيه أيامه هباء وأشلاء إلى المجلس الذي اعتاد المقام فيه من ضحى النهار إلى غروب الشمس أمتار معدودة .. خط فاصل يجتازه وحيدا .. عبثا يحاول وأد ما مضى من أيامه وما يحياه في حاضره وسط دوامة الخمرة .. في أعماقه رغبة لا يخفيها في أن تنزاح الآثار الدامسة من حياته، وتغرب عتمتها إلى غير رجعة .. يجري وراء الشمس ليظفر بكأس أشعتها الدافئة .. يغدو إلى أشعة الشمس ليستلقي أمامها نهارا، ويروح إلى كهف أم الخبائث ليلقي بنفسه فيها ليلا ...
    أمي .. كلمة ينطقها عاصفة مزلزلة لما هو فيه من حال السكر المتواصل .. تجرف على لسانه صوتا مريرا حزينا، كلما تذكر أمه المتوفية منذ زمن .. يذكر أمه حتى وهو ضائع في متاهات الخمرة ...
    أمي .. كلمة يضمها إلى شفتيه المحروقتين بدخان السجائر .. أمه يذكرها عجوزا تحبه حبا شديدا .. كان أصغر أبنائها .. هي ذات الأم التي قامت يوما أمام عينيه المخمورتين، وأمام أعين الجيران والمارة بتكسير قنينة الخمر، بعد أن نزعتها بقوة من يديه بيديها المرتجفتين .. كان يوما صارخا وشاهدا على مأساة أحدثت نزيفا وزوبعة من الرثاء والحسرة في نفوس الحاضرين ...
    وذات مساء مر به أحدهم، وهو جالس على كرسيه، الذي اعتاد وضعه بشكل معكوس، فألقى إليه بتحية باغتته، في الوقت الذي أخفى فيه وجهه من وراء مذياعه الصغير .. هز رأسه المنهوكة بعد أن تردد صدى التحية في أذنيه، فإذا به يبكي ويذرف دموعا حارقة تنزف من حمرة عينيه .. نظر من بين جمراته المنحدرة على خديه إلى صاحب التحية، وبأيديه المرتعشتين أطفأ نار عينيه وهو يقول بصوت أحدثت فيه تلك العبرات العاصفة المدوية في الباطن شقوقا تصدع لها القلب: الله يعفو يا أخي ...

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    aghanime@hotmail.com

  2. #2
    وقصص ذان تكنهه مميزة وغريبه في ان واحد
    وهل لي بسؤال؟
    مارايك بهذه البدايه الخاصه بك استاذ عبد الفتاح ب: ثم وهكذا؟اجدها عندك حصرا
    مع كل تمنياتي لك بالتوفيق
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  3. #3

  4. #4

    شكر وتقدير ...

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    ... وإذا أردت إيجاز المقال في شأن هذا المقام حول الإجابة على سؤاك قلت: إن نظرتي لتلك الحروف، سواء في السرد أم الوصف أم الحوار القصصي، تتجاوز في مداها الدلالي قضية الربط بين الجمل والعبارات، ولا تنحصر في دائرة القواعد النحوية، إذ أن لتك الحروف شحنة دلالية كامنة، بل لها من الإيحاء والتلميح القصصي ما لا يخفى على القارئ المبدع الغواص، الذي يقدر صدفات الحروف العربية حق قدرها، أما عن الحذف، والتقديم، والتأخير، فلكل مقامه الذي يتطلبه وسياقه الذي يقتضيه، وذلك بناء على ما يخدم الحبكة القصصية ...
    وإذا تحريت الإجابة أكثر مما ذكرت حول استهلال قصصي بنقط الحذف الثلاث متبوعة بحرف عاطف في الغالب، فسأجيب قائلا: إن ملاحظتك في محلها، وقد لاحظها كثيرون واستفهموا حولها طلبا لمعرفة حقيقتها، وقد أفصحت لهم عما تعنيه وتدل عليه في رأيي، وما عنصر الاستأنافية القصصية إلا إشارة من بين الإشارات التي أقصد إليها، والتي قد يفطن إليها بعض القراء ببذل قسط من الجهد على مستوى التلقي الإبداعي، إذ أرى في ما أرى أن أي قصة لها ما قبلها ولها ما بعدها، بقدر ما أن لها ماهو كامن متوار خلفها، فالرأي عندي أن للقصة بداية / استهلال على الأقل محتملة متقدمة عن (بداية / استهلال) المتن القصصي المخطوط المرئي، أو لها بدايات / استهلالات محتملة متوارية متقدمة عن (بداية / استهلال) ذات المتن القصصي، وكذلك الشأن بالنسبة إلى نهاية القصة / خاتمتها، فليست للقصة، في نظري، نهاية / خاتمة واحدة يتيمة، بل إن لها نهاية / خاتمة واحدة على الأقل محتملة متوارية متأخرة عن (خاتمة / نهاية) المتن القصصي المخطوط المرئي، أو لها نهايات / خواتم محتملة متوارية متأخرة عن (بداية / خاتمة) ذات المتن القصصي، والخلاصة في هذا الشأن هي أن ليس لأي قصة مخطوطة مكتوبة بداية / استهلالا وحيدا يتيما، وأن ليس لها في الآن ذاته نهاية / خاتمة وحيدة يتيمة ...
    فما نقط الحذف الثلاث التي تتقدم قصصي وتنتهي بها إلا إشارة إلى انفتاح النص القصصي على بداية / استهلال محتمل أو على بدايات / استهلالات محتملة، وما هو إلا تلميح إلى انفتاحه على نهاية / خاتمة محتملة أو على نهايات / خواتم محتملة، وهذا يعني على مستوى آخر أن كل قصة تمثل فضاء مفتوحا على القارئ المتلقي الفطن من كلا الواجهتين: البداية / الاستهلال ثم النهاية / الخاتمة، وله أن يجتهد ما وسعه الاجتهاد بقصد اقتفاء أثر تلك البداية / الإستهلال المخفي أو تلك البدايات / الاستهلالات القصصية المتوارية، وله أن يوظف مخيلته الخصبة وذاكرته المشتركة مع بني جنسه ليكتشف تلك الخاتمة / النهاية المستورة أو تلك البدايات / النهايات القصصية المحجوبة ...
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    aghanime@hotmail.com

المواضيع المتشابهه

  1. سِيرَةُ الْعَلَامَاتِ وَالنُّجُومِ
    بواسطة أ . د . محمد جمال صقر في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-29-2019, 08:42 AM
  2. سِيرَةُ الْعَلَامَاتِ وَالنُّجُومِ
    بواسطة أ . د . محمد جمال صقر في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-01-2018, 07:29 PM
  3. ظِلُّ رَجُلٍ
    بواسطة عبد الفتاح أفكوح في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-25-2009, 05:45 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •