4ـ توقف تراكم الخبرات الموروثة وإحلال خبرات جديدة لم يستطع الفلاح التعامل معها بشكل جيد.
التعلم البدائي، يأتي مع العادات والبيئة والحاجة للتعايش مع قسوة المحيط، وهو شبيه بتناقل الخبرات عند حيوانات البرية، فالهرب من الأخطار والاستدلال على ما يصلح للأكل، كلها مهارات بدائية. لكن الرقي يتم في وضع أسس لكل شيء ويتم نقلها للآخرين من خلال الإرشادات والمحاذير المكتوبة أو المنقولة بالمشافهة. فعدم سحق السنابل في صباح باكر بعد ليلة كلها ندى، سيعيق عملية استخراج القمح من سنبلته، والرعي في الصباح الباكر بأعشاب بقولية قد يسبب حالات نفوق عند المواشي، وأكل الفول الأخضر بكثرة من الحقول قد يؤدي الى الوفاة، ودق الحجارة السوداء الخشنة في ثقوب ألواح الدرس تحتاج الى تبييت الماء في تلك الثقوب، والتعامل مع لدغات العقارب والأفاعي له مهارات قد يكون عمرها آلاف السنين.
كلما زاد الرقي زادت معه فروع العلم وكثرت التخصصات، فإن كان الطبيب في العهد العباسي يهتم باللغة والفلك والموسيقى، فإن فرعا واحدا من الطب هذه الأيام له عشرات الاختصاصات التي يتفرغ الطبيب لها وحدها دون غيرها، وكذلك هي الهندسة والمحاماة والزراعة.
معلومات منقطعة عن الواقع
كما أنه لا يجوز للأمي أن يتقدم لامتحان الشهادة الثانوية، إذ يُفترض التدرج بتأسيسه حسب الأصول التعليمية، فإنه لا يجوز تعميم علوم الزراعة على العاملين بالزراعة لا ترتبط مع ما كانوا يعرفون ويمارسون، سواء بطرق الزراعة أو بأصناف المزروعات أو الوسائل المستخدمة في العمليات الزراعية.
هي ليست دعوة للتشبث بالقديم وترك الجديد، بل هي دعوة ـ وإن كانت متأخرة ـ لصنع مقتربات مفهومة لدى العاملين بالزراعة لتقبل الجديد والتعامل معه بكفاءة عالية. وهذا يتطلب مجموعة من الاستعدادات ـ مع الأسف ـ لم تقم دولة عربية واحدة بالانتباه لها كما يجب.
فعمليات التطوير والانتقال من الأساليب القديمة تحتاج الى تهيئة مجموعة من العوامل نذكر منها:
المبشرين بالحداثة الزراعية
نعم، لقد انتشرت كليات الزراعة ومحطات البحث العلمي التي تعني بالزراعة في البلدان العربية، وأصبحت علوم الزراعة بمتناول اليد بالنسبة للجميع، ولكن ذلك لم يحل المشاكل الزراعية ولم يرتق بالمزارع للمستوى المعروف عالميا، رغم أن هناك من سيقول غير ذلك، مستدلا بارتفاع مستوى الإنتاج في بعض القطاعات كالدواجن والألبان والخضراوات وغيرها، ومستدلا بأن النسبة العاملة في الزراعة الآن في معظم البلدان العربية تقل كثيرا عما كانت عليه قبل عقود، وإن إنتاجية الوحدة الواحدة يزيد عما كانت عليه. لكن لا بد من تثبيت الملاحظات التي تجعل من أداء المؤسسات العلمية أقل مستوى منه في البلدان المتقدمة:
1ـ تأخر تعيين خريجي الزراعة في وظائفهم، سواء الحكومية أو الأهلية، مما يجعلهم يبتعدون عما تعلموه في جامعاتهم ومعاهدهم. وقد يكون الحل لهذه المشكلة، بتشريع نظام يشبه (الخدمة الإجبارية العسكرية) يوضع به هؤلاء الخريجون في حقول أو منشئات زراعية مع محترفين ينقلون هؤلاء من كونهم طلابا الى حالة يمكن الاستفادة منها بسرعة أكبر.
2ـ نمطية تعيين هؤلاء الخريجين، حيث لوحظ أن تعيينهم يكون في أمكنة بعيدة عن العمل الفعلي، ويكونون مسئولين مباشرين، وتبقى فترة خدمتهم عدة سنوات حتى يتم نقلهم الى أمكنة أكثر احتياجا للفنيين، فيكون الوهم أنهم خبراء (بحكم مدة خدمتهم السابقة) في حين أن نفعهم يكون معدوما. ويمكن حل تلك المسألة بالتنسيق مع نقابات المهندسين الزراعيين ومؤسسات التدريب لجعلهم معاونين لمهندسين زراعيين أكثر احترافا حتى يصبح وضعهم مطمئنا في أداء دورهم. هذا في الدوائر الحكومية.
3ـ أما في المؤسسات الأهلية، فيكون التعيين الأول لديهم لدى أشخاص أو مؤسسات لا تقدر أن تقيم جودة أدائهم، ولكن انخفاض قيمة الراتب الأولي تجعل صاحب العمل يغض النظر عن كفاءة المهندس، كما تجعل المهندس الذي أرهقه الانتظار القبول بالراتب. ولكن ـ مع الأسف ـ قد يتم تصدير هؤلاء لدولة عربية أخرى بشهادات خبرة مزيفة، أو حتى يمكن تصديرهم لمؤسسة في نفس البلد، بحجة أن له مدة خدمة (كذا سنة) .. والنتيجة النهائية هي ضخ فنيين غير ممتازين في البلدان العربية. إلا ما ندر، والنادر لا يقاس عليه.
4ـ رسائل الماجستير والدكتوراه، تبقى حبيسة مختبرات وصالات الكليات ولا يتم تحويلها الى برنامج يخدم قطاع الزراعة بشكل جيد. وسنعود لاحقا لتلك النقطة.
5ـ أساليب تناقل المعلومات من الفنيين الى من يحتاجها من المزارعين لا تتم بوجه طيب، لعدم تطبيق أساليب يتقبلها المزارعون .. وسأنقل شكلا كان متبعا في محطات البحث العلمي بمحافظة نينوى بأواسط السبعينات من القرن الماضي:
كان هناك مجمع لمحطات البحث العلمي الزراعي، تضم محطة بحوث بساتين ومحطة تنقية البذور والتقاوي ومحطة وقاية المزروعات ومحطة للأنواء الجوية ومحطة للغابات ومحطة لبحوث الإنتاج الحيواني..
كان ملحق بتلك المحطات فندق لاستقبال القادة الريفيين وهم أفضل المزارعين في مناطقهم وقراهم، وكان ملحق لهذه المحطات فرقة مسرح ريفي.. وقاعات خاصة للمحاضرات، لم يكن الجلوس فيها على مقاعد (كالتلاميذ) بل كانت الجلسة بشكل حرف U ، وتكون اللهجة بالعامية والمحاضرة كأنها قصة، فإن كان القصد التحذير من ذبابة الباميا (ذكر فيها تشريب الباميا) ليشترك كل الحضور بالاستفسار والانتباه دون ملل.
وإن استطاع أعضاء فرقة المسرح الريفي تحويل تلك المحاضرات الى عمل مسرحي يقدم في المساء للقادة المقيمين بالفندق فإن الفائدة ستكون مضاعفة.
المزارعون لا يلبون دعوات التثقيف الزراعي
في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، أقمنا ورشة في مدينة (الرمثا بالأردن) بالتعاون مع 16 من حاملي الدكتوراه في مختلف المجالات الزراعية، ودعونا 400 مزارع للاستماع لأوراق البحث المقدمة من المحاضرين، حضر كل المحاضرين ولم يحضر أي مزارع، وبعد مرور أكثر من ساعة تذمر بها المحاضرون، انطلقت الى الجالسين في الدكاكين وأحضرت ما يقرب من العشرين وعندما حضروا أرهقوا المحاضرين بأسئلة عن أي شيء ـ عدا موضوع الورقة ـ فأحدهم يسأل عن عدم انتظام إسالة المياه، وآخر يسأل عن قروض مؤسسة ليس للمحاضرين شأنا بها!
في عام 1994 حاولنا(في بلدية الرمثا) ابتكار طريقة لنقل المعلومات الزراعية، عن طريق المهرجانات (آخذين درسا من الفشل السابق)، فحاولنا تنظيم أسبوعا ثقافيا شاملا، يُكرم فيه أفضل مزارع للزيتون وأفضل مربي للدواجن وأفضل مربي للنحل وهكذا .. ليترافق هذا مع المهرجان الثقافي وقمنا بالتنسيق مع غرفة التجارة والبنوك والجامعات المحيطة، لتخصيص جوائز قيمة للمبدعين في تلك المجالات، ولنجعل الآخرين يتساءلون عن السبب في حصول فلان على الجائزة، لندفع المهتمين من الفلاحين في طلب المعونات الفنية، لكن مع الأسف لم ننجز ذلك لحل البلديات في وقتها.
خلاصة:
ليس المهم أن يكون عندنا مختصين، بل المهم أن نجعل خبراتهم في متناول أيدي العاملين في قطاع الزراعة، وهذا يتطلب مزيد من وضع البرامج في مختلف المجالات حتى تحل المعرفة الزراعية الحديثة محل القديمة، والتي أصلا لم تعد باقية!