منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 8 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 73
  1. #21
    * عفريت الليل *
    .......................

    كنا ـ بمجرد ظهور الرجل فى أول الشارع ـ نترك ما بأيدينا من لعب ـ كرة شراب ، بلى ، استغماية ، طائرات ورقية ـ ونتجه ناحيته ..
    تعلو أصواتنا : عفريت الليل بسبع رجلين ..
    نكرر الكلمات منغمة ، والرجل ذو الأفرول المتسخ يرمقنا بنظرة صامتة ، لا تشى بتعبير محدد . يحمل العصا الطويلة ، الرفيعة ، فى نهايتها ما يشبه السلك النحاسى ، يصله بالمصباح المطفأ من خلال فتحة الحاجز الزجاجى ، فيضاء . تأخذ العملية ثوان قليلة ، ثم يواصل الرجل سيره فى خطوات مهرولة نحو عمود إنارة آخر ، وهكذا ..
    كانت تسمية العفريت ظالمة ، فالرجل ضامر الجسد ، أسمر البشرة ، له عينان تداخلت فيهما الصفرة بالبياض ، وفم مفتوح تساقط معظم أسنانه . ولعل اتساخ أفروله ، أو لأننا لم نكن نراه إلا ليلاً ـ كان هو مبعث التسمية التى نضمنها كلماتنا المتعبة ..
    استطالت ظلال الغروب ـ ذات يوم ـ ثم حلت العتمة . تنبهنا إلى عدم قدوم الرجل فى موعده
    فى اليوم التالى ، ظلت المصابيح مطفأة . ثم طالعنا ـ فى اليوم الثالث ـ بشاب يمسك العصا الرفيعة ، ذات النهاية السلكية ..
    تجرأت فسألته :
    ـ أين ذهب الرجل ؟
    ـ ربنا افتكره ..
    وجرى فى اتجاه بقية المصابيح ..
    كتمنا الكلمات التى اعتدنا غناءها . ربما لمفاجأة وفاة الرجل ، وربما لأننا خشينا رد الفعل فى ملامح الشاب الجامدة !

  2. #22
    * الربيع *
    .............

    قال لى صديقى ممدوح الطوبجى :
    ـ هل استمعت إلى أغنية فريد الأطرش الجديدة ؟
    هززت رأسى بالنفى ..
    قال :
    ـ احرص على سماعها .. أغنية جميلة عن الربيع ..
    ممدوح الطوبجى زميلى فى المدرسة الفرنسية الابتدائية بمحرم بك . والدته المطربة نجاة على ووالده ضابط كبير بالقوات المسلحة . كانت زمالتنا فى مستوى الصداقة . وكنت ألجأ إليه فى قراءة الإصدارات الجديدة . أعارنى عودة الروح للحكيم ، وعمرون شاه لفريد أبو حديد ، ومن النافذة للمازنى ، وقصائد صلاح جاهين الأولى ، وأعمالاً أخرى كثيرة . نتناقش فى الكتب التى أستعيرها . نتفق ونختلف . تبدأ مناقشاتنا فلا تنتهى ..
    الكرة التى صوبها ولد اصطدمت بأنفى كقذيفة ، فى وقفتنا ـ الطوبجى وأنا ـ تحت شجرة فى فناء المدرسة . أظهرت الغضب ، وحاولت أن أحتفظ بالكرة . أومأ الطوبجى برأسه كى أعيد الكرة فأتقى شر الولد ..
    قال الولد وهو يأخذ الكرة :
    ـ هات كده وانت وشك زى الديب !
    صدمتنى العبارة بأشد مما صدمتنى الكرة . تسللت إلى دورة المياه . أطلت تأمل ملامحى فى المرآة : هل أشبه الذئب ؟
    تركت مقعدى فى الترام ـ وأنا أعود إلى بحرى ـ للسيدة ذات الملاءة اللف . جلست وهى تمتدحنى :
    ـ يا حبيبى .. ابن ناس بصحيح !
    اتجهت إلى الناحية المقابلة ، كى لا ترى ملامح الذئب فى وجهى !

  3. #23
    * هذا ما حدث *
    .......................

    قال عم جعفرى :
    ـ عند عودتك إلى المدرسة صباح السبت، سأكون قد قرأت المجلة، فأعيدها لك ..
    كان عم جعفرى هو حارس مدرستى الفرنسية الابتدائية الأميرية فى شارع جانبى قبل نهاية شارع المأمون. تختلف عن بنايات المدارس الابتدائية ـ ربما لأنها أولى المدارس الابتدائية التى جعلت من الفرنسية لغة أولى ـ بطابع القصر، وبالفناء الواسع، والفيلات الملاصقة، والهدوء الذى يحيط بها ، ووجبة الغداء الساخنة ، نهبط إليها فى مطعم البدروم ..
    كان عم جعفرى فى حوالى الخمسين. تشي لهجته بأصله الجنوبي. كنا نخطب وده بمناقشته فى الغناء الذي يحبه، والأغنيات التى يستمع إليها فى الراديو الخشبى الصغير، داخل غرفته المطلة على فناء المدرسة ..
    لمح فى مجلة "المصور" ـ وأنا أتصفحها وقت الفسحة ـ إشارة إلى حفل فريد الأطرش، فى تلك الليلة ..
    قال :
    ـ أعطني هذه المجلة ..
    اعتذرت بأنى اشتريت " المصور " لأبى ، وأنى ربما لا أجدها فى طريق العودة إلى بحرى ..
    ارتسمت فى ملامح الرجل خيبة أمل واضحة. حدثنى عن الحفل الذى ينتظره ، والأغنية التى أعلنت الإذاعة أن الأطرش سيقدمها فى الحفل ..
    لاحظ الرجل ترددى ، فقال:
    ـ مجرد أن أقرأ استعدادات الحفل ونص الأغنية ..
    قبل أن يسألني أبى عن المجلة، ادعيت أنى نسيتها فى المدرسة ..
    قال أبى :
    ـ المهم ألا تضيع !
    طالعتني ـ صباح السبت ـ حركة لم أعتدها فى المدرسة، وزحام أمام غرفة عم جعفرى ..
    فاجأنى الولد مرعى عبد المجيد بالقول:
    ـ عم جعفري مات ..
    أضاف للذهول فى ملامحي:
    ـ أغلق على نفسه من البرد. خنقه فحم المدفأة وهو يقرأ ويستمع إلى الراديو!
    حين عدت إلى البيت، سألني أبى:
    ـ هل أحضرت المجلة ؟
    أدركت أن كرة الكذب الثلجية ستواصل التدحرج . قلت وأنا أتهيأ للبكاء :
    ـ عم جعفري مات ..
    امتزج فى نظرة أبى عدم الفهم، والإشفاق على ما بدا أنى أعانيه .

  4. #24
    * زمـان *
    ..............

    لما أصر جيران الطابق العلوى على أن تغنى شقيقتى الكبرى فى السرادق المقام فوق السطح ، ووافق أبى ، أدركت أن هذه هى الفرصة التى طال ترقب شقيقتى لها . كانت تحب الغناء . تكتفى بالدندنة الهامسة . إن علا صوتها بالانسجام ، نهرها أبى : بس يا بنت !. بعد رحيل أمنا ، وجدت نفسها مسئولة عن البيت قبل أن تبلغ الرابعة عشرة . تنازلت عن الكثير من طموحاتها ، ومنها أن تمضى فى خطا ليلى مراد ، فتصبح مطربة مشهورة ..
    كان أبى مثقفاً ليس بمجرد الحصيلة المعرفية ، وإنما باستنارة آرائه ، وإلحاحه الدائب على المثل الأعلى ، والأكثر جدوى لجماعة الناس . ولم يكن يخفى إشفاقه من المسئولية التى بدلت حياة شقيقتى فى سن باكرة .. لكن السير فى حقل الألغام المسمى " الفن " ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ كان يزعجه . ألمح الإعجاب فى تعبيرات وجهه بدندناتها الآتية من المطبخ . فإذا تحولت الدندنة إلى غناء حقيقى ، أسكتها ـ من موضعه ـ بنبرة حاسمة ..
    فاجأت أختى ـ وفاجأتنى ـ موافقة أبى على أن تغنى فى حفل الجيران . تصورت الحفل مناسبة لتقديم الصوت الجميل . ينصت إليه من يعجب به ، فيقتنع أبى بأن تسير فى الطريق إلى نهايتها ، وتصبح ـ كما كنت أتمنى ـ فى مكانة مطربتنا المفضلة ليلى مراد ..
    وقفت فى آخر السرادق ، أنصت إلى غناء أختى : اتمخطرى واتمايلى يا خيل . أعتبر استعادة الحضور اعترافاً بجمال صوتها ، وإن لم يجاوز ما حدث حفلاً حضره بضع عشرات ، غالبيتهم من ربات البيوت والأطفال ..
    تزوجت شقيقتى ، وأنجبت ، وعملت مدرسة فى ليبيا مع زوجها مهندس البترول . تزور الإسكندرية فى إجازة الصيف . نتذكر ما كان .
    أقول لها مداعباً :
    ـ لا أستغرب أن تكون ليلى مراد تآمرت عليك ، حتى لا تأخذى مكانتها !

  5. #25
    * ليه يا بنفسج *
    ........................

    كان أبى يحب الغناء القديم ، ويحب الأصوات التى تحرص على التطريب : أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وهدى سلطان وشهرزاد وعباس البليدى ومحمد فوزى وغيرهم ..
    كانت أحب الأغنيات إلى نفسه أغنية صالح عبد الحى : " ليه يا بنفسج بتبهج .. وانت زهر حزين " . يحدثنا عن دلالة الكلمات ، وجمال اللحن ، وعذوبة الأداء ، والتطريب . التطريب ـ فى رأيه ـ هو ما يميز الأغنية العربية ..
    ظل أبى ينام على كرسى أعواماً طويلة . يجلس عليه ، ويسند ذراعيه على كرسى آخر . المرة الوحيدة التى تصور فيها أنه يمكن أن ينام على السرير لحقته أزمة الربو ، وأيقنت أمى أنه مات .
    مثلما كانت طريقة نوم أبى غير عادية ، فقد كان نومه كذلك غير عادى . لحظات إغفاء متقطعة ، يصحو منها على ألم فى الكوعين ، أو الساعدين . يحركهما فى الهواء ، ويضع فنجان القهوة على السبرتاية وهو يدندن بأغنيات يحبها ، أذكر منها أغنية صالح عبد الحى ..
    كان النوم يفاجئ أبى وهو فى طريقه إلى المطبخ ، أو إلى دورة المياه . يسقط من طوله . نصحو على صوت ارتطام جسده بالأرض . نفزّ من أسرّتنا ، ونجرى ناحية الطرقة . يلوح بيده وهو فى موضعه بما يعنى طمأنتنا . تمتد أيدينا ، تعينه على القيام . تكرر الأمر كالنسخ الكربونية . نصحو على صوت الارتطام . نجرى ـ يسبقنا التوقع ـ ناحية الطرقة ..
    صرنا نفزّ من أسرّتنا لأقل صوت . نحدس أن النوم فاجأ أبى فى سيره . تعذّر ـ لظروفنا المادية السيئة ـ تنفيذ ما اقترحته أختى بأن نفرش أكلمة أسيوطى فى المسافة ما بين حجرة أبى والمطبخ ، آخر الطرقة ..
    عرضت أختى أن تنام فى حجرة أبى . نومها خفيف ، فهى تصحو على حركة أبى بين حجرته والطرقة المفضية إلى المطبخ ودورة المياه ..
    صحونا ـ ليلة ـ على ترنم أختى بأغنية صالح عبد الحى ، وصوت أبى يعلو بالثناء:
    ـ لو مش عيب .. كنتى بقيتى مطربة قد الدنيا !

  6. #26
    * فلسطين *
    ..................

    مع أنى لم أكن جاوزت العاشرة ، فقد أصخت السمع لتقديم المذيع ، وحديث الشاعر على محمود طه عن أغنيته الجديدة لفلسطين . كان المساء قد حل . هدأ صخب الطريق ، فيما عدا أصوات صفارات بواخر تترامى من الميناء الغربى ..
    تحول إنصاتى لأحاديث أبى مع أصدقائه ، ومانشيتات الصحف ، ونشرات الأخبار .. تحول ذلك كله إلى متابعة شخصية ، هم شخصى . ربما توقفت أمام دكان بقالة أو علافة فى شارع الميدان ، لأن صاحبه يتبادل حواراً فى القضية التى شغلت الجميع . لم تكن الأسماء ولا الأحداث واضحة فى ذهنى تماماً ، لكن توالى الأحداث والأخبار والمناقشات جعل الصورة فى متناول العين : ثمة حرب قاسية يخوضها أبناء فلسطين ضد اليهود الذين تركوا بلادهم للإقامة فى القدس ويافا وحيفا وغيرها من المدن التى كان أبى يذكرها فى أحاديثه ، ويروى ذكرياته عن زياراته المتعددة لها . وأشار أبى إلى الأسرة اليهودية التى غادرت الطابق الثانى فى بيتنا إلى جهة غير معلومة ، وإن أعلن ثقته أن تلك الجهة هى فلسطين . وغلب على أحاديثه الاستياء والحيرة والألم لما سماه بيع فلسطين بلا ثمن . وألفت أسماء ومسميات الانتداب وترومان والدول الكبرى والحاج أمين الحسينى وشتيرن والهاجاناه وبن جوريون وحكومة عموم فلسطين وعبد القادر الحسينى شهيد معركة القسطل ..
    قدم المذيع مؤلف القصيدة باسمه الشخصى ، وليس بصفة الملاح التائه التى كان قد عرف بها ، ربما لأن المناسبة تفرض الجدية . تحدث الشاعر ـ بصوت أتذكر إلى الآن نبرته ـ عن ظروف كتابة القصيدة ، واعتزازه باختيار عبد الوهاب لها . أما عبد الوهاب ، فقد اكتفى ـ فيما يبدو ـ بتلحين القصيدة وغنائها ..
    أعطيت انتباهى لصوت محمد عبد الوهاب . من فصيلة مميزة ، امتدادها الأجمل عبد الحليم حافظ . فضلاً عن مراتب أقل ممثلة فى سعد عبد الوهاب وعادل مأمون وهانى شاكر , وغيرهم ، فلست أقصد الحصر ..
    اجتذبنى اللحن . راقص بما يتيح له مرافقة أداء حفل رقص جماعى ..
    أبديت ملاحظتي لأبى :
    أخى أيها العربى الأبى أرى اليوم موعدنا لا الغدا
    قال أبى :
    ـ هذا هو عبد الوهاب .. لا تهمه الكلمات ولا المعنى بقدر ما يهمه اللحن ..
    وابتدرنى بالسؤال :
    ـ أغنية مين زيك عندى يا خضرة .. من خضرة هذه ؟
    قلت بعفوية :
    ـ بنت يعرفها ..
    ـ أبداً .. إنها الراية المصرية الخضراء ، يخاطبها جندى فى طريقه إلى الميدان ..
    وعلا صوت أبى فى تأكيد :
    ـ هذا هو عبد الوهاب .. صوت ولحن .. أما المعنى فيلغيه غناؤه لخضرة .. ولفلسطين !

  7. #27
    * هناك *
    .............


    الشجرة الهائلة ـ لا أعرف اسمها ـ تعلو تشابكات أغصانها إلى مستوى النافذة فى بيت عمتى بالمنيرة . يترامى ـ من موضع لا أتبينه ـ صوت تواشيح دينية وابتهالات ..
    ـ هل يوجد مسجد قريب ؟
    قالت عمتى :
    ـ لا .. هذا مسجل فى بيت الشيخ محمد رفعت ..
    ـ هل هو جاركم ؟
    ـ مسكين .. يعانى مرض " الزغطة " ، ويسلى وقته بسماع القرآن والتواشيح والابتهالات ..
    كانت أول مرة أسافر فيها إلى القاهرة بمفردى . لزمت موضعى فى المقعد الخشبى بقطار الدرجة الثالثة ، أعانى الهواء المحمل بالسخونة من النوافذ المكسورة ، والأقدام المدلاة من الأرفف ، واختلاط النداءات والصيحات ، وزحام الركاب داخل العربة المزدحمة ، ورائحة العطن ، وأرقب الخضرة المترامية على الجانبين ، والبيوت الصغيرة المتناثرة [ لم يكن المصريون الخليجيون قد بدأوا فى التهام بلادهم بالتبوير والتجريف ! ] وأعمدة التلغراف المتراجعة ..
    قالت لى عمتى بلهجة حنون ، وهى تلحظ نظرتى التى تبدو متأملة للشجرة :
    ـ واضح أن هذه الغرفة أعجبتك ..
    أردفت ، دون أن تنتظر رداً :
    ـ خلاص .. هذه هى غرفتك !
    أصارحك بأنى لم أكن أتأمل الشجرة ، ولا أخذت بالى من الغرفة ، ولا على ماذا تطل ، ولا ماذا تضم من أثاث . كأنها انبثقت فى حلم ضبابى غابت تفصيلاته ..
    كانت مخيلتى هناك ، فى بحرى ، مع أبى وإخوتى . وكان الشعور بالافتقاد يمضنى .

  8. #28
    * البكاء *
    ..............

    كانت عمتى تحب البكاء . تحزن فتبكى ، وتفرح فتبكى . وكان زوجها ينصحها بأن تترفق بصحتها فى زياراتها الدائمة للمآتم وأيام العزاء . فهى تبكى أكثر من أهل الميت . ربما تحول البكاء الصامت إلى نشيج . تصارحنا ـ بعد عودتها ـ أنها لم تكن تبكى الراحل الذى حضرت عزاءه ، ولم تكن تبكى راحلاً بالذات ، وإنما هى تبكى كل الراحلين . وأحياناً تبكى المناسبات الجميلة ، الفائتة ..
    حين غنى فريد الأطرش ـ للمرة الأولى ـ أغنيته : بتبكى يا عين على الغايبين .. ودمعك ع الخدود سطرين .. بدا كأن عمتى قد وجدت ما يعينها على ممارسة عادتها الأثيرة . تسند رأسها إلى راحة يدها ، وتشرد فيما لا نتبينه ، ويتواصل بكاؤها حتى بعد أن تنتهى الأغنية . تستعيد الكلمات ، وتربط بينها وبين رحيل أعزاء : عمتى تفيدة التى قتلها السرطان فى سن باكرة .. جارة ارتفعت علاقتها بها إلى مستوى الأخوة .. أخوال وأعمام لها مضى على رحيلهم عشرات السنين .. أسماء كانت ترددها فلا أعرف أصحابها ، وإن كنت على ثقة أن عمتى أدرجتهم فى قائمة الأعزاء الذين تحرص فى كل مناسبة ـ وأحياناً بلا مناسبة ـ أن تذرف الدمع على رحيلهم..
    ما كان يثير عجبى ، قدرة عمتى المذهلة على التحول من البكاء إلى الضحك . تعجبها النكتة التى تريد انتزاعها من إطار الحزن ، فتضحك . لا تمهيد للتحول من حال إلى حال مغاير . ربما تذكرت هى نفسها ما يدفع بالابتسامة ـ فالضحكة ـ إلى شفتيها . ثم تروى ما تذكرته ، وتوشيه بالألوان والظلال ، فتجتذب اهتمامنا ..
    كانت عمتى سيدة مصرية.

  9. #29
    * الجسد *
    ...............

    عدت إلى بيت عمتى ذات مساء . رويت للجارة أم فاروق [ الاسم مستعار ] عن الفيلم الذى شاهدته فى سينما الأهلى . اسمه " الجسد " . بطولة هند رستم . المشاهد الصريحة والموحية ، والعبارات المكشوفة ، والهمسات ، والغمز بالعين ، والإشارة باليد ، والمعانى التى يصنعها الخيال ..
    قالت أم فاروق التى كانت تكبرنى بأكثر من عشرة أعوام :
    ـ تلاقى نفسك فى واحدة تمثل معاها فيلم زى اللى شفته ..
    أردفت :
    ـ عمك فرج ـ زوجها ـ ورديته بالليل ، وباكون متضايقة لوحدى . لو لقيت نفسك صاحى ابقى خبّط عليه ..
    عبرت المسافة ـ على أطراف أصابعى ـ بين شقة عمتى والشقة المقابلة . نقرت الباب بطرقات هامسة . طالعتنى أم فاروق . ملامح زنجية ، وشعر أكرت ، منكوش ، وعينان تخالط الحمرة بياضهما ، وترتدى قميص نوم أسود ، مطرز بالدانتيلا ، يصل إلى فوق الركبتين ..
    أقعدتنى على الكنبة فى واجهة الصالة ..
    مالت على بأعلى صدرها تهم بتقبيلى ..
    تراجعت إلى الوراء ، وأنا أضع يدى بين شفتى وشفتيها ..
    قالت :
    ـ مالك ؟
    ـ أبداً .. أنا ماشى ..
    كانت صورة الجنس أمامى ضبابية ، وغير واضحة ، ولم أكن أقمت علاقة ـ جاوزت الكلمات الدافئة ـ مع أية فتاة ..
    مضيت ناحية الباب ، وصوتها المدندن يلاحقنى بسخرية :
    حود من هنـا .:. وتعال عندنا
    ياللا انا وانت .:. نحب بعضنا

  10. #30
    * نكتة *
    .............

    دخل أبى حجرتنا ذات مساء . كان فونوغراف قهوة فاروق ـ على ناصيتى إسماعيل صبرى والتتويج ـ يعيد ـ الرقم كبير لا أذكره ـ أسطوانة عبد الوهاب " كليوباترة " ، تخالطها أصوات الرواد ، ونداءات الجرسون ، وحركة الطريق ..
    أسند أبى يده على طرف السرير . بدا أنه يريد التحدث إلينا . توقفنا ـ أخى وأنا ـ عن المذاكرة ، وتطلعنا إليه .
    قال :
    ـ أظن أنكم فى سن تسمح بأن أروى لكم نكتة للكبار فقط .
    روى أبى النكتة . لا أذكرها الآن ، وإن كانت ساذجة للغاية ، وخيبت توقعنا . كنا نستمع فى المدرسة إلى نكت للكبار ، حقيقية ومثيرة !

صفحة 3 من 8 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. انقلاب ( نصوص قصيرة جدا )
    بواسطة حسين العفنان في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-04-2012, 11:46 AM
  2. قصيدة أغنيات مبعثرة شعر / خالد أحمد البيطار
    بواسطة الشاعر خالد البيطار في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-29-2011, 07:26 PM
  3. الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 49
    آخر مشاركة: 09-21-2011, 05:57 AM
  4. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-31-2009, 05:41 AM
  5. من أروع ما كتب محمد جبريل .. هذه القصة القصيرة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-24-2008, 01:12 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •