قصة من المجموعة:
.................

بيت خلف الأسوار

بقلم: حسني سيد لبيب
......................

تحلم ببيت لم تره، خلف الأسوار الشائكة، والأرض الملغومة. يشير أبوها إلى الناحية التي تشرق منها الشمس، يقول للصغيرة :
- هناك، لنا بيت كنا نعيش فيه منذ سنوات بعيدة..
يحكي لحنان عن أسلافها، عن جده وأبيه، عن البيت الواسع الذي تحوطه أشجار البرتقال، وكروم العنب تزدهي عند ركن أثير لديه، بجوار الدرج المفضي للدار. وبوابة حديدية تحكم غلق السور الحجري المنخفض. تستزيده الحديث عن أيام زمان. ينبش جعبة الذكريات، تتتابع الذكريات، تتراكم.. تتزاحم في زخم لا يعرف بدايته ولا نهايته.
تسأل ابنة العاشرة :
- لماذا تركنا بيتنا ؟
نكأت الجرح القديم، النازف. يصمت قليلا. يحار في الإجابة. يطول الصمت..
يتكلم وفي حلقه غصة :
- غدا نعود..
تبيت الصغيرة في فراشها. تحلم بالغد القادم. تحلم بالبيت الواسع، والأزهار، والأشجار الظليلة، تحلم بالبيت الآمن.. تتثاءب في فراشها الناعم، تقبل الأم من وراء حجب الغيب، تهدهدها، تصفف شعرها وتجدله ضفيرة تزين ظهرها. تضع في شعرها حلية ذهبية مرصعة بفصوص اللآلئ، أشبه بتاج الملكة. في الصالة الفسيحة تجلس إلى كرسي وأمامها أطايب الطعام. تتدلى ثريا كبيرة من السقف، تسقط أضواؤها على الأطباق، فتحولها إلى قطع ماسية ذات بريق أخاذ. دائرة الحلم تطوف بها في أرجاء البيت الواسع. وصيفتها.. آه.. من المفروض أن تكون لها وصيفة تعتني بشئونها وتهدهد أحلامها.. تحرص على نظافة الغرفة.. ترتب ملاءة السرير والوسادة والأغطية، تنظف الأثاث.. الدولاب والسرير والمكتب والكرسي.. ترتب لعبها وعرائسها وحاجياتها.. تسقي الزهرية التي تتدلى أزهارها في نسق بديع الشكل واللون.. ثم تجلس بالقرب منها، تحضنها كأمها التي ماتت ولم ترها.. تحكي لها حكايات عن الأميرة والفارس، عن مغامرات علاء الدين والفانوس السحري، عن سندريللا الفقيرة التي أحبها الأمير..
تفيق من الحلم على صوت رعد مخيف. يكاد سقف الغرفة الواطئ يسقط عليها.. تبكي.. تهرع إليها أختها الكبيرة عائشة.. تحضنها.. لم يكن رعدا يبشر بزخات مطر، إنما هي طلقات مدفعية مصوبة إلى مخيم (الشاطئ) الذي يعيشون فيه.. تعرف الأختان مكان اختبائهما، أسفل السرير‍.. أما الأب فيهرع إلى سلاحه البدائي، ويتوجه مع الرجال إلى مواقع يعرفونها جيدا.. يقاومون.. يدافعون عن حق البقاء.. إن حرب إبادة منظمة تشن من حين لآخر.. لا يهنأ لهم عيش. ترتجف حنان. تتصلب عروقها. تحضنها عائشة وتربت على ظهرها. تتشبث بها في قوة.. كانت تحلم.. أي وحش كاسر أيقظها ؟ أفاقت لواقع أليم تعيشه بكل جوارحها.
تسأل أختها :
- متى ينتهي الضرب ؟
- حالا..
- كنت أحلم..
- بم حلمتِ ؟
حكت لها ما علق بذاكرتها من الحلم الجميل. كانت ترتدي ثوبا أبيض مرصعا باللؤلؤ والماس..
خفت حدة الضرب.. سمعت صوت سيارات الإنقاذ وتصايح الرجال وهرولتهم. هرع الشبان لإطفاء الحرائق المشتعلة..
خرجا من مخبئهما..
- يمكنك الآن أن تحلمي..
لكن الصغيرة أصابها رعب، نست حلمها الجميل. أطلت بعينين مندهشتين، تتلفت حولها خائفة. خرجت عائشة إلى باب الدار تنتظر عودة أبيها، الذي أتى في تؤدة ورأسه مطأطئ.. قال لها :
- قتلوا زيادا..
- زياد ؟.. ابن عمي ؟
- أصابته طلقة طائشة.. إنهم يطلقون النار في جنون.. يأتون على الأخضر واليابس.
قال في أسى :
- الله يرحمك يا زياد..
استغرق يقرأ الفاتحة على روح الشهيد. وجمت عائشة. كان زياد قد تقدم لخطبتها. ارتجفت. ما هي إلا لحظات صمت موحش انطلقت بعدها دموع غزيرة، وتشنجات. احتضنت أباها، الذي همّ بمواساتها، فاحتبست حروف الكلام في حلقه، وتجمدت في عينيه دمعتان..
- خذي بالك من حنان.. سأكون مع أخي حتى نشيع الجثمان الطاهر في الصباح..
كان زياد بطلا ثائرا. دافع هو وزملاؤه عن المخيم. احتل موقعا متقدما، يواجه منه آليات المحتل الكاسحة..
خرج أهل المخيم عن بكرة أبيهم. شيعوه إلى مثواه الأخير. زفت عرسه الملائكة وأرواح الشهداء الذين سبقوه. شيعته الأشجار والنخيل والجبال والوديان والحقول وينابيع المياه والبيوت. شيعته مزارع الفاكهة، وبسلتين الورد وأغصان الزيتون. شيعه الناس الذين أتوا من كل حدب وصوب.. وانطلقت مظاهرة تندد بالقتل والظلم..
" إلى جنة الخلد يا زياد.. ".
مرت الجنازة أمام بيتها. خرجت حنان تقف إلى جانب عائشة، التي صرخت طويلا.. تصاعد عويلها إلى عنان السماء. هرعت النسوة يمسكن بها. كلمات عزاء تقال، لكن عائشة انفكت من بين أيديهم وتمرغت في التراب.. ارتجفت حنان.. بكت مرعوبة.. صرخت على صراخ أختها.. تعالى صراخ الصغيرة.. اتشحت السماء بسواد وتلبدت بغيوم، تشارك في الحزن الشامل على فراق الشهيد..
علا صوت شيخ :
- لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..
وردد خطيب المسجد :
- كل نفس ذائقة الموت..
تعالت أصوات المشيعين :
- إلى جنة الخلد يا شهيد..
اقتربت حنان من أختها الممددة على الأرض. اخترقت السياج الملتف حولها من النسوة المتشحات بالسواد.. مدت يدها الرخصة تمسح خد أختها الملتهب حمرة. اقتربت أكثر، طبعت عليه قبلة.. ابتعد موكب الشهيد عنهما.. منعتها السيدات من تشييع الجنازة حتى تبقى مع حنان.. امتثلت لهم، لكنها أكملت حزنها في البيت.. الصغيرة انكسر حلمها الذي كانت تحلم به كل مساء.. توقعت أن يحكي لها أبوها عن البيت الجميل الذي تركوه في بلدهم الحبيب، ذات يوم حزين.. اصطكت أسنانها. لسعة برد مفاجئة أصابت جسمها برجفة.. احتضنتها عائشة وآوت بها إلى الفراش..
أصابتها حمى.. وضعت عائشة "كمادات الثلج" على رأسها. راحت في إغفاءة، وطفقت تهذي بكلام كثير عن الموت والبيت، عن المخيم والوطن، عن أطفال مثلها يعيشون آمنين.. نطقت "زياد".. كررت الاسم مرات ومرات..
بكت عائشة..
- أوجعتِ قلب أختك.. أتحبينه مثلي ؟
نظرت إليها بعينين حمراوين.. أعادت عائشة وضع "الكمادات".. هرعت إلى جارتها أم ياسر، لعلها تستطيع عمل شئ..
أحضرت أقراصا مسكنة، وأخرى خافضة للحرارة..
تحلقا حول الصغيرة الراقدة.. التي ما زالت تحلم بالجنة الموعودة. أهي البيت الواسع الذي تركه الأسلاف قسرا ؟ أم هي جنة الشهيد تراها في الحلم الزاهي ؟
رجع الأب قرب الغروب، فوجد ابنته تفتك بها الحمى. طبع على خدها قبلة، وحملها في عجل إلى طبيب المخيم، الذي قال منزعجا :
- الحالة متأخرة.. نسأل الله الشفاء..
أسرع الأب يحضر العلاج. لم يجده في صيدليات المخيم. حاول الخروج من المعبر ليذهب بها إلى مستشفى، فمنعوه من الخروج.. أفهم الجنود الإسرائيليين أن حالة الصغيرة لا تطمئن. لابد من إنقاذها. لكنهم أصموا آذانهم، وأجابوه بأن المخيم محاصر، بسبب اشتباه في عناصر مسلحة. هذه هي التعليمات. رجع إلى الطبيب، فحملها في عربته وحاول من جديد اجتياز نقطة التفتيش بصفته طبيبا. هذا واجب إنساني. تبددت محاولاته هباء، فقفر عائدا، وقرر لها علاجا بديلا..
- لعلك تجده..
أعطاها جرعة العلاج في محاولة مستميتة لإنقاذها. باتت حنان تهذي من أثر ارتفاع الحرارة. التف الأب وعائشة ووالدا الشهيد حول فراشها حتى طلع الصباح. ماتت حنان مع خيوط ذهبية نسجتها الشمس عند طلوعها. صعدت روحها البريئة إلى بارئها. صعدت إلى الجنة التي ظلت تحلم بها. ماتت حنان وعيناها تنظران جهة النافذة المفتوحة، جهة الشرق، لعلهما ترنوان إلى بيت خلف الأسوار، أرغمت العائلة على تركه منذ سنوات بعيدة..
انتهت القصص المختارة