ثم أن سياسة أي تعليم لا بد وأن تكون نابعة من فلسفة وفي رأيي لا يوجد مسؤول بالتعليم لديه رؤية متكاملة مثل تلك التي قدمها طه حسين،كلها عمليات ترقيع نعمل الثانوية سنتين ولا تلاتة؟ التعليم حق للقادرين، أم نعمل للأغنياء جامعات خاصة ممتازة والفقراء جامعات غلابة؟ ثم ما حدود التعليم الأجنبي بجوار الوطني؟ أنا شايف إن فيه ناس مبسوطة من وجود جامعات ألماني وإنجليزي وأمريكاني وفرنساوي..هذه كارثة أن نعمم هذا النوع من التعليم علي حساب الوطني وأن نجعله مقتصرا علي القادرين فهذا معناه خلق طبقة فوق الطبقات.هل يعلم أحد أن بعض المدارس الأجنبية في المراحل الأولي تعلم الهولوكوست للتلاميذ؟ وكيف كان اليهود ضحايا النازية؟تعلمهم المبرر الشائع جدا لوجود إسرائيل. هناك كوارث تحدث بسبب تخلي الدولة عن أدوارها في جميع القطاعات.
أري أنه لا وجود للتنسيق يجعل الجامعات الأجنبية قادرة علي تخريج مواطنين مصريين ولهذا فهي تخرج مواطنين ألمان أو فرنسيين أو أمريكان. هذه الجامعات موجودة كما لو كانت علي أرض فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا.. أي مستقبل نحن ذاهبون إليه؟
وهل المثقفون غائبون؟
مغيبون.
ألا يوجد ما يمكن أن يفعلوه؟
ما الذي يمكن أن يقوموا به بخلاف الكلام؟ ما السلطة المخولة للمثقف التي تجعله قادرا علي أن يكون مؤثرا في المجتمع.
حتي علي مستوي الكلام بعض المثقفين لا يعلن رأيه؟
لو عرف أنه لن يكون هناك ضرر فسيقول ومن مثلي سيصمت في النهاية فما الجدوي أن تتكلم وتتكلم وتتكلم وكل شيء يمضي في طريقه المرسوم دون أن يكون للكلمة أية أهمية أو دور؟
هل تؤدي مراكز البحث وحقوق الإنسان الأدوار المطلوبة منها؟
دعني أسألك: هل رأيت أي تغيير حدث في أي من المآسي التي تنتقد منظمات حقوق الإنسان مرتكبيها؟حتي المنطمة الحكومية تتحدث عن التعذيب ولا شيء يتغير علي الإطلاق..
هل تحتاج إلي تغيير طريقة عملها لتكون مؤثرة؟
في كل بلاد الدنيا منظمات حقوق الإنسان تقوم باصدار بيانات تفضح فيها ما يحدث، عندنا هايعملوا إيه؟ هايمشوا شايلين بوسترات؟ ولكن في الخارج ما ينشر لاسيما لو كان مقترنا بوقائع محددة يتسبب في حدوث تحقيقات ومساءلة،هنا لدينا إدارة اسمها إدارة النفي موجودة في كل الوزارات، نفي أي عيب حصل..
وما رأيك في جوائز الثقافة المستحدثة مثل جائزة ساويرس..هل دخول رجال الأعمال لحقل الثقافة مفيد؟
والله كتر خيرهم.. هذا موجود في كل الدنيا أن تقوم مؤسسات خاصة بإنشاء جوائز للثقافة،المهم ألا تستخدم هذه الجوائز لترويج فكر خاص أو لقمع آخر..
وما رأيك في الأسماء الحاصلة علي الجوائز هذا العام؟
ماليش رأي.
- 3 -
أريد أن أتحدث عن عزلتك..أنت تشارك في الحياة الثقافية والاجتماعية بإبداء الرأي كتابة،ولكن الملاحظ أنك منعزل واخد جنب ولا أحد يراك تقريبا في الفترة الأخيرة؟
الكاتب يحتاج إلي مثل هذه العزلة ثم إن السن له أحكام..
(يصمت)أظن أن التجمعات الثقافية أصبح فيها جميع أمراض المجتمع..أذكر أنه في أيام الشباب حينما كنت أجلس في مقهي مع سليمان فياض وغالب هلسا وأبوالمعاطي أبوالنجا والبساطي وأمل دنقل والطاهر عبدالله كانت هناك مشاحنات ولكن لم تكن روح الغل موجودة ولا النميمة السامة موجودة، الآن أنت تخرج من أي تجمع ثقافي وأنت تتمني ألا تلاحقك السهام،الغريب أنهم يقولون ما لم تقل، بالأمس فوجئت بفاروق عبد الوهاب وأنا بالمناسبة مبسوط جدا من ترجمته لرواية الحب في المنفي يقول لي إن أحد أصدقائك أخبرني بأنك مستاء من الترجمة.. قلت له: لا أريد أن أعرف اسم هذا الصديق ولا تفاصيل ما قاله.. أنا مبسوط من الترجمة ولا أقول رأيين في الشيء نفسه، عمري.
هل فقدت رغبتك في الإصلاح؟
خلاص.. لو استطعنا إصلاح أشياء صغيرة يكون كفاية،وأنا أعول علي منتدي محمد عودة وأشكر من اختاروني لرئاسته،كلهم أصدقاء لعودة ومحبون له وليس لهم أي هدف،لا يريدون شهرة أو أضواء ولكن يريدون الحفاظ علي تراث عودة،هدف محدود جدا.. وهذا يدل علي أنه ما يزال هناك أشخاص نفوسهم بريئة ولكن العثور عليهم صعب جدا..
ماذا عن جلستك يوم الجمعة في الأتيليه..لماذا لا تواظب عليها؟
في معظم الأحيان أذهب إلي هناك إلا في حالات السفر أو المرض لمقابلة الأصدقاء.. معظم مواعيدي آخذها هناك..أصبحت مرتبطا بأصدقائي عن طريق التليفون،أعز أصدقائي هو الدكتور نصار عبدالله من سوهاج،لا يأتي إلي القاهرة إلا علي فترات متباعدة حتي البساطي وتوفيق عبدالرحمن لا يربطني بهما إلا التليفون لأنك لكي تنتقل من حي إلي آخر في القاهرة فأنت تحتاج إلي فيزا ،المواصلات أصبحت لعنة ولكنها محتملة يوم الجمعة ولهذا اخترته لمقابلات الأتيليه.
ولكن هناك صديق لي جار لي منذ أكثر من أربعين سنة هو جلال لطفي،رجل ليس له علاقة بالحياة الثقافية ويزورني في المنزل بالإضافة إلي بعض الشباب للأسف معظمهم هاجر،هناك كذلك صديقي عبدالله السناوي الذي ألتقي به في مقهي بالزمالك..لم يعد هناك تبادل للزيارات كما كان قديما.
ما اللغة الأقرب لمنزلك؟ هل العربي أم الفرنسي؟
مزيج من العربي والفرنسي،لكن زوجتي تحب أن تتحدث العربية..
وما العلاقة مع البنتين..هل هما حريصتان علي قراءتك؟
جدا،لا استطيع نشر أي شيء بدون أن أعرضه عليهما. وهما دائما ما تبديان ملاحظات هايلة يسر الصغيرة لغاية سن 16 سنة لم تقرأ لي حرفا،وفوجئت وهي في سنة أولي اقتصاد وعلوم سياسية بأن أحد أعمالي مقرر عليها،سألتني ماذا تريد أن تقول من هذه القصة؟ فشرحت لها..وبالمناسبة لم تقل لأستاذها أنني بنت فلان وكانت النتيجة أنها حصلت علي أسوأ "نمرة بسبب كلامي!! والذين حصلوا علي الدرجات النهائية هم من كرروا كلام الأستاذ،فقالت لي: عمري ما هاسألك تاني،ولكن دينا كانت تقرأ أدبا منذ كانت صغيرة أما يسر فكانت دائما تسخر من المثقفين،حينما تراني خارجا تقول لي: انت رايح حفل تأبين لواحد من زمايلك؟ لكنها فجأة بدأت تهتم بالقراءة، قرأت لآخرين خلافي، ثم قرأتني. أعجبتها جدا الرواية الأخيرة واحة الغروب وقبلها شرق النخيل ثم إنها دائما ما تأتيني بعمل وتسألني: هل هذا الكاتب جيد؟ ولكني أقول لها: هذا العمل لم أقرأه ،خوفا من الموقف السابق.
ما القيمة التي كنت حريصا علي غرسها فيهما؟
الأن تأثير الأباء والأسرة علي الأبناء أقل جدا من المجتمع،أعتقد أنني رغم حبي لهما إلا أن تأثير زملائهما أكبر بكثير،حكاية السلطة الأبوية أو الأمومية لم تعد موجودة في هذا الجيل،القيم أصبحت في صالح المجتمع لا صالح الأسرة.
وكيف تري جيلك؟جيل الستينات؟
أري أنهم جيل شجاع جدا لأنهم يواصلون العمل والتجريب رغم أن الأدب في مصر كله عبارة عن زوبعة في فنجان،ليست له أية أهمية،أعظم كاتب يوزع ثلاث أو أربعة آلاف نسخة، زمان كان التوزيع محدودا أيضا ولكن التأثير كان كبيرا،التوزيع له عناصر مكملة،الإعلام،التعليم،هذه العناصر أصبحت مضادة للثقافة،نفسي أفهم: ما دور وزارة الثقافة في خدمة الثقافة؟بصراحة لا أعرف..غير أنها تقيم المهرجانات والاحتفالات،ما دورها في تشجيع الإبداع المكتوب؟في تنمية الإبداع المسرحي لا في حرق المبدعين كما حدث في بني سويف؟في تشجيع الإبداع الموسيقي؟للأسف هذا لا يحدث..أليس من المؤلم أنه في ظل وزارة منوط بها رعاية المثقفين في البلد أن نقرأ كل يوم عن كاتب يموت وهو يتسول العلاج من وزارة الثقافة،ألم يكن من الأجدي توفير أموال المهرجانات لرعاية المبدعين أولا ونشر إبداعهم ورعايتهم صحيا؟
تحدثت عن ضعف توزيع الأدب فما الذي يعنيه الجمهور بالنسبة لك؟
مع احترامي الشديد لأراء النقاد والصحافة الترمومتر الحقيقي هو الجمهور، حينما يقول لي بائع الجرائد القريب مني أن رواية كذا نفدت أعرف أن الأمور جيدة،وأنني نجحت في الامتحان الأول،كل عمل إبداعي له امتحانان،امتحان الجمهور،وامتحان الزمن.
ممكن الجمهور يقبل علي عمل ويموت؟
نعم.. هذا واقعي جدا.
وما طموحك في الانتشار؟
طموح إيه يا أستاذ حسن؟ أنا عندي 70 سنة..
يعني هل تنتظر جائزة مثل نوبل؟
لا أفكر فيها ولا أعتقد أنها ستعبر علي منطقتنا قبل قرن.. نوبل جائزة مسيسة جدا..
"يصمت طموحي في الانتشار أن تعود الأمور كما كانت،كتاب يصدر في بيروت تجده في الأسبوع نفسه بالقاهرة،لا أريد للأدب أن يصل للعالمية،إنما للقراء الطبيعيين العرب أذكر أن شخصا قال لي إن القيود علي الكتاب العربي أكثر من القيود علي الأمور غير المشروعة،أليس من العار أن ننتظر بلهفة معرض الكتاب حتي نعرف ما الذي صدر في الدول العربية؟!
حينما صدرت 'السد'كتب عنها طه حسين في "الكاتب المصري ذلك لأنه قبل الوحدة السياسية كانت هناك وحدة ثقافية وهي التي تستطيع أن تمهد لأي وحدة، ليست وحدة إزالة حدود.. ولكن شيء أقرب إلي الوحدة الأوروبية القائمة علي الثقافة.
الآن لدينا تشرذم ثقافي،كل قطر عربي عايش علي مبدعيه و خلاص كانت مجلة الآداب البيروتية مقروءة في كل البلدان العربية،كان صلاح عبد الصبور،عبدالوهاب البياتي وشعراء من مختلف الأقطار يرسلون إليها.. كانت بوتقة.. هذا طموح.
..................................................
*أخبار الأدب ـ في 14/1/2007م.