منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 41
  1. #11
    الفصل الخامس: الآخر أو الجانب الملعون

    قدمته: أسماء العريف بياتريكس : باحثة تونسية ـ باريس



    بعض الصور النمطية الأصلية:

    معلوم أن الصور والرموز سابقة عند الكائن البشري على كل تشريط تاريخي، وعلى كل ملكة عاقلة، ولكن هل نحتاج الى أعلام التحليل النفسي والأنثروبولوجيا*1 لنكتسب هذه المعرفة؟

    ما انفكت الفرضية التي صاغها (يونغ) حول وجود ( لا وعي) جمعي تلقى مزيد التقصي والتوكيد لدى علماء النفس الذين يعالجون الأعماق البشرية ولدى مؤرخي الأديان. وهذه الفرضية لها الفضل في تبيان خلود (الأصول القديمة) التي لا تعني شيئا آخر سوى الجوهر المقوم للإنسانية الأم، رغم تنوع المسارات التاريخية والتناقضات الأيديولوجية المؤثرة في منابع الثقافة.

    الكوسموغونيا*2 الدينية وصورة الآخر

    صحيح أن صورة الآخر تُشَيَد دائما على ميدان التاريخ، ولكنها تشيد انطلاقا من أنماط أصلية عابرة للتاريخ هي التي تؤسس مخيالنا الإنساني.

    ينزع الإنسان حيثما وُجِد الى إدراك العالم وتصوره انطلاقا من خطي بداية، الأول يعني بتصوره عن بدء خلق البشرية (الكوسموس) والتوق الى التقرب من الله والصعود الى السماء والابتعاد عن الظلام والسديم. والثاني، الشعور بالتعالي والإحساس بتفوق نوعه أو قبيلته أو عرقه.

    وإن كل المجتمعات تنتهي طوعا أو كرها الى قبول الغزاة الأجانب أو الى استيعابهم داخلها. وسيرى المجتمع المغلوب تفسيرا يرجع فيه انقطاعه المأساوي في صلب النظام الاجتماعي، وسقوطه في الظلام من جديد، وأن هذا الغازي الدخيل قد بعثته السماء رسولا ليعيد المجتمع المغلوب الى رشده.

    إن الإنسانية لم تعش فقط تجربة الخوف من الكوارث الكونية أو نبذ البربري المعكر للنظام، وإنما عاشت أيضا الحلم باستعادة الفردوس المفقود. وهذه الثنائية تحددها النمطية التي يتصور بها الشعب الشكل الأولي للخلق (الكوسموغونية)، فهي عند الهنود تختلف عند أصحاب الديانات السماوية.

    الكوسموغونية السياسية وإدراك الآخر

    لقد طغت التطورات الصناعية والرأسمالية على مشاعر الناس، فتحول الآخر الديني الى آخر سياسي، وكان الانزياح من المجال الديني الى المجال السياسي مصحوبا بترسيخ بعض الصور ودحر صور أخرى. وأن انتقاء صور دون أخرى يبدو أحيانا أنه اعتباطي، لكن التوفيق بين الحالتين المقبولة والمنبوذة هو الكفيل بتأمين توازن النفس البشرية. فعندما نجبر أنفسنا على قبول صورة كنا قد كرهناها عند الآخر فإننا نقرر التنازل عن جزء من ذاتنا.

    وفي هذا المجال تشير مقدمة البحث (أسماء العريف) الى رؤية (جيلبار دوران) أنه بإمكاننا أن نتبين عبر مجموعة الصور المتجاورة التي تنظم مخيالنا نظامين اثنين من الصور: نظام نهاري يجمع كل الصور الرامزة الى القوة والسلطان مثل الصولجان والسيف ويطمح للتفوق والانتصار على الموت والتمرد على القدر. ونظام ليلي يشمل الصور المعبرة عن الألفة الحميمة، بين أحضان الأم واستعادة الأنوثة لاعتبارها.

    يلاحظ القارئ، أن النظام الليلي الذي اقترحه (جيلبار دوران) يريد أن يبين فيه أن الليل الذي هو عكس النهار، والظلام والذي هو عكس النور بالقدر الذي تكون فيه الصورة مكروهة، بالقدر الذي ممكن أن نستخلص منه الجزء الحميمي الذي لا غنى لنا عنه. وهي نفس الصورة التي تريد الكاتبة أن توصلنا بها لنظرتنا الى الآخر أو نظرته لنا، أنه لا يكون لكلينا مناصا من اعتبار جزء من الصورة مقبول بل وضروري.

    الآخر في المخيال

    تنتقل الكاتبة الى نقطة في غاية الأهمية، وقد تناولت فيها نظرة (تياري هانتش) في كتابه (الشرق الخيالي)، الذي يقول فيه أن الانشطار (شرق/غرب) هو من صنع الغرب أنفسهم في القرن الخامس عشر، حيث بدأ الغرب يحس بقوته، في حين أن بداخله أثر (روحي) كبير من الشرق الذي قدم له (ديانته المسيحية) وقدم له فلسفته ومعارفه القديمة بثوب شرقي شارح لها. فقد استكثر الغرب على الشرق تلك الخدمة فأراد أن ينسفها، ويخلعها عن الشرق، فقام بإسقاط وضعه الجديد (القوي السياسي) على الماضي فحاول في شرحه تقليل أهمية الشرق وهمجيته.

    في حين لم يكن الشرق (الإسلامي) قد تعامل مع الغرب قبل القرن الخامس عشر إلا في شكل متوازن، يقرأ له (علومه القديمة) ويقدم له وجهة نظره حسب فهمه الإسلامي دون إبداء روح التعالي بل بحكم ووجوب التلاقح الفكري ، وتضرب الكاتبة مثال (عمر الخيام الشاعر والصوفي والفيلسوف والرياضي).

    وعندما أراد الشرق أن ينهض في القرن التاسع عشر، لم يستنكف عن الاهتمام بالغرب (محمد عبده، محمد إقبال).

    وبعد أن تكلست نظرة الغرب في عليائه وكبرياءه تجاه الشرق، برزت ضرورة استنهاض قوة مضادة له من بين مغالين من الشرق، ليقابلوا تلك النظرة النابذة للآخر الشرقي، فكان التسابق لاستنبات مفكرين ومنظمات متطرفة بين الفريقين الشرق والغرب.

    نحو تواصل علماني وديني بين الأنماط الأصلية

    رغم النزعة المغالية في التشبث بالهوية الذاتية، فإنه يوجد تواصل إنساني في كل المستويات، دينية أو سياسية علمانية أو رافضة للعلمانية. دعنا ننظر الى ما كتبه (مرسيا إلياد) : (إن حضور الصور والرموز هو الذي يحفظ بقاء الثقافات ((المنفتحة)) : ففي كل ثقافة سواء كانت ثقافة أسترالية أو أثينية، تكشف أوضاع الإنسان عن حدودها القصوى ... تمثل الصور انفتاحات على عالم عابر للتاريخ ... وبفضلها يمكن للتواصل بين المؤرخين أن يتحقق)

    وهذا مثال آخر على ما كتبه (لويس ماسينيون) : (( تكفي إيماءة سريعة الى الحلاج، جاءت في حواشي رباعيات الخيام تمدها يد ملتبسة، وتكفي حكمة عربية بسيطة على لسانه تراءت عِبر فارسية العطار (الغابرة ذكراها)، ليرتد صوبي معنى الخطيئة، ثم الرغبة تنهشني ... إني أحيي من بعيد وعيناي صاغرتان هذا الوجه السامي [وجه الحلاج] المحتجب دوما عني حتى في عرائه في محنة صلبه وقد اجتثت هامته من الأرض ورفعت وأغرقت في الدماء برمتها تمزقها جراح الموت التي غرستها فيها أظفار الغيرة من حب يفوق كل وصف ممكن).

    من هذا النص يظهر تكريس الصور الدينية بغض النظر ـ لأي دين تعود ـ فصورة صلب المسيح وناقة صالح ومحنة أي عابد تتجول في كل الثقافات برمزيتها وتتناقل قدسيتها أقلام متدينة وعلمانية. وكلها تدعو للخروج من الإقليمية الضيقة (حسب اقتراح جاك بارك في كتابه الشرق الثاني) .

    هوامش
    *1ـ ، الأنثروبولوجيا بشطريها، "Anthropos " "Logos"؛ تعني علم الإنسان؛ أي العلم الذي يدرس الإنسان في أبعاده المختلفة، البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، فهي علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات متباينة ومختلفة بعضها عن بعض، اختلاف علم التشريح عن تاريخ تطوّر الجنس البشري والجماعات العرقية، وعن دراسة النظم الاجتماعية من سياسيّة واقتصادية وقرابية ودينية وقانونية، وما إليها .. وكذلك عن الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة التي تشمل: التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني، بل والعادات والتقاليد ومظاهر السلوك في المجتمعات الإنسانية المختلفة. عن الملتقى الدولي الأول حول وضعية البحث الأنثروبولوجي في العالم العربي في 9/12/2007 الجزائر/تبسة

    *2ـ الكوسمولوجيا" هي علم وصف الكون على ما هو عليه في حالته الحاضرة، ويبحث فيه عن القوانين التي تحكمه، بينما تعنى كونيات النشأة أو ببداية الخليقة

  2. #12
    الفصل السادس: الآخر : المفارقة الضرورية ..

    قدمته : دلال البزري .. أستاذة في الجامعة اللبنانية ـ صيدا

    قد يكون لكل (آخر) تعريف خاص يوليه إليه من كان له به شأن. فما يعيشه الفرد أو يقرأه فهو (آخر) ذو معالم كثيفة، حادة، عدوانية ... يتحول غالبا الى مادة لقضية يَستغني العديدون عن حياتهم أو عن (موتهم) من أجلها: لاتقاء شره أو لتهدئة سطوته، أو للتصدي له ... بل أحيانا لإفنائه.

    تبدأ الكاتبة ورقتها بهذه الفقرة وترى أن تقسمها الى قسمين:

    أولا: ماهية نسبية واعتداد كوني

    ( ليحرقك الآخر، ذلك الذي لا يتوجب ذكر اسمه) : تلك هي لعنة رمتها (سالمبو) بوجه (ماثو)، غريمها ومنتهك حرمة إلهة قرطاجة) . بين الآخرين في هذه الدعوة بون شاسع، فالآخر السماوي، والآخر المدعو عليه!

    هناك مستويات وأعداد لا حصر لها للآخر

    الآخر : بصفته حاكما مستبدا لدى جورج أورويل في عام 1984: (الأخ الأكبر) وعينه الضابطة لتفاصيل حياة محكومية الدقيقة.

    الآخر: المحكوم في كتاب الأمير لميكافيللي وهو يسدي النصائح للحكام عن الكيفية التي يجب التعامل بها مع الآخر (المحكوم).

    الآخر : رب العمل عند (ماركس) في كتابه (رأس المال) ووسيطه في الاستغلال: فائض القيمة.

    الآخر: في الدين وهو الدين الآخر أو المفارق في المذهب بالدين نفسه.

    الآخر : في الجنس، المرأة آخر بالنسبة للرجل وهو آخر بالنسبة لها.

    الآخر: قوة عظمى تسعى للسيطرة على العالم، ومن يكتوي بنارها يعتبرها آخر، وتعتبره هي آخرا بالنسبة لها.

    الآخر : شرق وغرب

    الآخر : عند الصوفي هو غير المفكر فيه، الواجب سبر أغواره حتى بلوغ (العين).

    هكذا يكون الآخر، آخرا بالنسبة لموقع من يتعامل معه ويصنفه، وهي مسألة تلفت الانتباه لمن يريد اعتماد تلك التصنيفات بشكل أساسي لا يناقش ويسلم به. وأكثر تلك المسائل هي المعنية بالشرق والغرب، كيف نحدد الشرق؟ وبالتالي كيف نحدد الغرب؟ هل هي مسألة جهة جغرافية فحسب؟ لنتخيل أننا نعيش في اليابان ـ مثلا ـ فالشرق لنا هو الولايات المتحدة الأمريكية والغرب هو فلسطين مثلا!

    إن الشرق هو اختراع أوروبي غربي سيزول مع الزمن أو يتطور بتطور أشكال القوة الفاعلة بالعالم. كما تطور مفهوم (الإفرنجة ) عند العرب المسلمين حتى القرن الرابع أو الخامس الهجري، ثم أصبح (صليبيين) .

    من الأمثلة الأخرى التي لا ثبات ولا تسليم بديمومة الآخر فيها، هي ما حدث في لبنان (بالحرب الأهلية) فيكون الآخر للمسلم الساكن في بيروت الغربية، قد تحدد على ضوء وقائع الحرب، فهو من يقطن (بيروت الشرقية) أي حزب الكتائب وحلفاءه. وهذا المثال ممكن أن نشاهده في العراق، ولكن بصورة أكثر تعقيدا. فالآخر في البداية هو المحتل الأمريكي مع حلفاءه، والآخر هو الإيراني، والآخر هو المليشيات والآخر هو القاعدة والآخر هو الصحوة والآخر الحكومة المتعاونة مع المحتل، والآخر هو المقاومة، فأين يكون المتحدث يكون آخره حاضرا.

    ثانيا: الوعي بالآخر وقلة الإلمام به

    تقوم هذه المفارقة على معطيين بديهيين، هما بسرعة: الأول أنه لا يوجد (آخر) من دون الوعي بوجوده. يمكن لهذا (الآخر) أن يعيش طويلا في بقعة ما، في زمن ما، ولا نشك لحظة في أننا قد نلقاه يوما فيصير آخرا مختلفا، كما حدث للعرب المعاصرين عندما صدموا بالآخر الغربي بعد حملة نابليون 1798، فكان من بين زوايا النظر لهذا (الآخر) الزاوية العلمية، فأعجبوا بالآخر الغربي، واندفع أبناء العرب نحو الغرب لينهلوا من علومه. ومثال ثاني، هو بخصوص من تبقى من مخلفات (الهنود الحمر) في أمريكا وأنسبائهم عندما خرجوا في مظاهرات عام 1992 (بعد مرور 500 سنة على اكتشاف أمريكا) رافعين شعارا استنكاريا (لا تكتشفونا).

    أما المعطى الثاني، فهو أنه لا توجد علاقة بالآخر إلا على قاعدة غالب ومغلوب، ومن دون هذه القاعدة، يضمحل الآخر ويصبح عدما .. مندمجا تمام الاندماج . كانت دول أوروبا الشرقية قبل عدة عقود تشكل (آخرا) بالنسبة لأوروبا الغربية، اليوم الكثير من تلك الدول تدخل في مؤسسات الغرب (حلف شمال الأطلسي، والوحدة الأوروبية).

    فيما يخص اختراع الغرب للآخر، تذكر المؤلفة أنه بين عامي 1800 و 1950 صدر في الغرب كتبا وبحوث ودراسات عن الشرق تقدر ب 60 ألف مؤلَف، ليشرعن الغرب (عظمته) على الشرق (الآخر) [ أخذت الباحثة هذه المعلومات عن إدوارد سعيد].

    سمات المعرفة بالآخر

    1ـ الاختزال

    أكثر الصفات السوسيولوجية إلصاقا بالشرق (العربي والإسلامي) هي الاستبداد. وهو استبداد يرمز له بالخيمة والقبيلة. وعندما يحاول الشرقي إنكار تلك الصفات عنه ويحاول تذكير الغرب بما نقله له من علوم قديمة أعاد الشرق صياغتها لتكون صالحة للاستعمال من قبل الغرب، وإن كان بعض مصادرها من الغرب نفسه (الإغريق). ينكر الغرب تلك الخاصية على الشرق ويعترف بأنه نقلها، لكن دون أن يلتقط الجوانب الإنسانية منها!

    في حين يختزل الشرق صفات الغرب، ويصوره بأنه صليبي كافر وثني منحل الأخلاق.

    2ـ الجنسنة Sexualisation

    يصور الخطاب الاستشراقي، الشرق بذكورية ترمز الى العلاقة العادية بين رجل وامرأة : فالشرق عنده صامت، واهن، خائر، رخو، سلبي، والأهم .. ساحر. كل ما بوسعه هو تلقي المبادرة الآتية من الغرب وقبول الاختراق بالتواضع نفسه الذي تتمتع به العذارى. هذا من دون إغفال اهتمام الغرب اللافت، راهنا، بالمرأة المسلمة الشرقية: أجلى تعبيراته التركيز على خطر التيارات الإسلامية بصفتها تهدد المرأة القاطنة في بلدانه وكأنها أهم الأخطار (معارك منع الحجاب ).

    من جانب آخر، يرى الشرقي في بنات الغرب وصورهن المتعرية في المجلات، أنهن مستباحات لكل باحث عن لذة عابرة، والصورة الغربية عند الشرقي صورة أنثوية، مقابل الصورة الذكورية عند الشرق بالجهاد والقوة والغزو والحرب. هذه الصور تتكرر في روايات الأدباء العرب (الحي اللاتيني: ليوسف إدريس، قصة حب مجوسية لعبد الرحمن منيف، موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح)

    3ـ الزمن المفوَت

    يعيش كل من الغالب والمغلوب زمنا يشتبك فيه الماضي والمستقبل، بحيث يصعب عليهما امتلاك الحاضر: فالأول لا يكتفي بمصادرة تاريخ المغلوب والتكلم باسمه، بل يذهب الى ما وراء التاريخ، فيما الثاني لا يجد ذودا عن نفسه سوى اللجوء الى ما قبل التاريخ.

    يبقى المغلوب دائم الثبات على شفير الهاوية: على حدود التنازل عن أقرب حواضره، والغالب يقرر أنه لا وجود لمن يحتج على هيمنته بسبب فقدان الذاكرة

    وما يواسي الشرق العربي أنه زمانه السالف صنع ما يشبه هذه الهيمنة، وإذا ما قِيس ببؤس الحاضر فسوف يجد فيه معلما من معالم جبروته المحتملة. لذلك فهو دائم الاعتصام به والمناجاة له. ( خيبر ، ذات الصواري ، صلاح الدين، قطز الخ).

    خاتمة

    تختتم الكاتبة ورقتها بتساؤل: هل من حالة يغيب فيها هذا الآخر؟ أو، إذا شئنا الاكتفاء بما تيسر، هل من سبيل الى إضفاء بعض التلوينات الدقيقة عليه، تقربنا من إنسانيته، وفي اللحظة نفسها تدخلنا الى الدوافع العميقة لصراعيته؟

    العالم الجديد الذي نحن بصدده، لم يستقر بعد على المنظومة الفكرية التي تسمح له بتعيين الآخر تعيينا مقنعا. أما المرشح للاعتراض على ملامح هذا العالم فهي النواة العربية الإسلامية، بشرية كانت أم جغرافية، وقد أخذت ملامح اعتراضها بالتجلي، ليستكين الغرب عند تصنيفه للعرب والمسلمين بأنهم (الآخر) القابل لمواصلة مناهضته.

    وعلى الشرق، لكي يربح نفسه كآخر غير متهم بل وفاعل ومنادد لغيره في العالم، أن ينتبه الى تقوية نسيجه الداخلي من حيث حقوق الإنسان وتناقل السلطة ومراقبة نمو في مختلف المجالات ليكون صورة لمرآة لأي آخر في العالم، وإلا بقي الشرق يحلق بأجنحة (استبداديته) المتكسرة.

  3. #13
    الفصل السابع: صورة الآخر المختلف فكريا: سوسيولوجية الاختلاف والتعصب

    قدمه : حيدر ابراهيم علي : مدير مركز الدراسات السودانية في القاهرة وأمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع ..

    يأخذ الكاتب في ورقته منحى مختلف عمن سبقه، فهو يستخف بفكرة الآخر البعيد (الذي من قارة أخرى أو من قطر آخر أو من قومية أخرى)، ويركز على أن الآخر في منطقتنا العربية أصبح رمزه مزروعا بيننا.

    لقد دخل أبناء الوطن العربي بعداءات فيما بينهم تفوق تلك التي مع أعداءهم، فأصبح من الملائم أن يُطلق عليهم (الأخوة ـ الأعداء). ويحاول الكاتب أن يمر بحيادية (عالم الاجتماع) على الظواهر المنتشرة في الوطن العربي، من عودة عنيفة متحمسة ومتعصبة للفكر الديني (الإسلاموي ـ أي الإسلامي المسيس)، ويذكر الكثير من الفئات التي تزعم أنها (الفئة الناجية) المنزهة من بين الفرق الإسلامية الكثيرة، وهي (أي كل فرقة تزعم ذلك) الوحيدة التي تملك الحق في إزالة وتطهير المجتمع العربي من كل ما دنسه من مظاهر ردة.

    ويشبه الكاتب تلك الدعوات والتي لم تقتصر على المسلمين في العالم، بل توجد لدى اليهود( شعب الله المختار) و المسيحيين (ملح الأرض ونور العالم) كما هي عند المسلمين (خير أمة أخرجت للناس) يشبه ذلك بفكرة النازية بموضوع الاستعلاء والأحقية في محو الآخر وقهره وإخضاعه.

    يقول الكاتب: يضعنا تأكيد الهوية الدينية أمام مجتمعين متناقضين: مجتمع الوحدة والإجماع أو النقاء والانسجام، مقابل مجتمع التعدد والاختلاف والتسامح. وفي هذه الحالة تحتل مسألة الهوية (Identity) أهمية محورية، إذ تعادل الأنا أو الذات، ولكنها تثير عدة أسئلة صعبة، منها على سبيل المثال: هل الهوية الدينية بالتحديد صراعية أم تواصلية، أي قادرة على قبول الآخر، أو هل هي إقصائية (Exclusive) تماما أم قد تتضمن الآخر (Includedness) ؟ قد تتحول الهوية في السياق الديني من مفهوم اجتماعي ـ ثقافي، أو حتى مصطلح سياسي، الى جوهر ثابت، وبالتالي قد يهدده التفاعل والتواصل مع المختلف الذي قد يخلط نقاءه أو يزحزح حدوده.

    أولا: صناعة مجتمع العودة والنقاء

    العودة بعد الاغتراب. نجد هذه الصفة واضحة في الحديث النبوي الشريف (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء) وعندما سُئل الرسول صلوات الله عليه قال: (هم الذين يحيون سنتي بعد موتها). وقد حاول الكثير من الفئات توظيف هذا الحديث لحصر أنفسهم بتلك المهمة.

    وصفة التطهير التي تنادي بها الفئات التي تعتقد أنها المعنية بأن تنذر نفسها لتلك المهمة، تتحول الى أيديولوجيا نهمة (Greedy Ideology) أي التي لا تكتفي ولا تشبع أبدا، وتصور نفسها بحالة ضعف دائم، وعليها النهوض لتواجه قوى الشر الكثيرة المحيطة بها، فلا تكتفي بمن هم واضحين في عداءها بل تتعداهم الى صفات متدرجة في سوءها لكنها تستوجب الإزالة (الكفار، الجاهليون، الزناديق، الفاسقين، المارقين، المجذفين، أصحاب البدع الخ).

    ينقسم الإسلاميون أو دعاة النقاء والعودة الى المجتمع (المثالي) الذي عرفه المسلمون في فجر الإسلام الى تيارين: أحدهما يدعو الى تربية الأفراد إسلاميا بقصد خلق المجتمع المسلم، ثم الدولة التي تحكم بشرع الله. أما الآخر فيرى ضرورة البدء بالاستيلاء على السلطة السياسية، ثم يستطيع بعد ذلك فرض التغيير على الفرد والمجتمع، وبالتالي لا بد من محاربة الدولة (الجاهلة) القائمة. وهذا الاتجاه الأخير هو الذي وجد قبولا وانتشارا بين الجماعات (الإسلاموية) النشطة. وقد شاع رأي يقول بفريضة القتال ضد كل أنظمة الكفر أو الجاهلية أو الطاغوت في البلاد التي تعتبر إسلامية. وانتشر مصطلح (الفريضة الغائبة) ويقصد بها (الجهاد)*1

    لقد تطور هذا المفهوم في الثمانينات من القرن الماضي لتصبح تلك الثقافة شاملة لأهداف يجب تصفيتها ممتدة الى الجوانب الفكرية والصحافية والمسرحية فكان مثلا أفراد من تلك الأطياف يتعرض للذبح والتصفية في الجزائر وكأنهم جنود كفار.

    هذا الآخر الداخلي، قد ظهر منذ القرن الأول الهجري، عند الخوارج وبقي مستمرا معتمدا على توكيل جماعة معينة لنفسها في تطهير الأجواء الإسلامية بحجة منع الفتنة ويستشهدون بالآية الكريمة (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) الأنفال 39.

    ثانيا: الطريق الى التعصب والتكفير

    تحاول الجماعات الإسلاموية المتشددة أن تركز على وجود أفراد ممتازين ومميزين داخل الحركة، فلا يكتفون بوجود أفراد متحمسين، بل بأفراد متفوقين وممتازين (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف). وتتكرر في كتاباتهم فكرة (الاستعلاء) انطلاقا من الآية الكريمة: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران 139.

    يقدم هذا النمط الجديد من التفكير نموذجا للتعصب، وليس المتحمس فقط، ومن أهم تعريفات المتعصب: (هو من يريد تدمير المجتمع المدني ليقيم مكانه هنا والآن، ملكوت الله) والفرق بين المتحمس والمتعصب هو أن الأول يعتقد أنه ملهم من الله بينما المتعصب هو الذي ينتقل باسم هذا الإلهام الى الفعل*2

    يستمر الكاتب في حديثه عن اختراعات الآخر الداخلي في المجتمع العربي الراهن وما ينذر به هذا الوضع من حمل السلاح في وجه البعض من قبل البعض الآخر، ويشير الى أن أسباب ذلك، هو ضعف أداء الدولة واستيعابها للنشاط الفكري وإقناعها للناس بأنها تمثلهم على أحسن وجه بما ينسجم مع عقيدتهم ويحفظ كرامتهم. هذا الوضع يساعد على تفريخ مثل تلك الجماعات التي تستغل حالة الترهل العامة لتبشر بدورها كمنقذ وحامي لحمى الدين والوطن.

    هوامش
    *1ـ الفريضة الغائبة/ محمد عبد السلام فرج/ ملحق في كتاب: نعمة الله جنينة، تنظيم الجهاد: هل هو البديل الإسلامي في مصر (القاهرة: دار الحرية1988) ص223 وما بعدها. [ تهميش الكاتب نفسه]

    *2ـ التعصب سيرة كلمة/ دومينيك كولا /مواقف/ العدد65 خريف 1991/ صفحة 132و135 [ تهميش الكاتب نفسه]

  4. #14
    الفصل الثامن: صورة الآخر في العلاقة: مواطن/أجنبي .. ملاحظات أولية .

    قدمه: بيار باولو دوناتي : أستاذ في جامعة بولونيا ـ إيطاليا

    من يعرف علاقة (الأنت) وحضوره، هو وحده قادر على أخذ قرار، وحر هو الذي يتخذ قرارا لأنه يواجه (الوجه).
    مارتان بوبر (أنا وأنت)

    أولا: المواطنة بما هي توسط بين هويات اجتماعية ـ ثقافية مختلفة.

    1ـ إن صورة الآخر هي دوما صورة متوسطة اجتماعيا. وضمن (العوامل) التي تتوسط العلاقة (أنا/آخر) هناك شعور بالاشتراك في مواطنة عامة أو بعدم الاشتراك. فإذا ما تفطن المرء الى وجود ما يتحدى هويته (دلالتها أو معناها أو عنوانها) أدى ذلك الى تغيير رؤيته للآخر، وكان ذلك شرطا لاهتمامه بصورته.

    فالمواطنة هي: مقياس إدماج الأشخاص في مجموعة سياسية (أو طردهم منها) هذا من زاوية سياسية. والمواطنة من وجهة نظر اجتماعية، هي ما هو مشترك بين أفراد شعب يُشَرَعْ لهم التصرف ك(رعايا بالكامل) ضمن المجال العمومي.

    2ـ علينا أن نفكر في الطريقة التي يصبح بها الآخر أجنبيا عندما يُنظر إليه (أو إليها) بما هو ليس مواطن المجموعة السياسية نفسها. ففي العقود السابقة، مثلا، شاعت لدى السكان الأصليين في شمال إيطاليا مواقف تجعلهم يستقبلون القادمين من جنوب إيطاليا كمواطنين من الدرجة الثانية، وأحيانا يتساوى بعض المواطنين مع الأجانب من بلدان أخرى.

    ثانيا: الأزمة الحالية للمواطنة بما هي توسط.

    1ـ إن المواطنة بما هي توسط اجتماعي في العلاقة بين الذات والآخر، هي في أزمة في كل مكان تقريبا. وتظهر معالم الأزمة في أوروبا ونظرة شعوبها للمهاجرين المجنسين بجنسيات بلدان أوروبية، كما تظهر في الولايات المتحدة، وقد حسم الصراع في موضوع المواطنة بجنوب إفريقيا بعد إراقة دماء كثيرة، لإعادة تأطير وتعريف المواطنة.
    وإن الضمانات للاندماج المواطني (نسبة الى المواطنة) والتي حددها (مارشال) تعود حقيقة على (الحضارة Zivilisation) لا على (الثقافةKultur) .

    2ـ لقد اقترح (ب تورنر) دورا للمواطنة الثقافية فقال: (هي مكونة من تلك الممارسات الاجتماعية التي تخول للمواطن المشاركة التامة والفعالة في الثقافة القومية) وإن الفهم الحديث للمواطنة الثقافية قد حملنا الى:

    أ ـ تغذية نوع من الاستعمار الثقافي (فالطرق التي كانت تفهم بها المواطنة الثقافية وتمارس في المجتمعات الحديثة قد جرت الى تدمير ثقافات السكان الأصليين وتهميش العادات الثقافية) [ الولايات المتحدة، أستراليا ـ مثالان]

    ب ـ إخضاع كل الثقافات الطبقية أو استبعادها من قبل النخب الثقافية التي تحيط بالدولة.

    ج ـ هيكلة المشاركة الثقافية في الثقافة الوطنية على نحو يُخفي تَعَمُد أعتى أشكال الإقصاء الفعلي.

    3ـ إن اللغة التقليدية لمواطنة الوطن/الدولة هي لغة يعارضها الخطاب المقابل لحقوق الإنسان والإنسانية كأرقى نموذج معياري للولاء السياسي. لقد ثبت أن النظام الخلقي للدولة قد يفتح الطريق أمام أخلاق إنسانية كونية، وهذه النظرة دعائية قديمة وقد ثبت أنها غير موجودة والواقع مغاير للادعاء.

    ثالثا: أسلوبان في الإجابة: نموذج الولايات المتحدة ونموذج أوروبا.

    يشير نموذج الولايات المتحدة الى نظرية (البوتقة)، أي أن كل الثقافات الفرعية تستطيع العيش معا بشرط التكيف مع عقيدة وطنية! [ من يرسم خطوط شكل تلك العقيدة الوطنية؟]
    أما نموذج أوروبا، فيستنبط مواطنة قومية مبنية على (أسس إثنية متشابهة). هناك صلة الدم (عروق: السلوفاك والجرمان والإنجلو ساكسون) أو الارتباط المذهبي (كاثوليك أرثوذكس، بروتستانت) وكلها ادعت النضال لإعلاء كرامة البشر على أساس هويتهم كمواطنين.

    أي النموذجين أفضل؟ لا يبدو أن أيا من النموذجين قد يكون صالحا، فكلاهما يلاقي صعوبات كبيرة، ففي الولايات المتحدة يبدو سكون الناس اضطراريا لإبقاء فكرة التعايش المواطنية قائمة، فالعزوف عن المشاركة السياسية والاعتراف بسطوة القائمين على إدارة الدولة، هو ما يخفي التبرم الكبير لدى السكان الفسيفسائيين. أما في أوروبا، فقد رأينا الاستفتاءات في أكثر من دولة لصهر كل شعوب أوروبا في كيان سياسي واحد كيف لاقت فشلا في أرقى الدول المنادية بالمواطنة (فوق القومية) ـ فرنسا، الدنمارك.

    رابعا: نحو نموذج جديد في المواطنة بين الإثنيات

    هناك أبعاد مختلفة للمواطنة تشمل:
    أ ـ الحقوق الاقتصادية (قانون المحاكم)
    ب ـ الحقوق السياسية (البرلمان)
    ج ـ الحقوق الاجتماعية (رفاهة الدولة)
    د ـ الحقوق الثقافية (الحقوق التربوية) حقوق الإنسان.

    يمكننا أن نذكر إلماحتين جديدتين قد يصح اعتبارهما إيجابيتين:

    (أ‌) المواطنة التعاملية وهي تخص الجانب المشترك بين الناس في تعاملاتهم المتبادلة، وهنا يكون الطابع الإنساني أكثر من الطابع غير الإنساني.
    (ب‌) مفهوم المواطنة كمصلحة علائقية مشتركة، وهي مصلحة لا يمكن إنتاجها أو التمتع بها إلا لمن يشتركون فيها. وهؤلاء يمكنهم أن يكونوا (آخرين) بعضهم عند بعض في بداية تعاملهم ولكنهم يصبحون (نحن) بقدر ما يوجهون أنفسهم لإنتاج مصلحة واحدة.

    [ليتأمل القارئ الكريم، النقطة الأخيرة ويحاول إسقاطها على ما تطبق الدوائر الإمبريالية في شمال العراق والسودان وتحاول في الأقطار المغاربية، أن تعزل مصالح الإثنيات عن بعضها لتوغر صدرها في المطالبة بالانفصال. ]

    خاتمة

    لقد كانت المواطنة في الماضي، أساسا، مجموعة قبائل تتفق على معاهدة لعدم التدخل في شؤون بعضها البعض. أما المواطنة الحديثة، فقد جلبت معها شيئا أكثر: عالم كوني مشترك. ولكنها لم تنجح في وضع عامة الناس معا. لقد كانت مشغلا من مشاغل الدولة لا إنجازا من إنجازات المجتمع المدني، تقودها أفعال الحياة القصدية. أما الآن فإنه يمكن أن تصبح المدينة (مدينة الكائنات البشرية) وهذا يتوقف على كيفية تعريف العلاقات العمومية (أي محتويات المواطنة).

  5. #15
    الفصل التاسع: ما بعد الأحكام المسبقة ..

    قدمه: روبارتو سيبرياني و ماريا مانسي .. أستاذان في جامعة روما ..

    الثقافة والأيديولوجيا

    منذ أن اخترع الفرنسي (ديستيت دي تراسي ) مصطلح الأيديولوجيا عام 1804 كعلم الأفكار، والمصطلح يتذبذب بين مؤيد له كواقع ثابت، كماركس وإنجلز وبين من استنكره واعتبره ضربا من الميتافيزيقيا التي لا حدود لها ولا تعريف واضح، وكان نابليون أول المهاجمين لمخترعي هذا النمط من النشاط الذهني.

    كما أن الثقافة هي الأخرى لم تسلم من اجتهاد في تعريفها، ولا تزال حتى اليوم لا يستقر لها تعريف. وكان أول تعريف أنثروبولوجي للثقافة على يد (تايلور) إذ عرفها قائلا: (الثقافة أو الحضارة في معناها الاثنوغرافي الواسع هي هذا المجموع المعقد الشامل للمعارف وللمعتقدات وللأخلاق وللعادات ولغير ذلك من جميع الاستعدادات والعادات التي يكتسبها الإنسان بما هو عضو داخل مجتمع ما).

    لقد انتقينا هذه المقاربة من مساهمة العالمين الإيطاليين للتمهيد لما سيقولان في موضوعهما الذي حمل العنوان (ما بعد الأحكام المسبقة).

    الاختلاف الثقافي

    عندما نحلل الثقافات والعلاقات الاجتماعية نعثر على عناصر معينة ترتبط بالوظائف الأيديولوجية وما يتبعها من عدم تسامح يظهر في مظهر سياسي. وهذا سيؤدي لتكوين أحكام مسبقة عن مجتمع أو دين أو عرق. وهذا ما يحدث إزاء نظرة الآخرين للعرب.

    حالتان نموذجيتان

    لقد درس (هال Hall) و (وايت Whyte) على سبيل المثال، دلالات نبرة الصوت والمسافة والزمن. ففي مرات كثيرة يفسر أشخاص منتمون الى ثقافة مختلفة ما يفعله غيرهم تفسيرا خاطئا: ( إن ساكن العربية السعودية يخفض صوته حتى كأنه يكلم شفتيه تعبيرا عن احترام من هو أعلى منه مرتبة، كشيخ الجماعة مثلا).

    فإن حصل لنا أن نخاطب أحد الأثرياء الأمريكيين بهذه الطريقة، فإن هذه الطريقة تجعل التخاطب مستعصيا تماما. فمن منظور الحضارة الأمريكية، لما يرفع المتكلم صوته يترقب بطريقة لا شعورية من مخاطبه أن يرفع صوته بدوره، لذلك فإن الأمريكي يتكلم بصوت مرتفع دائما. هذا خلاف واضح في النمطين، لا يجوز بناء موقفنا من تصورنا لمن يخالف نمطنا.

    النموذج الثاني: الإلحاح في منطقة الشرق الأوسط. فإن أراد أحدهم إصلاح سيارته، سيمر على المصلح عدة مرات في اليوم أو الساعة ليبين له أنه على دراية بما يقوم به ذلك المصلح، هذا السلوك موجود في العالم العربي في مختلف المجالات، في حين أنه في بلاد الغرب يعتبر عيبا.

    التسامح وعدم التسامح: المباعدة الاجتماعية

    قد نجد أشخاصا موصوفين بالتسامح، ينقلبون فجأة لغير متسامحين، وتتوه القدرة على تصنيفهم، لماذا انقلبوا؟ إن هذا يحدث عندما يتواجد الفرد داخل جماعة مستفحل فيها الفصل الثقافي، كوجود أشخاص يناصر بعضهم البعض عندما يتعرض أحدهم لغمز من طرف مجموعة ثقافية مختلفة. (هذا يحدث بوجود أشخاص ينتمون لقومية داخل وسط مغاير لقوميتهم: مجموعة عربية داخل مجتمع فرنسي في المهجر، أو مجموعة كردية داخل مجتمع عربي، أو أبناء إقليم أو مدينة داخل مجتمع مغاير الخ).

    العلاقة الثقافية

    إن السلوك الثقافي المتبادل (الما بين ثقافي) مشروط بالدور الذي تؤديه الأطراف المتقابلة أكثر مما هو مشروط بمشاعر الأفراد. وبالتبعية من الواجب الانتباه للأشخاص الذين يلعبون أدوارا يشتركون فيها مع ثقافات أخرى.

    يورد الباحثان حالتين للتدليل على قولهما السابق. في جريدة (لوموند) وتحديدا في 25/9/1981 في الصفحة الخامسة تورد خبرا (أصدرت الحكومة التونسية منشورين حجرت بمقتضاهما على النساء حمل الخمار الذي له صبغة طائفية)

    في 28/9/1981 أي بعد ثلاثة أيام نطالع في الصفحة الثالثة من الجريدة عينها (أنه يُمنع على النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب دخول المطارات في إيران).

    إن المراقب من خارج الدائرة الإسلامية، سينظر للواقعتين بطريقة تعود الى الزاوية السياسية (الدعائية) في تفسير الدين، وهذا ليس له علاقة بنمط الثقافة العامة للمجتمع بالقدر الذي تريد الدولة تفسيره.

    الوحدة والتنوع في الثقافة

    يجوز التسليم بفرضية التنوع داخل الوحدة، كما يذهب الى ذلك معظم فقهاء المسلمين، مستندين الى قواعد (الناس يتساوون عندما يركعون أمام الله في صلواتهم، وليس في ذلك فضل لعربي على عجمي) [ هكذا ترجمة النص: ومن المؤكد أنه كان يقصد أن الناس سواسية كأسنان المشط الخ الحديث].

    ويقال أيضا إنهم متساوون دائما في الحقوق والواجبات، في حظوظ العمل وأمان العيش، في العدل وفي الوضع المدني. وتؤكد الثقافة الإسلامية (أن الإسلام لا يكتفي لا بتعداد مظاهر الإخاء الإنساني ولا بإدانة التمييز العنصري بشتى صوره، وإنما يقدم لنا أمثلة واقعية مستقاة من حياة النبي (صلوات الله عليه) وصحابته وخيرة التابعين له (يعتمد الباحثان على دراسة قدمها عبد العزيز عبد القادر كامل لليونسكو طبعت في باريس عام 1970).

    لكن هناك من يرى أن الاضطرابات التي مر بها سواء الماضي الإسلامي أو الماضي المسيحي، لا تعني باللزوم نهاية نسق ما، وإنما على العكس هي التي تجيز له ديمومة التغير: التغير نسبة الى نفسه ونسبة الى الآخرين ونسبة الى العالم.

    لكن تجميع الأجزاء في الكل لا يلغي التعددية بل على العكس تماما، إنما يشترط تعاونا بين كل الهويات الثقافية. وهذا ما يؤول الى التسامح.

    النزاع الثقافي وفهم الذات الجماعي

    إن التسامح لا يَصْدُق بين الشرق والغرب فحسب، وإنما على تحول ثقافة ما من ثقافة تقليدية الى ثقافة أخرى أكثر رقيا وعالمية. هذا ما استحضره (فون غرونباوم) في الآثار الأدبية لأحمد أمين (حياتي) وهيكل (مذكراتي) و طه حسين (الأيام)، فما جاء بمذكراتهم لا يهتم بالتغريب الثقافي بل بالنزاع الثقافي داخل الإسلام.

    هذه المسألة أشار لها (فون غروبناوم) عن أولئك الذين يتعايشون مع العرب، لكنهم لا يقبلون بسيادتهم القومية عليهم (أكراد، أمازيغ، مصريين مسلمين) لكنهم بنفس الوقت لا يريدون التنازل عما اكتسبوه من حضارة إسلامية أسس لها العرب.

    خاتمة

    لا يزال هناك في أوروبا وأمريكا وإفريقيا من يلصق بالعرب صفات سلبية كالتعصب وتكاد لفظة (عربي ـ متعصب) أن تكون واحدة.

    إن التحيز في سرد الأحداث يساهم مساهمة بالغة في إبراز سلوك العرب والمسلمين في مظهر سلبي عدواني متعصب.

    إن الدعوة التي أطلقها (أنور السادات) لحوار الأديان الثلاثة (في سيناء) تدعو الى التسامح الديني. ولكن لماذا الحديث عن أديان ثلاثة؟ ولماذا الحديث عن الأديان حصرا؟

    ربما لأن الأديان تُجَوِز لنا أن نعرف الآخرين. ولكن وعلى نحو ما قال تودروف:
    (لن نتوصل أبدا الى أن نعرف الآخرين. .. فسيان أن تعرف الآخرين أو أن تعرف ذاتك، فهما شيء واحد)

  6. #16
    الفصل العاشر: صورة الآخرين كخلفية لتصور الذات في المجتمع الروسي ..

    قدمته: آنا أندرينكوفا : أستاذة في معهد البحوث المقارنة ـ موسكو


    تتسم مساهمة الكاتبة ـ هنا ـ بأنها جاءت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فتحمل في طياتها سمات التحرر والانطلاق من الرقابة الموجهة التي كانت سائدة قبل تفكيك وانهيار الاتحاد السوفييتي. لكنها في الوقت نفسه، ركزت على ربط الجانب السياسي مع الاجتماعي، ربطا لم نلحظه في كتابات من سبقها. صحيح أن الكاتبة قد أخذت النموذج الروسي في بحثها، لكن البحث يمكن أن ينسحب على غير روسيا.

    أولا: إطلالة تاريخية على الدراسات في السياسة الخارجية.

    في السابق، كان اهتمام علماء الاجتماع يأخذ السياسات الخارجية للبلاد من منطلق القوالب المجترة والجاهزة. لكنه في الستينات من القرن الماضي (ال20) انكبت الدراسات الاجتماعية في هذا المضمار على دراسة العلاقات الدولية، فتناولت الدراسات أثر العوامل النفسية في العلاقات الدولية. إلا أن دراسات الستينات لم تكن لتشير ولو مجرد إشارة عابرة الى مفهوم القيمة، ومفهوم التوجهات الأكسيولوجية (نظرية القيم) ومفهوم الثقافة السياسية.

    ويمكن تصنيف نظرية القيم التي انتشرت في نهاية الستينات الى صنفين: الأول يعني بالإشكالية العامة لمفهوم القيم. والثاني: يعني بتحليل نتائج الاستفتاءات والاستمارات الشعبية بهدف تبيان التوجهات (القيمية) في ميادين محددة مثل قيم العمل والقيم السياسية والقيم الأسرية وغيرها.

    ثانيا: ما هي توجهات السياسة الخارجية؟

    ستقتصر الباحثة بحثها على النموذج الروسي. فتقول: تتشكل الثقافة السياسية من جملة من العناصر الفعالة نخص بالذكر منها: مساحة بلد من البلدان، وإمكاناته الاقتصادية والسياسية، وموقعه الجغرافي، وقوة البلدان المجاورة له ومساحتها وتجاربها التاريخية في التعامل مع غيرها من الشعوب، وأثر كل ذلك في السلوك السائد فيها.

    ثالثا: مكانة التوجهات السياسية الخارجية في نسق القيم الشخصية.

    تتحدد قدرة الوعي الجماعي على التحقق من المسلمات الأيديولوجية بواسطة الاختبار والتجربة في حقل الحياة الاجتماعية. غير أن الوعي الاجتماعي ليس بحوزته (مصفاة) يمكن بواسطتها تنقية وتعديل والحكم على السلوك في السياسة الخارجية. وتتدخل هنا التجارب الفردية أو القيم الأيديولوجية أو القوالب الجاهزة التي تمارسها النخب (من الدولة والمجتمع) على الإملاءات الموجهة للمواطن المتلقي في الداخل.

    رابعا: صورة الغرب القومية

    يعود مفهوم الصورة القومية التي يحملها الفرد (أي فرد) عن انتمائه القومي الى مصدرين اثنين: الأول قديم تمثل في الدراسات التي تناولت الشخصية القومية والصور القومية على أيدي مفكرين كبار. فهم في أوروبا (مثلا) مونتسكيو وهردر. وتطورت هذه الدراسات الى ما وصلت عليه. والثاني: حديث نسبيا بدأ مع مطلع القرن العشرين، حملت معها في مختلف بقاع العالم رؤية جديدة لتلك القضية، فحولت مراكز ثقلها الى مواقع مختلفة. وكانت روسيا والروس معها مواضيع دراسات تتناول البحث في الأسباب والمنابع القيمية والنفسية التي تكمن وراء التوجهات الاشتراكية والعقيدة البلشفية.

    خامسا: صور الآخر ودورها في بناء الوحدة النفسية الاجتماعية.

    كيف يتكون الشعور بالاندماج؟ ما هي أسس اندماج (الأنا) في الجماعة؟ من الشروط الأولية لبناء وحدة بسيكولوجية اجتماعية هو (إنشاء صورة الآخر). فبفضلها تتحقق نزعة الفرد الى خلق انشطار بين (نحن) و (هُمْ) .

    بعد هذا التسلسل تحاول الباحثة إسقاط ما تناولته على استفتاء قام به معهد الدراسات الاجتماعية المقارنة (موسكو) مع الجمعية الأوروبية لدراسات الأنظمة (الأكسيولوجية : أي القيمية) بين عامي 1984 و 1991 وشملت 1270 شخصا تفوق أعمارهم 18 عام.

    لن نطيل في تحليل تلك الدراسة، لكننا سنذكر الأسئلة التي شملتها عن بعض الشعوب :
    هل الشعب الفلاني أهل ألفة اجتماعية؟
    هل هم جادون في عملهم؟
    هل هم صادقون؟
    هل هم مُلَطِفون؟
    هل أخلاقهم حسنة؟
    هل هم محبون للسلم؟
    هل هم أهل ثقة؟
    هل هم أثرياء؟
    هل هم مثقفون؟

    50% ممن تم استفتاءهم أجابوا ب (لا أعرف) وكانت تلك الإجابة لأكثر من شعب، بما فيهم الشعب الروسي نفسه، وكذلك كانت الإجابة عن تصور الروس عن شعوب اليابان والولايات المتحدة وإنجلترا .. فكيف يستطيع شعب تحديد صورته عن شعب آخر وهو لا يستطيع تحديد صورته نفسها؟

    إن هذه الدراسة تبين لنا أن من يرسم صورة الآخر، ليس الشعوب، بل النخب الرسمية وغير الرسمية.

  7. #17
    الفصل الحادي عشر: الإنسان والزمن ـ الآخر .. الزمن بين أسياده وعبيده ..


    قدمه: جيندريخ فيليباك .. أستاذ في جامعة براغ ـ تشيكيا

    شعار نهاية التاريخ يخيم على العالم: إنه شعار ما بعد الحداثة. ما يُعاين أولا هو أن الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الشبان والكهول والمسنين، بين الزمن المعيش والزمن الواقعي، هي حدود آيلة الى الزوال شيئا فشيئا. ومع انمحاء هذه الحدود ينمحي تدريجيا معنى الفعل الإنساني ليخلي المكان لموقف آني ذي نزعة نفعية: التمتع بكل شيء هاهنا وعلى التو. ((أن نعيش الهنيهة الحاضرة هو أمر دوما عسير، ولكن لا مناص لنا منه. إن الشخصية المتفردة التي نصبو إليها لا يمكن أن تتحقق إلا في "الآن" المعيش ... وما دمنا نعيش هذا "الآن" وهذا "الهُنا"، وما دمنا نعيش هذا الحاضر، فإننا نكون أسوياء)) [ اقتبسه الكاتب من أقوال غيره ـ ألماني اسمه رينير زول].

    ((لكل واحد منا شفرته (كودته) ولكل واحد منا صيغته الخاصة، ولكل واحد منا أيضا "منظره" الآني (Look) ولكل واحد منا صورته، حتى لكأننا بهذا "المنظر" منظر تكويني)) [ اقتبسه الكاتب من أقوال فرنسي اسمه جان بودريار].

    أولا: أزمة تصور الزمن

    تتأتى الأزمة الراهنة التي يشهدها تصور الزمن من المغالاة المجحفة التي تطبع (سيرورة) الزمن، أي في نهاية المطاف تخصيص الزمن على (الأنا وحده). أي تأويل الزمن من وجهة نظر ذاتية (فردية) أو ذاتية (جمعية) ..

    ليس هناك في الزمن نقطة صفر مطلقة، فميلاد الشخص له هالة من الاعتبار للشخص نفسه ينظر من خلال تأريخها الى ما قبل ولادته وما بعدها، نظرة لا تعني شيئا بالنسبة للآخرين. كذلك فميلاد السيد المسيح عليه السلام يعني لمجتمع المسيحيين وأبناء الديانة المسيحية مالا يعنيه عند غيرهم، فهو بالنسبة لغيرهم يوم من الأيام.

    كل (ما بعد) له (ما قبله) وكل ما بعد سيصير الى (ما قبل) بعد اكتشاف ما يبهت صورته البهية. ولو استمعنا لأحاديث أناس مختلفين لوجدنا:
    أحدهم يقول: الماضي أفضل مما نحن فيه.
    وآخر يقول: المستقبل سيكون أفضل من الحاضر.
    وواحد يقول: إن ما موجود اليوم ليس بعيدا عما كان موجودا في السابق.
    فيجيب الزمن: أنتم جميعا لا تسلمون بوجودي أنا
    [ اقتبسها الكاتب من فيلسوف صيني اسمه Lu Xun عام 1918]

    ثانيا: أسياد الزمن وعبيده

    ليست مناقشة تصور الزمن مسألة أكاديمية تهم حفنة من الفلاسفة، بل جميع الناس، فعليها يتوقف فهم القضايا الأم التي تواجهها الإنسانية. إن أزمة تصور الزمن واستخدامه تعتمل في قلب عالم يتطور فيه متوسط عمر الإنسان ويتقلص وقت العمل .

    كان متوسط أعمار الرجال بين عامي 1950ـ 1954 (العالم: 44.8 سنة ، البلدان المتقدمة 63 سنة، البلدان النامية 40.3 سنة) وبين عامي 1990 و 1994 كان (العالم 61.1 سنة، والبلدان المتقدمة 71.2 سنة والبلدان النامية 59.5 سنة).

    وخلال عقد من الزمن (1980ـ 1990) تقلصت مدة العمل بالسنين من 45 سنة الى 38 سنة، ونسبة الى العام الواحد من 307 أيام الى 250 يوما، وبالنسبة الى ساعات العمل من 10 ساعات الى 8 ساعات.

    تبين بعض البحوث الجادة أنه على الرغم من تمديد وقت الفراغ، فإن قسما مهما من السكان يشكو من نقص في الوقت ومن شعوره بالضيق تحت وطأة الحياة العصرية المتقلبة داخل التجمعات السكنية الكبرى على وجه الخصوص.

    لكن ورغم ما يسمى بالعولمة التي ننتقي وظيفة لها هنا بتطلب الحلول المتشابهة لكل مشاكل العالم، فلا يجوز أن نكتفي بفرحنا في تهدم جدار برلين، في الوقت الذي تقام فيه جدران مختلفة في أنحاء متفرقة من العالم. وعليه فإن نظرة الناس للزمن المستقبلي تختلف من مجتمع لآخر ومن شريحة لأخرى.

    إن الشرائح الاجتماعية الوسطى تؤجل إشباع حاجاتها الى وقت لاحق. في حين تنزع الشرائح الدنيا الى إشباعها في الوقت الحاضر. أما الأغنياء فيستحوذون توا على كل شيء ويستمتعون به. إن الناس المنكبون على اللحظة الراهنة هم أولئك الذين يجدون أنفسهم مدفوعين نحو مستقبل رسمه لهم غيرهم من الناس. إن المهن غير المؤهلة وغير المتخصصة لا تتطلب من المعارف المكتسبة مسبقا إلا النزر القليل. أما المهن ذات التأهيل الراقي، فتتطلب الأمرين معا (أي المعارف والقدرة على التوقع).

    إن كل حقبة من الزمن، وكل أمة وكل فرد له منظوره الزمني المخصوص: فالبعض يقيس الزمن بمقياس (النانوثانية : أي جزء من مليار من الثانية) في حين هناك أقوام لا تحتاج لشراء الساعة ذاتها، ما دامت وتيرة حياتهم لا تحتاج إليها.

    ثالثا: تملك الزمن في مفترق الطرقات

    من حسن الحظ أن الأزمة ليست تفككا فحسب، وإنما هي أيضا تربة خصبة منها تنبثق إمكانات الانطلاقة الجديدة. ففي أحيان كثيرة لما تشتد الأزمة توفر الشروط لميلاد الأفكار الجديدة والقوى الكفيلة بحلها. والأمر هو عينه بالنسبة لتصور الزمن:
    1ـ ليس من الممكن للإنسان أن يصير سيد الزمن بلا نهاية، أي أن يصير سيد الطبيعة، من دون أن يدرك أن ما يأتيه من أعمال لا معقولة (كإهلاك الغابات الطبيعية) من أجل الربح الوفير والسريع سيؤدي الى حدوث كوارث بيئية تلحق الأذى بالسيد وسيادته.

    2ـ كما أن المرء لا يمكنه أن يكون حرا عندما يدوس حرية الآخرين، كذلك لا يمكنه أن يكون سيد زمانه عندما يفتك بزمن الآخرين.

  8. #18
    القسم الثاني: ما وراء الحدود: نظرة العرب الى الآخر ..

    الفصل الثالث عشر: الآخر في الثقافة العربية ..

    قدمه: الطاهر لبيب (المحرر للكتاب)

    يستخدم الكاتب هنا مصطلح الثقافة العربية، دون (الثقافة العربية ـ الإسلامية)، التي لا يرى الكاتب مبررا للربط بينهما، بزعم أنهما بعدان مختلفان، فعندما يقال أن الإسلام ثقافة المجتمع، فليس هناك إضافة، كالقول عن الثقافة المسيحية في المجتمع الأوروبي، أو الثقافة البوذية في المجتمع الهندي، وأن إضافة إسلامي للمجتمع العربي المعاصر، هي صنيعة من صنائع المستشرقين لغايات معينة.

    ويعتبر بحث الكاتب أطول بحوث الكتاب، حيث يقع فيما يزيد على الأربعين صفحة، وهو أول البحوث الواقعة في القسم الثاني من الكتاب، ومن الصعوبة بمكان الزعم بأنه في المقدور أن يقدم هذا البحث في حلقة واحدة، أو أنه يقدم دون المساس بترابط المعلومات فيه.

    المشهد الأول

    لقد تناول الباحث دوافع الرحلات العربية الى أوروبا في العصر الحديث مبتدءا برفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ومارا ب (محمد بلخوجة التونسي) في (سلوك الإبريز في مسالك باريس الصادر عام 1900). ثم يتناول الباحث ما قدمه (حسن حنفي في جدل الأنا والآخر).

    يذكر الباحث أن الصورة تكون حاضرة عند الزائر أو الرحالة أو المكتشف، دون أن تنتظر تقديم الصورة لنفسها، فكولومبس عندما اكتشف أمريكا أصر على أن الشعب الذي قابله هو (هندي!) وأبقوا صفة (الهنود الحمر) على سكان تلك البلاد الى اليوم.

    وهذا يحدث أن إسقاطات الكاتب أو المدون تلازم ما يكتب عنه، فمن يكتب عن الحيوانات (كليلة ودمنة) تكون صفة الأنسنة وعقل الكاتب ظاهرة فيما يكتب. ومن يكتب عن شعب يزوره، يحاكمه وينتقده ويصوره ضمن مفاهيم من يكتب، فرفاعة الطهطاوي مثلا، عندما يخرج من القاهرة حيث يسميها الناس هناك باسم (مصر) فإن باريس لديه هي (فرنسا) [أول رحلة للطهطاوي كانت 1826]. وهنا تحدد (الأنا) جغرافية الآخر.

    كما أن التداخل التاريخي لمن يزورون الغرب أو يتعاملون معه، هو من التعقيد بمكان، فنحن عندما نتذكر التاريخ الهجري بأننا في القرن الخامس عشر وفي التاريخ الميلادي القرن الواحد والعشرون، يتهيأ للبعض أننا نتخلف عن الغرب بما يزيد عن ستمائة سنة.

    الذات العربية (الأنا العربية) تعرب الآخر، هنا يذكر الكاتب ما توصل إليه (حسن حنفي) في إظهار الآخر وكأنه أحد المحتويات للأنا العربية، سواء من حيث اللغة (كما تناوله الطهطاوي في ترجماته الفرنسية للعربية).

    من الذي اخترع الآخر: الشرق أم الغرب؟

    كما أن الغرب هو من اخترع شرقه، فإن الشرق هو اخترع غربه. ويتطير العرب من تناول الغرب (المستشرقين بالذات) للصورة التي يقدمونها عن الشرق والعرب بالذات، فيصفون الغرب بالتحامل على الشرق وعلى المسلمين والعرب، وينتقون فقرات مما يقدمه المستشرقون على صفحات الكتب والجرائد والتقارير والأفلام السينمائية والتلفزيونية. لكن العرب لا ينتبهون الى ما يكتبونه ويصورونه عن الغرب، ولو انتبهوا وقارنوا ما يكتبون عن الغرب لرجحت كفة ما يكتبه العرب من سوء الغربي عما يكتبه الغربي عن مساوئ العربي.

    لقد انتقى الكاتب جزءا مما كتبه (فؤاد زكريا) بمجلة (التبيين/ الجزائر 1992) واختار مثلا تونسيا دارجا (اليهودي إذا ما لقيت ما تعمل له اعفس على ظله).

    إن كان العرب يستنكرون على الغرب أن يقول عنهم ما يسوءهم، فهم يتغاضون عما يقولون عن أنفسهم، ففي كتابات ابن خلدون عن العرب ما يتفوق على ما قاله الغرب عنهم. وإن كان هناك من سيقول: أن ابن خلدون كان شاهدا على خفوت حضارة العرب فكانت كتاباته تأخذ ذلك الشكل الغاضب، فإن كتابات حديثة كالتي كتبها (حسين احمد أمين) في جريدة الحياة في 28/10/1997 صفحة 19، حيث قال: (العرب في واقع الأمر شعب لا يحسن غير التشدق بالكلمات).

    ثانيا: المشهد الثاني

    تعود المستشرقون، وعودوا غيرهم على استعمال المقابلة بين الإسلام والغرب، وبدرجة أقل بين الإسلام وأوروبا. وهي مقابلة في أحد أطرافها يتواجد المضمون الديني، في حين يكون في بعض الأحيان سياسيا أو جغرافيا.

    تساءل بعض الفلاسفة والمفكرين: عن سر الخلاف بين المسلمين والمسيحيين في مواقفهم تجاه بعضهم، أشار البعض أن توجه المسيحيين الى معرفة الإسلام ليس مرده التسامح المسيحي، لأن الإسلام كان أكثر تسامحا. كما لم يكن الغاية منه الأخذ عن المسلمين، لأن هذه المسألة انتهت منذ الحروب الصليبية، فلم يبق عند العرب والمسلمين ما يتفوقون فيه على المسيحيين من علوم وغيرها.

    هذه النظرة كانت لدى المسلمين في السابق، حيث أن حضارتهم كانت الأرقى في العالم، فماذا سيأخذون من الغرب؟

    يستنتج من يبحث في هذه المسألة بأن حب المعرفة هو ما يدفع الغرب الى التعرف على الحضارة العربية والإسلامية. في حين أن العرب والمسلمين في الوقت الحاضر يتعاملون مع الغرب للاستزادة من علومه.[الباحث هو:برنارد لويس].

    عمق الحضارة العربية هو وراء اهتمام الآخر

    رأى (بروديل) أن الإسلام هو قبل كل شيء وريث الشرق الأدنى بثقافاته واقتصادياته وعلومه القديمة (حضارات وادي الرافدين والنيل واليمن والشام) ويؤكد أن قلب الإسلام فضاء محصور بين (مكة والقاهرة وبغداد ودمشق).

    هذه النظرة يتشارك فيها معظم فلاسفة التاريخ (أوزوالد اشبنغلر وأرنولد توينبي)، لذا فإن التعرف على الحضارة العربية (كآخر) للغرب، يعني التعرف على حضارات تورثها العرب وانسيابها في سلوك أهل المنطقة واحتلالها مكانة في بواطن الثقافة.

    إن الرجوع الى الجاحظ (868م) والى التوحيدي (1010م) والى صاعد الأندلسي (1068م) يؤكد ثوابت هذه الصور المنمطة وتأسيس النظرة للآخر من زاوية (عربية).

    العرب يتعاملون مع الآخر الدخيل بمنتهى الدقة

    كان المسلمون (العرب) ولوقت طويل أقلية في البلدان التي حكموها، فضلا على أن العرب في بلاد العرب (العراق، سوريا وحتى إيران) لم يعتنقوا الإسلام حتى القرنين الثاني والثالث الهجريين. ومع ذلك اشترك غير المسلمين في ترسيخ أسس النهضة العلمية (ترجمة، طب، فلك). ومما يذكر أن عامل هشام بن عبد الملك على العراق قد بنى لأمه (النصرانية) كنيسة. وأن من أعجب الظواهر في أيام العباسيين الأوائل أن تفتح مراكز تبشيرية للنصارى في الهند والصين تحت رعاية الدولة العباسية الأولى( تاريخ العرب: فيليب حتي ص 424).

    لقد انتبه العرب لأثر الدخيل منذ الفتنة بين المأمون والأمين، وعلموا أن الدخيل (غير العربي: الأعجمي) ممكن أن يساعد في إثارة الفتن بين العصبيات العربية لإضعاف مكانتها في الحكم, وهو ما أصبح يطلق عليه (الشعوبية).

    ثالثا: المشهد الثالث: الآخر يصبح غربا

    لا تطول الذاكرة تجاه (الآخر) غير (الغربي) فالتعامل مع المغول بتاريخهم وغزوهم للعراق وتدميرهم للدولة العباسية، ضاع أثره والحقد على من قام به، بعد أن اعتنق المغول الإسلام وذابوا بين شعوب المنطقة. في حين تبقى النظرة ممزوجة بالحقد تجاه الغرب الذي (استعاد) حكم إسبانيا والبرتغال (الأندلس) وتبقى ذاكرة الحروب الصليبية قائمة.

    وقد كانت الحروب الأخيرة مثالا قائما على ما نذهب إليه، فبالرغم من اشتراك الكثير من دول العالم في العدوان على العراق، فإن ما يتذكره أو يذكره المواطن العربي هو الدول الغربية، ولا يذكر كوريا أو اليابان أو جورجيا، ويتناسى مساعدة العرب للغرب في غزو العراق، لأن مساعدتهم طارئة والثابت الآخر هو الغرب وحده.

  9. #19
    الفصل الرابع عشر: صورة الإفريقي لدى المثقف العربي: محاولة تخطيطية لدراسة (ثنائية قبول/استبعاد) ..

    قدمه: حلمي شعراوي .. مركز البحوث العربية ـ القاهرة .

    يشكل موضوع (السود) في الثقافة العربية مشكلة كبيرة لا تختلف كثيرا عن تلك التي تحيط بموضوع المرأة. فهو موقف مرتبك بين الاعتذار عن السلوك تجاه هاتين المسألتين انطلاقا من سماحة الشرع والتعامل الديني الإسلامي مع هذين الموضوعين بشكل إنساني يشهد الجميع به حتى أعداء الإسلام، وبين موقف أو مجموعة مواقف مستمدة من التراث العربي قبل الإسلام وغيره من الروافد التي ورثتها الأمة.

    أولا: إيضاحات تعريفية:

    1ـ يحس العرب بأن لسانهم الذي نزل به القرآن، وكتبت به العلوم الشرعية واللغوية والتطبيقية سواء بأيديهم هم أو بأيدي من دخل الإسلام من غير العرب، يعطيهم الحق في إسقاط نظرتهم لمختلف المسائل على غيرهم من الأمم التي دخلت في دين الله الذي نزل بلسانهم! ومن بين تلك المسائل ما يخص نظرتهم للزنوج والأحباش وغيرهم، التي تكونت لديهم قبل دخول العرب في الإسلام.

    2ـ سوسيولوجيًا، ترتبك النظرة العربية بين القبول والاستبعاد للآخر الإفريقي، ولن يصمد تفسير السلوك (التصويري) العربي تجاه الإفريقي أو الآخر المسلم، الذي حث الله عز وجل في كتابه على اعتباره أخا، كما حث الرسول صلوات الله عليه على مثل ذلك. وفي نفس الاتجاه يميل العربي لقبول الآخر المسلم (عجمي، إفريقي، كردي) في حالات الإنجاز العلمي أو الفلسفي أو العسكري (ابن سينا، الفارابي، يوسف ابن تاشفين، صلاح الدين الأيوبي).

    من ناحية أخرى، تمتلئ الثقافات العربية أو المترجمة بتبرير السلوك المتعالي لعرق تجاه آخر، اليونانيون والبرابرة (أي غير اليونانيين الواقفين على حدودهم)، المكتشفون الأوروبيون لأمريكا وسلوكهم مع الهنود الحمر، الإيطالي الشمالي ونظرته لأهل جنوب إيطاليا. وقد تحدث عن ذلك باقتدار وتفصيل كل من (جرامشي) و(إدوارد سعيد).

    3ـ قد يكون ما كتبه ادوارد سعيد حول هذه المسألة الأحدث والأشمل والأوسع إجابة عن ما هو معروف ب ((الثقافة الامبريالية))، حيث يتحدث عن أنماط من الكتابات الأوروبية وخطابها الاستشراقي أو نحو نظرتها الى إفريقيا والهند، إن مجموعة المؤلفين الذين اختارهم إدوارد سعيد ليكتب عن كتاباتهم يؤكون فيها أن استعمار بلادهم لغيرها كان من أجل نقل الحضارة لها، وعندما يكون الحديث عن رفض تلك الشعوب للاستعمار وثورتها ضده وردة فعل الغرب في قمع تلك الثورات، فإن الكتاب يقولون: ( إنهم برابرة .. ليسوا مثلنا .. ولذا يستحقون أن نحكمهم ونجبرهم على القبول بنا كأسياد عليهم)! (كونراد) .. وكونراد هذا، معروف بأنه معادٍ للإمبريالية!

    4ـ إن علاقة ما ذكر سابقا بالكيفية التي ينظر العرب فيها الى الآخر، هي أن العرب كانوا في عينة من الوقت ينظرون الى غيرهم من الشعوب التي حكموها بأن حكمهم لتلك الشعوب رحمة لها وإنقاذا لها من جهلها. وبغض النظر عن صحة تلك المعلومة من عدمها، فإن تلك النظرة عاشت ولا زالت تعيش في نمطية تفكير المثقفين والكتاب العرب، ومن يطلع على أدب (الرحلات) سيجد أن الرحالين العرب ينظرون الى المناطق التي زاروها وفق ما ذكرنا.

    ثانيا: ظروف تأسيس الصورة: صراع/استبعاد

    كان لمجاورة الحبشة (إثيوبيا) لبلاد العرب الدور الكبير في تأسيس صورة الإفريقي عند العربي. وخصوصا أن الاحتكاك العربي الحبشي استمر زهاء سبعة قرون، بدأت قبل ميلاد المسيح عليه السلام بقرن من الزمان، وقد وجد ما يدل على ذلك في نقوش أكسومية تعود الى (مملكة الشجرى الأثيوبية) قبل المسيح بقرن، حيث نجد أن الملك الحبشي يذيل اسمه وتوقيعه ب (ملك أكسوم وحمير وريدان وحبشة وسلع وتهامة)*1 وانتهت بإحلال الفرس والروم محل الأحباش المستعمرين والحاكمين لجنوب جزيرة العرب (اليمن) والطامحين في محو رموز العربية في الشمال (مكة ـ وغزو أبرهة الأشرم).

    ويذكر الجاحظ في كتابه (فخر السودان على البيضان)*2 على لسان الزنج أنهم قالوا: (نحن قد ملكنا بلاد العرب من الحبشة الى مكة وجرت أحكامنا في ذلك أجمع، وهزمنا ذا نواس وقتلنا أقيال حمير، وأنتم لم تملكوا بلادنا.

    وبعد أن اندثرت قوة الأحباش وتشتت جموعهم، تحول كم هائل منهم الى عبيد أو مقاتلين مستأجرين لتجار مكة ومن حولها، وقيل لقد أعتق الزبير بن العوام وحده ألفا من العبيد الأحباش*3

    لقد اتسمت معاملة العرب للسود بالتجاهل وليس بالعداء أو الاحتكار والتفاخر عليهم. فلم يجد أي باحث في المعلقات السبع ما يشير الى ذكر السود بسوء أو انتقاص.

    ويشير التاريخ أن السود لم يكن منهم شعراء كثر ويذكر التاريخ منهم أربعة أو سبعة، إذ أن الشعر كان له وظيفة النطق بلسان الشاعر عن قومه أو قبيلته، في حين أن السود إن نظموا الشعر لا يذكرون قبائلهم ولا يقولون: نحن بل (أنا) وهذا ما نلاحظه بشعر عنترة و خفاف بن ندبة وسليك ابن السلكة وأبو عمير بن الحباب السلمي.

    فهذا عنترة يقول:
    ينادونني في السلم بابن زبيبة .......... وعند صدام الخيل بابن الأطايب

    ويقول في موضع آخر:
    وأنا الأسود والعبد الذي .......... يقصد الخيل اذا النقع ارتفع
    نسبتي سيفي ورمحي وهما ......... يؤنساني كلما اشتد الفزع

    ثالثا: عصر الإمبراطورية العربية ـ الإسلامية :
    قبول/استبعاد


    أحس العرب أنهم قاموا بتأسيس ما يشبه (العولمة) في إمبراطوريتهم الواسعة، والتي لم يكن للعرب ذكر في اسمها، ولكننا نناقش تلك المسألة في لحظة معاصرة وبأدوات تقييم متأثرة بما يدور حولنا.

    حقا كانت السمة الإسلامية سائدة على وصف تلك الإمبراطورية، لكن لم تختف من تلك الأجواء المفاخرة العرقية، ففي حين كان يشعر العربي بأن الفضل في تأسيس أركان تلك الإمبراطورية يعود له وحده، دون مشاركة أقوام أخرى من غير العرب، فهم من هدموا أركان الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية دون مشاركة أحد.

    بالمقابل، فإن أقواما أخرى تتطير من إلصاق العروبة بالإسلام على النحو الذي يبرز دور العرب بشكل استثنائي، بل تذهب تلك الأقوام الى أبعد من ذلك حينما تربط التطور العلمي والأدبي والفلكي والفلسفي بما أتت به كأمم اعتنقت الإسلام ولها ماض حضاري عريق (الفرس) أو كقوى لها دورها في الفتوحات العسكرية وتثبيت حدود وشكل الإمبراطورية، (ترك، كرد، أمازيغ).

    هذا الأمر جعل العرب يزيدون من تفاخرهم، وإرجاع فضل تلك الثورات العلمية لهم هم كحاضنة أو رافعة هيأت لجهد المجتهدين. ومن يشكك بهذا القول رماه العرب بوصف (الشعوبي).

    لنعد الى الأفارقة، وطبيعة التعامل العربي معهم:
    لا شك أن ما مررنا عليه لوصف النظرة العربية تجاه الآخر الأفريقي، هو من الأهمية بمكان، بحيث أن مناطق إفريقية سوداء دخلت في الإسلام وتحت كنف الدولة المركزية لكنها لم تحظ بقدر كاف من الرعاية لها، وهذا من وجهة نظر الأفارقة آت من الإهمال المتعمد أو الشعور بالتعالي أو الاثنين معا. والأفارقة محقون بذلك، فقد عرف العرب مثل ذلك السلوك على أيدي الأتراك، عندما اعتنوا بحواضرهم وأهملوا حال المدن والقرى العربية.

    مستويات متعددة من موقف الدين أو وصفه للسود:

    1ـ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات 13)(الدعوة للالتزام بالمساواة بين المسلمين)
    2ـ الناس سواسية كأسنان المشط .. .. لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى (تأكيد موضوع المساواة)
    3ـ إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (يوسف 2) .. تخصيص للعربي
    4ـ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة 24) أحقية الفاتح على المهزوم.
    5ـ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه(آل عمران 106).. و (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (الزمر 60) و (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا) النحل 58


    إن تفسير تلك الآيات من لدن العلماء لم يشفع كثيرا في إزالة بعض الأذى الذي يلحق بالسود.

    كما أن تلك القصة التي تظهر بالتوراة وتتناقلها كتب التاريخ العربي من أن (حام) جد السود كان ينظر الى عورة أبيه (نوح) عليه السلام وقد وشى (سام) بذلك لأبيه فدعا عليه بأن الله (يسود وجهه)!

    لقد كتب أستاذ إفريقي مجتهد هو (آرشي مافيجي) عن تلك النظرة المتوطنة عند غير السود تجاههم شيئا جميلا يهمنا منه ما أطلق عليه: القيمة الاستعمالية (Use Value) وهو مصطلح استبدل به مصطلح (فائض القيمة) في الكتابات الاشتراكية.

    سنكتفي بهذا القدر في هذا الموضوع.

  10. #20
    الفصل الخامس عشر: جدل الأنا والآخر: دراسة في تخليص الإبريز للطهطاوي

    قدمه: حسن حنفي : أستاذ ورئيس قسم الفلسفة ـ جامعة القاهرة.

    أولا: مقدمة، الموضوع والمنهج.

    كانت الحضارة الإسلامية عبر التاريخ في علاقة مستمرة مع الحضارات المجاورة، اليونان والرومان غربا وفارس والهند شرقا، قبل الإسلام وبعده، بل إن إبداعات الحضارة الإسلامية هي نتيجة لهذا التفاعل بين الداخل والخارج، بين الموروث والوافد، بين النقل والعقل، بين علوم العرب وعلوم العجم، بين علوم الغايات وعلوم الوسائل، أو بلغة العصر بين الأنا والآخر.

    في الفترة الأولى كان الآخر معلما والأنا العربية الإسلامية متعلما، وفي الفترة الثانية كانت الأنا العربية الإسلامية معلما، في حين كان الآخر متعلما، ثم جاءت الفترة الثالثة ليعود العربي المسلم متعلما على يد الآخر المعلم.

    في شرح حسن حنفي وتعليقه على كتاب الطهطاوي (تخليص الإبريز) يحاول معاينة العربي لصورة (نفسه) في مرآة الآخر الغربي على لسان الطهطاوي.

    ثانيا: الأنا إطار جغرافي للآخر.

    رغم أن كتاب الطهطاوي كان المقصود منه وصف الآخر (باريس)، من منظور (متمركز) في القاهرة أو الإسكندرية، ليعمم الآخر الأوروبي على حالة أهل باريس، من منظار من يزعم أنه يمثل الشرق العربي أو حتى الإسلامي. فلا باريس كل فرنسا ولا فرنسا هي كل أوروبا، حيث أن في أوروبا أنماط مختلفة بما فيهم المسلمين في شرقها الذي كان منه جزء من الدولة العثمانية (آنذاك)، وكذلك ليس القاهرة هي كل العرب أو كل المسلمين، فهناك أنماط متعددة من الشرق، الذي سيضم بين ثناياه (الدولة العثمانية) بجزء أوروبي من جغرافيتها!

    هذا النهج بدا جليا لا في كتابات الطهطاوي فحسب، بل سبقه إليها من هو أقدم منه، فظهرت بالتراث القديم من خلال كتابات السيوطي في كتابه (منتهى العقول) وكتابات أبي الفداء في كتابه ( تقويم البلدان، وكتابات حاجي خليفة في كتابه (كشف الظنون) وكتابات الخوارزمي في كتابه ( غريب الإيضاح في غريب المقامات الحريرية) والمسعودي في كتابه (مروج الذهب). وكذلك فإن الكتاب الغربيين قد تناولوا الشرق بنفس الروحية وكان هذا واضحا في كتابات البارون دي ساسي في كتابه ( تاريخ الدول) الذي ترجمه للعربية ابن الكرديوس.

    هذا النهج الذي اتبعه كتاب الشرق والغرب في نظرتهم للآخر أثر ولا يزال يؤثر في تحديد السلوك شعبيا ونخبويا لكل طرف تجاه الآخر. فلا زال المواطن والواعظ على المنابر ينظر للغرب على أساس أنه (غرب واحد)، فبلغاريا في نظر العربي لا تختلف كثيرا عن فرنسا أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية، وإيران في نظر الغرب و الصهاينة هي كالمغرب والعراق و باكستان!

    ثالثا: الأنا مرجع تاريخي للآخر

    يضع الطهطاوي الأنا في مسار تاريخها الهجري، ويلحق مسار تاريخ الآخر قبل أن يحدث الاغتراب في الوعي العربي الإسلامي ويصبح مسار تاريخ الآخر هو المرجع التاريخي لمسار تاريخ الأنا، فهذا الطهطاوي نفسه يؤرخ لسفره لفرنسا: خرج الطهطاوي من مصر في 8 شعبان 1240هـ الموافق 1826م.

    في حين كان العرب يؤرخون لاكتشاف أمريكا بخروجهم من الأندلس، وأرخوا فيما بعد عن الثورة التي حدثت في فرنسا بين أنصار الملكية وأنصار الجمهورية، فأرخوها مع الثورة الهمامية في صعيد مصر التي قادها شيخ العرب (همام) مع الفلاحين العرب ضد الدولة.

    رابعا: الأنا والآخر في المرآة الاجتماعية

    يتم وصف الأنا والآخر في مرآة الحياة الاجتماعية، وفق الحالة التي يتحدث بها الكاتب، فيكون الآخر منضبطا دقيقا ويكون الأنا منفلتا لا يحترم القوانين، وتكون النساء عند الآخر غير عفيفات بما فيه الكفاية وأزواجهن غيرتهم قليلة. ويكون الاختراع والعمل عند الآخر والكسل والخمول عند الأنا، ويكون البخل وعدم رغبة الآخر في مساعدة غيره، في حين يكون الكرم وحب المساعدة للغير عند العربي. وهكذا مئات بل آلاف الثنائيات التي استخدمت اجتماعيا ولا زالت.

    خامسا: الأنا وتعريب الآخر

    لما كان التقابل بين الأنا والآخر هو تقابل لغوي، بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، فقد استطاعت الأنا تعريب الآخر أكثر مما استطاع الآخر فرنسة الأنا.

    فعندما يتحدث الطهطاوي عن باريس يقول: هي كرسي أو تخت فرنسا (تمشيا مع استانبول تخت الدولة العثمانية)، ويقول عن القانون الفرنسي: الشريعة الفرنسية، ويتحدث أمر محتسب باريس الخبازين بصناعة الخبز. ثم إن أراد أن يتحدث عن مبتكرات لغوية لمسائل لم يعرفها الشرق العربي قال (الرسطراطورات) ويقصد المطاعم، وكذلك (الكرنوال) : اي الكرنفال. وقد سبقه العرب عندما عربوا الأمكنة حسب لسانهم فقالوا: قشتالة يعني كاستل.

    سادسا: علوم الأنا وعلوم الآخر

    لقد تفوقت الأنا في علوم الدين، في حين تفوق الآخر في علوم الدنيا، ويقول لقد كان سبب قوة الآخر هو العلوم الدنيوية فإن سبب ضعف الأنا هو ضياع هذه العلوم منها. لقد كان سبب استعمار الإفرنج لأمريكا قدرتهم على ركوب البحر ومعرفة قواعد علوم الفلك والجغرافيا وحبهم للسفر والطبيعيات بل أتقنوا ما وراء الطبيعيات وأقاموا البراهين على خلود الأرواح واستحقاق الدين والدنيا معا، وقد جهلنا الفنون أو العلوم العامة والخاصة معا.

    وإذا كان الغرب قد فرق بين العلم والفن وأبدع في كليهما، فإننا وحدنا بينهما وتأخرنا فيهما. وإذا كان الغرب قد برع في العلوم الرياضية والطبيعية ولم يهتد الى طريق النجاة في الآخرة، فإننا قد برعنا في العلوم الدينية ولم نهتد الى طريق الصلاح في الدنيا.

    سابعا: من أدب الرحلات الى علم الاستغراب

    ينتهي الأستاذ حسن حنفي مناقشة كتاب رفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز)، بأنه لا يعدو مستوى أدب الرحلات، فهو إسقاطات شخصية على مسائل عامة كبرى، فيقيس الجزء ويسقطه على العام دون برهان ثابت ومطلع. وهذا النوع من الفكر يصلح للتوجه للعامة لا للمختصين. ثم لا يخفي الطهطاوي انبهاره بالغرب وحضارته، فيتحول من رحالة الى مبشر بتقليد الغرب في كثير من الأمكنة في كتابه.

    الموضوع أوسع بكثير مما لخصته فيه وأخشى أن يكون تلخيصي يشوه روعة المادة .. اقتضى التنويه

صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. صورة العربي والمسلم في السينما الأمريكية
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-23-2015, 02:41 AM
  2. صورة العربي والمسلم في السنما الامرريكية
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 11-15-2014, 06:47 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-04-2013, 06:44 AM
  4. صورة حواء في المسرح والسينما في عالمنا العربي
    بواسطة وائل مصباح في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-06-2013, 01:18 PM
  5. الوجه الآخر للاعلام الغربي
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 11-09-2007, 10:29 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •