وقد لقيت آراء باخمان صدىً كبيراً في نفوس العاملين في دراسة علم النبات في مطلع القرن الثامن عشر. وتحول نداء باخمان إلى منعطف في مسيرة الدراسات النباتية التي أخذت الوجهة اللانفعية، والتي ظهرت بوادرها في العهد اللينيوي، المنسوب إلى العالم النباتي السويدي لينيوس Linnaeus (1707-1778)، الذي انطلق يجمع نباتات العالم ويسميها تسمية لاتينية ثنائية، ويرتبها ضمن نظام طبيعي، مبتعداً عن استخدام الفوائد النباتية وما يرتبط بها من أمور تطبيقية. واستمر الحال على ذلك حتى القرن التاسع عشر، مع تركيز الاهتمام على التصنيف النباتي والدراسات الوصفية للنباتات الإقليمية، فظهرت الأُفلورة Floras في كثير من أقطار العالمين الغربي والشرقي. واشتهر من مؤلفيها بطرس فورسكال P. Forskal الذي زار مصر وأطراف الجزيرة العربية، واطلع على نباتاتها وأعشابها. ثم ألف «الأفلورة المصرية -العربية» Flora Aegyptico Arabico والتي ظهرت بعد وفاته عام 1775. وتتابع بعد ذلك ظهور عدة علماء في التصنيف النباتي، منهم روبير براون في إنكلترة (1773)، ودو كاندول في سويسرة (1778)، وهنري بايون في فرنسة (1827)، وجورج بوست في سورية ولبنان (1837-1909). وكانت مؤلفات أوائلهم باللاتينية، ولكن في مطلع القرن التاسع عشر أصبحت الأفلورة تدون باللغات المحلية، فيما عدا الاسم العلمي الثنائي الذي بقي باللغة اللاتينية الحديثة. وهكذا كان لابد للعلم من أن يبتكر اسماً جديداً يودع فيه المعارف التطبيقية الشعبية للنبات فكانت ولادة علم الإتنولوجية النباتية الحديثة.
6- الإتنولوجية النباتية في مطلع القرن العشرين:
ولم تكن ولادة هذا العالم ميسرة وقد تمت على يد العالم الأمريكي هرشبرغر Harshberger سنة 1895م، وهو الذي تدين له الإتنولوجية النباتية بكثير من المعلومات القيمة عن أصل الذرة الصفراء الأمريكية، والمعروفة في الوطن العربي باسم الذرة الشامية. لقد طُلب من هرشبرغر أن يحدد بقايا نباتية جُمعتْ من حفريات أثرية عُثر عليها في مسكن هندي أمريكي قديم، الأمر الذي دعاه إلى وضع نظام جديد لدراسة النبات، مستمد من طرائق استعمال القبائل الهندية للنباتات النافعة. وقد تمكن هرشبرغر من رسم الطرائق القديمة المعتمدة في تبادل المنتجات النباتية، كما استطاع أن يُحدد، بوساطة علم الإتنولوجية النباتية، طريقة لكشف عدد من المواد القابلة للاستعمال الصناعي المعاصر، أو التي يمكن استغلالها تجارياً في الوقت الحاضر. ولاقت هذه الدعوة رواجاً لدى رواد أمريكة الذين كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة النباتات النافعة، ومكنتهم من الاستفادة من المساحات الواسعة التي يذخر بها العالم الجديد.
لقد ترعرع علم الإتنولوجية النباتية، الذي طرحه هرشبرغر في الولايات المتحدة الأمريكية، وتفرع إلى أربعة علوم هي:
- الإتنولوجية النباتية المستحاثة: paleoethnobotany وهي ترتبط بعلم الآثار archeology ومكنت الوافد الأمريكي من التعامل مع السكان الأصليين.
- الإتنولوجية النباتية الاقتصادية: وهي ترتبط بالنبات الاقتصادي وتحدد المواد النباتية الأولية ومشتقاتها الاقتصادية التي مكنت القادم الجديد من التخطيط للاستيلاء على مواقع جديدة غنية بالنبات الاقتصادي.
- الإتنولوجية الحيوانية: ethnozoology وقد أسسها الباحثان هندرسون Henderson وهارنغتون Harington، وهما من معهد البحوث الإتنولوجية في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما نشرا في سنة 1914 بحثاً عنوانه «الإتنولوجية الحيوانية» وضمناه خبرة الهنود الحمر فيما يحيط بهم من عالم الحيوان.
- الإتنولوجية البيولوجية: ethnobiology وهي التي اقترحها ي.ف. كستتر E. F. Castetter سنة 1944، بعد دمجه الإتنولوجية النباتية والإتنولوجية الحيوانية في علم واحد، هدفه الإحاطة بالعلاقات المتبادلة بين أنماط المجتمعات البشرية والعالم الحيوي الذي تتعامل معه، داعياً إلى عودة اللقاء بين ما هو طبيعي من جهة وما هو إنساني من جهة ثانية.
وكثيراً ما وقف علماء الطبيعة من هذا المنهج الذي يُقرب الدراسات الإنسانية من الدراسات الطبيعية موقف الحذر في بعض الأحيان، وموقف المستاء في أحيان أخرى. وقد خاف علماء النبات من هذا الاتجاه النفعي على نباتاتهم النادرة، أو الجديدة علمياً، والتي قد لا تتمتع بأهمية اقتصادية. واستاء علماء الطبيعة على اختلاف ميولهم من الإنسان الذي يُعد مسؤولاً بالدرجة الأولى عن الإخلال بالنظم البيئية الطبيعية، ووقف علماء البيئة المفاخرون بالمنجزات البشرية موقف الحذر من التلوث. وهكذا كانت التجربة الأمريكية حافزاً لبعض الدول الأوربية على دراسة علم الإتنولوجية النباتية وإدخاله أول مرة في برامج التدريس الجامعي سنة 1943 بوساطة المؤلفين أ.ج. هودريكـور A. G Haudriconrt ول. هــيدان L. Hedin في مؤلفهما: «الإنسان والنباتات الزراعية» وهو من منشورات المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس.
لقد طرأ على مفهوم علم الإتنولوجية النباتية، الذي أبدعه هرشبرغر عام 1895، بعض التبدلات. فمن علماء الطبيعة من سار وراء ركب هرشبرغر أمثال الأمريكي فولني جُونز Volney Jones (1941م) الذي عرف علم الإتنولوجية النباتية بأنه «علم يدرس العلاقة بين الإنسان البدائي والنبات»، ووسع أمريكيون آخرون هذا المفهوم أمثال ر.ي. شولتس R.E Schultes، الذي عد علم الإتنولوجية النباتية علماً «يدرس مجموع العلاقات بين الإنسان والنبات». في حين تبنت المدرسة الفرنسية علم الإتنولوجية النباتية منحرفة به عن المفهوم الأمريكي على يد هيدان Hedin سنة 1946 الذي عرف هذا العلم بأنه «دراسة العلاقات بين المعتقدات والتقنيات الإنسانية ومجموع العالم الخُضري". كما دعت عزلة العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية إلى تقوية أواصر علم الإتنولوجية النباتية وجعلته منهجاً وسطاً بين علم الحياة وعلم الاجتماع، أو بتعبير آخر منهجاً وسطاً بين ما هو طبيعي وما هو إنساني. وهكذا طالب جاك روسو Jacques Rousseau سنة 1961 أن يبرهن علم الإتنولوجية النباتية بأن النبات لحمة في نسيج التاريخ الإنساني. وهذا ما أدى إلى تعرف علم الإتنولوجية النباتية من قبل الفرنسي رولان بورتيير Roland Portières بأنه «دراسة العلاقات المتبادلة بين الجماعات البشرية والنبات في سبيل فهم الحضارات وشرح ولادتها وتقدمها».
وفي خضم هذا التاريخ الحافل لعلم الإتنولوجية النباتية وشبابه، عادت المدرسة الأمريكية لترسم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، منعطفاً مهماً في علم الإتنولوجية النباتية على يد عالم البشريات الأمريكي مُردوك Murdock سنة 1950 الذي عد هذا العلم الجديد من العلوم الجماهيرية أو العلوم الشعبية، وتبنى سنة 1954 كونكلن H.C. Conklin، الاختصاصي العالمي في علم الإتنولوجية النباتية، هذا الاتجاه وسمى المدرسة الأمريكية الجديدة «الإتنوغرافية الحديثة» New Ethnography. وهكذا أضحت الإتنولوجية النباتية عند هذه المدرسة تهدف أساساً إلى دراسة نُظم الأفكار وتنوع المفاهيم والمواقف التي تتخذها مجموعة بشرية محددة عندما تتعامل مع العالم الأخضر الذي تعيش في كنفه. وعلى الإتنولوجية النباتية أن تختص بكشف معرفة «الناس» بالنبات وما يرتبط بهذه المعرفة من بناء اجتماعي.
ميدان الإتنولوجية النباتية وطرائق معالجتها
تترجح ميادين البحث في الإتنولوجية النباتية بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، كما تتوجه، بدلالة عنوانها، إلى دراسة الخبرات المحلية والعلوم الشعبية التي تعالج الطبيعة وظواهرها المحلية المنعكسة في الأمثال والأساطير النباتية لشعب من الشعوب. ويلاحظ في هذا التوجه عودة إلى دراسة التاريخ الطبيعي الإنساني الذي هيمنت عليه قرابة 6000 سنة فلسفة حضارات المشرق العربي القديم ثم حضارات البحر المتوسط القديمة، وربطت الموضوعات الفلسفية الإنسانية بالموضوعات الطبيعية، وانتهت بنهاية القرن السابع عشر. وهكذا تمثل العلوم الإتنية (أي التي لها صلة بالبادئة إتنو Ethno ومهناها العرق أو الجنس) اتجاهاً جديداً في علم الحياة شمل الإتنولوجية النباتية والإتنولوجية الحيوانية، والإتنولوجية الحيوية، والإتنولوجية البيئية ethnoecology كما تستعد سلسلة العلوم الحيوية الأخرى إلى استقبال البادئة إتنو في جميع تسمياتها فيما إذا اقتفت خُطا هذا المنهج الجديد.
ولقد دخلت البادئة إتنو اللغة الفرنسية، منذ أمد ليس ببعيد، بدعم من المركز القومي للبحث العلمي، الذي قدم إعانات مالية لدراسة علم الإتنولوجية ethnoscience بفرعيه النباتي والحيواني، وبدد تحفظات كثير من علماء الحياة تجاه هذا المنهج الجديد. كما أدى رواج علم البيئة إلى عناية جادة بعلاقات المجتمعات والحضارات بالمحيط الطبيعي، وإلى إظهار دور الإنسان وأهميته التاريخية في بناء المحيط الحيوي.
ولإدراك دور المجتمعات الإنسانية في بناء المحيط الحيوي لابد من الإجابة عن ثلاثة نماذج من الأسئلة: أولها مرتبط بالإدراك، وثانيها مرتبط بالمعتقدات والثقافة، وثالثها مرتبط بالاستعمال والتقنية.
وتتمثل نماذج أسئلة إدراك الإنسان للطبيعة بما يلي: كيف تدرك البشرية، أياً كانت وحيثما كانت، عناصر البيئة المحيطة بها؟ وكيف تفهمها وتُشخصها وتستعملها؟... وكيف ترتبط البشرية بالكنف الذي تعيش فيه؟ وكيف تحوره وكيف تستثمر ثرواته وتديرها؟. وكيف تتعرف البشرية معطيات البيئة؟... وكيف تسميها؟... وكيف تصنفها؟...
وتتمثل نماذج أسئلة المعتقدات والثقافة المتصلة بالطبيعة بمايلي: ما هي المعتقدات المرتبطة بالنبات والحيوان والظواهر الطبيعية؟
وماهي القيم الرمزية الممنوحة لمثل هذه الموضوعات؟ وما هي المعاني الثقافية للمَحْيا biotope وللنظم البيئية في أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات؟
وتتوجه نماذج الأسئلة المرتبطة بالاستعمال والتقنية على النحو التالي: ما هي أصول الثروات الطبيعية المستعملة؟ وما هي خصائصها وقيمها الاقتصادية وطرائق استعمالها؟ وما هي التقنيات المستخدمة في استعمال الثروات الطبيعية، وما هو تاريخ إبداعها أو استيرادها؟
إن الإجابات عن أسئلة كثيرة كهذه تفتح فجراً جديداً من العلاقات المتبادلة بين الإنسان ومحيطه، وتنقله إلى آفاق جديدة من معرفة المجتمعات الإنسانية، وتعد فتحاً جديداً في اختيار أفضل الوسائل لفهم الثروات الطبيعية، ونظم إدارتها الفُضلى.
إن هذا المنهج الجديد، في دراسة «التاريخ الطبيعي»، الواقع على مفترق طرق بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، يمكننا من تطويرها جميعاً، كما يمكننا من سلوك طرائق جديدة لدراسة العلاقة الإنسانية بالكنف الطبيعي من جهة وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان من جهة ثانية. كما يقود إلى إدراك ما يحيط بالإنسان من طبيعة وثروات، وفهمها والتعامل معها بواقعية ودقة ويساعده في زيادة خبراته وتحسين تقنياته للتحكم في ثرواته الطبيعية. وهكذا يستطيع الإنسان بهذا التاريخ الطبيعي الُمجَدَّد، والمستمد من العلوم الإتنولوجية النباتية والحيوانية والحيوية والبيئية، أن يقف على التبدلات العميقة التي أحْدَثها الإنسان في الماضي في كنفه الحيوي، كما يستطيع تقدير أثر التبدلات التي يحدثها الإنسان المعاصر في الحياة على سطح هذا الكوكب والتي تهدد وجوده. وبهذا يسهم «التاريخ الطبيعي» في حل جزء من أبرز المشكلات الملحة المطروحة والممثلة بربط الإنتاجية بمصير النظم البيئية الطبيعية المكونة للكرة الأرضية.
عن منتديات العز - د.هزاع