الفصل الثالث
التقينا إذن..
قالت:
- مرحباً.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا يوم..
قلت:
- لا تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر بعمر.
قالت:
- كم يلزمني إذن لتغفر لي؟
قلت:
- ما يعادل ذلك العمر من عمر!
وجلس الياسمين مقابلاً لي.
يا ياسمينة تفتحت على عجل.. عطراً أقلّ حبيبتي.. عطراً أقل!
لم أكن أعرف أنّ للذاكرة عطراً أيضاً.. هو عطر الوطن.
مرتبكاً جلس الوطن وقال بخجل:
- عندك كأس ماء.. يعيشك؟
وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي.
ارتوي من ذاكرتي سيدتي.. فكلّ هذا الحنين لكِ.. ودعي لي مكانا هنا مقابلاً لكِ..
أحتسيك كما تُحتسى، على مهل، قهوة قسنطينية.
أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا الظمأ نفسه.. ولكن كانت لنا الرغبة نفسها في الحديث.
قلت معتذرة:
- أنا لم أحضر البارحة، لأنني سمعت عمّي يتحدث لشخص على الهاتف ويتفق معه على زيارتك، ففضّلت أن أؤجّل زيارتي لك إلى اليوم حتى لا ألتقي بهما..
أجبتك وأنا أتأملك بسعادة من يرى نجمه الهارب أخيراً أمامه:
- خفت ألا تأتي أبداً..
ثم أضفت:
- أمّا الآن فيسعدني أنني انتظرتك يوماً آخر، إنّ الأشياء التي نريدها تأتي متأخرة دائماً!
تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟
ساد شي من الصمت بيننا وارتباك الاعتراف الأول.. عندما قلت وكأنك تريدين كسر الصمت، أو إثارة فضولي:
- أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟
قلت سعيداً ومتعجباً:
- وماذا تعرفين مثلاً؟
أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه:
- أشياء كثيرة قد تكون نسيتها أنت..
قلت لك بمسحة حزن:
- لا أعتقد أن أكون نسيت شيئاً. مشكلتي في الواقع أنني لا أنسى!
أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لم أعِ ساعتها كلّ عواقبه القادمة عليّ:
- أمّا أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى كل شيء.. تصوّر.. البارحة مثلاً نسيت بطاقة الميترو في حقيبة يدي الأخرى. ومنذ أسبوع نسيت مفتاح البيت داخل البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي الباب.. إنها كارثة.
قلت ساخرا:
- شكراً إذن لأنك تذكرت موعدنا هذا!
أجبت باللهجة الساخرة نفسها:
- لم يكون موعداً.. كان احتمال موعد فقط.. لا بدّ أن تعلم أنني أكره اليقين في كلّ شيء.. أكره أن أجزم بشيء أو ألتزم به.. الأشياء الأجمل، تولد احتمالاً.. وربّما تبقى كذلك.
سألتك:
- لماذا جئتِ إذن.؟
تأمّلتني.. وراحت عيناك تتسكعان في ملامح وجهي، وكأنهما تبحثان عن جواب لسؤال مفاجئ.. ثمّ قلت في نظرة مثقلة بالوعود والإغراء..
- لأنك قد تكون يقيني المحتمل!
ضحكت لهذه الجملة التي تحمل تناقضاً أنثوياً صارخاً_ لم أكن أعرف بعد أنه سِمَتك_ وقلت وقد ملأتني عيناك غروراً وزهواً رجالياً:
- أمّا أنا فأكره الاحتمالات.. ولذا أجزم أنني سأكون يقينك.
قلت بإصرار أنثى على قول الكلمة الأخيرة:
- إنه افتراض.. محتمل كذلك!
وضحكنا كثيراً.
كنت سعيداً وكأنني أضحك لأول مرة منذ سنوات. كنت أتوقع لنا بدايات أخرى، وكنت قد أعددت جملاً ومواقف كثيرة لمبادرتك في هذا اللقاء الأول. ولكن اعترف أنني لم أكن أتوقع لنا بداية كهذه.
فقد تلاشى كلّ ما أعددته ساعة قدومك.. وتبعثرت لغتي أمام لغتك التي لم أكن أدري من أين تأتين بها.
كان في حضورك شيء من المرح والشاعرية معاً. كان هناك تلقائية وبساطة تكاد تجاور الطفولة، دون أن تلغي ذلك الحضور الأنثوي الدائم.. وكنت تملكين تلك القدرة الخارقة على مساواة عمري بعمرك، في جلسة واحدة. وكأن فتوّتك وحيويّتك قد انتقلتا إليّ عن طريق العدوى. كنت ما أزال تحت وقع تصريحاتك تلك، عندما فاجأني كلامك:
- في الواقع.. كنت أريد أن أرى لوحاتك بتأنٍّ أكثر، لم أكن أريد أن أتقاسمها في ذلك اليوم مع ذلك الحشد من الناس.. عندما أحبّ شيئاً.. أفضل أن أنفرد به!
كانت هذه أجمل شهادة إعجاب يمكن أن تقولها زائرة لرسّام.. وأجمل ما يمكن أن تقوليه لي أنت ذلك اليوم. وقبل أن أذهب بعيداً في فرحتي أو أشكرك أضفت:
- ما عدا هذا.. كنت أود أن أتعرَّف عليك منذ زمن بعيد. لقد كانت جدتي تحدثني أحياناً عنك عندما تذكر أبي. يبدو أنها كانت تحبك كثيراً..
سألتك بلهفة:
- وكيف هي (أمّا الزهرة)؟ إنني لم أرها منذ زمان.
قلت بمسحة حزن:
- لقد توفيت من أربع سنوات، وبعد وفاتها انتقلت أمي لتعيش مع أخي ناصر في العاصمة. وجئت أنا إلى باريس لمتابعة دراستي. لقد غيّر موتها حياتنا بعض الشيء.. فهي التي ربَّتنا في الواقع..
حاولت أن أنسى ذلك الخبر. كان موتها شوكة أخرى انغرست في قلبي يومها. فقد كان فيها شيء من (أمّا)، من عطرها السري، من طريقتها في تعصيب رأسها على جنب بالمحارم الحريرية، وإخفاء علبة "النفّة" الفضّيّة في صدرها الممتلئ. وكانت لها تلك الحرارة التلقائية التي تفيض بها الأمهات عندنا، تلك الكلمات التي تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من الحنان لعمر بأكمله.
ولكن الوقت لم يكن للحزن. كنتِ معي أخيراً، وكان على الزمن أن يكون للفرح فقط.
قلت لك:
- رحمها الله.. لقد كنت أنا أيضاً أحبّها كثيراً..
تراك أردت عندئذ، أن تضعي نهاية لموجة الحزن التي فاجأتني. خشية أن تجرفنا معاً نحو ذاكرة لم نكن مهيأين بعد لتصفحها.
أم فقط كنت تريدين أن تطبّقي برنامج زيارتك عندما نهضت فجأة وقلت:
- أيمكنني أن ألقي نظرة على لوحاتك؟
وقفت لمرافقتك.
رحت أشرح لك بعضها والمناسبات التي رسمتها فيها عندما قلت وأنت تنقلين فجأة عينيك من اللوحات إليّ:
- أتدري أنني أحب طريقتك في الرسم؟. أنا لا أقول لك هذا مجاملة، ولكن أعتقد أنني لو كنت أرسم لرسمت هكذا مثلك.. أشعر أننا نحن الاثنين نرى الأشياء بإحساس واحد.. وقلّ ما أحسست بهذا تجاه إنتاج جزائري.
ما الذي أربكني الأكثر لحظتها؟. أترى عيناك اللتان أصبح لهما فجأة لون آخر تحت الضوء، واللتان كانتا تتأملان فجأة ملامحي وكأنهما تتأملان لوحة أخرى لي.. أم ما قلته قبل ذلك والذي شعرت أنه تصريح عاطفي وليس انطباعاً فنياً؛ أو هكذا تمنَّيت أو خيّل لي. توقف سمعي عند كلمة "نحن الاثنين". إنها بالفرنسية تأخذ بعداً موسيقياً عاطفياً فريداً.. حتى إنها عنوان لمجلة عاطفية تصدر لمن تبقى من رومنطيقيين في فرنسا ( Nous deux) .
أخفيت ارتباكي بسؤال ساذج:
- وهل ترسمين؟
قلت:
- لا أنا أكتب.
- وماذا تكتبين؟
- أكتب قصصاً وروايات؟!
- قصصاً وروايات...!
ردّدتها وكأنني لا أصدق ما أسمع.. فقلت وكأنكِ شعرت بإهانة من مسحة العجب أو الشك في صوتي:
- لقد صدرت لي أول رواية منذ سنتين..
سألتك وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- وبأي لغة تكتبين؟
قلت:
- بالعربية..
- بالعربية؟!
استفزتك دهشتي، وربما أسأت فهمها حين قلت:
- كان يمكن أن أكتب بالفرنسية، ولكن العربية هي لغة قلبي.. ولا يمكن أن أكتب إلا بها.. نحن نكتب باللغة التي نحسّ بها الأشياء.
- ولكنك لا تتحدثين بغير الفرنسية..
- إنها العادة..
قلتها ثم واصلت تأمل اللوحات قبل أن تضيفي:
- المهم.. اللغة التي نتحدث بها لأنفسنا وليست تلك التي نتحدث بها للآخرين!
رحت أتأملك مدهوشاً، وأنا أحاول أن أضع شيئاً من الترتيب في أفكاري..
أيمكن أن تجتمع كلّ هذه المصادفات، في مصادفة واحدة؟ وكلّ هذه الأشياء التي كانت قناعاتي الثابتة.. وأحلامي الوطنية الأولى، في امرأة واحدة.. وأن تكون هذه المرأة هي أنت.. ابنة سي الطاهر لا غير؟ لو تصوَّرت لقاء مدهشاً في حياتي، لما تصورت أكثر إدهاشاً من هذا. إنها أكثر من مصادفة، إنه قدر عجيب، أن تتقاطع طرقنا على هذا النحو، بعد ربع قرن.
أعادني صوتك إلى الواقع وأنت تتوقفين عند إحدى اللوحات:
- أنت قلّ ما ترسم وجوهاً، أليس كذلك؟
وقبل أن أجيبك قلت:
- اسمعي.. لن نتحدث إلى بعض إلا بالعربية.. سأغير عاداتك بعد اليوم..
سألتني بالعربية:
- هل ستقدر؟
أجبتك:
- سأقدر... لأنني سأغير أيضاً عاداتي معك..
أجبتني عندئذ بفرح سري لامرأة اكتشفت فبما بعد أنها تحب الأوامر:
- سأطيعك.. فأنا أحب هذه اللغة.. وأحب إصرارك. ذكِّرني فقط لو حدث ونسيت.
قلت:
- لن أذكرك.. لأنك لن تنسي ذلك!
وكنت أرتكب لحظتها أجمل الحماقات. وأنا أجعل تلك اللغة التي كان لي معها أكثر من صلة عشقية، طرفاً آخر في قصّتنا المعقّدة..
عدت لأسألك بالعربية:
- عمّ كنت تتحدثين منذ قليل؟
قلت:
- كنت أعجب ألا يوجد في معرضك سوى هذه اللوحة التي تمثِّل وجهاً نسائياً.. ألا ترسم وجوهاً؟
قلت:
- كنت في فترة أرسم وجوهاً ثم انتقلت إلى موضوعات أخرى. في الرسم، كلما تقدم عمر الفنان وتجربته، ضاقت به المساحات الصغيرة وبحث عن طرق أخرى للتعبير.
في الحقيقة أنا لا أرسم الوجوه التي أحبها حقاً.. أرسم فقط شيئاً يوحي بها.. طلّتها.. تماوج شعرها.. طرفاً من ثوب امرأة.. أو قطعة من حليّها. تلك التفاصيل التي تعلق في الذاكرة بعدما نفارقها. تلك التي تؤدي إليها دون أن تفضحها تماماً.. فالرسام ليس مصوراً فوتوغرافياً يطارد الواقع.. إنّ آلة تصويره توجد داخله، مخفية في مكان يجهله هو نفسه، ولهذا هو لا يرسم بعينيه، وإنما بذاكرته وخياله.. وبأشياء أخرى.
قلت وعيناك تنظران لامرأة يطغى شقار شعرها على اللوحة ولا يترك مجالاً للون آخر سوى حمرة شفتيها غير البريئتين:
- وهذه المرأة إذن.. لماذا رسمت لها لوحة واقعية إلى هذا الحدّ؟
ضحكت وقلت:
- هذه امرأة لا ترسم إلا بواقعية..
-ولماذا أسميت لوحتها "اعتذار"؟
- لأنني رسمتها اعتذاراً لصاحبتها..
قلت فجأة بلهجة فرنسية وكأن غضبك أو غيرتك السرّيّة قد ألغت اتفاقنا السابق:
- أتمنى أن يكون قد أقنعها هذا الاعتذار.. فاللوحة جميلة حقاً.
ثم أضفت بشيء من الفضول النسائي:
- ولكن هذا يعود إلى نوع الذنب الذي اقترفته في حقها!
لم أكن أشعر بأيّة رغبة في أن أقصّ عليك قصة تلك اللوحة، في لقائنا الأول. كنت أخاف أن يكون لتلك القصة تأثير سلبي على علاقتنا، أو على نظرتك لي. فحاولت أن أتهرب من تعليقك الذي يستدرجني بحيلة إلى مزيد من التوضيح، وأتجاهل عنادك في الوقوف طويلاً أمام تلك اللوحة بالذات.
ولكن.. هل يمكن أن تقاوم فضول أنثى تصرّ على معرفة شيء؟
أجبتك:
- لهذه اللوحة قصة طريفة شيئاً ما، تكشف عن جانب من عقدي ورواسبي القديمة، وهي هنا ربّما لهذا السبب.
ورحت أقصّ لأول مرة قصة تلك اللوحة التي رسمتها ذات يوم، بعدما حضرت مرة، كما أفعل بين الحين والآخر، إحدى جلسات الرسم في مدرسة الفنون الجميلة، حيث يدعوني هناك بعض أصدقائي الأساتذة، كما يفعلون عادة مع بعض الرسَّامين، لألتقي بالطلبة والرسامين الهواة.
كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي عارٍ. وبينما كان جميع الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد من زواياه المختلفة، كنت أنا أفكِّر مدهوشاً في قدرة هؤلاء على رسم جسد امرأة بحياد جنسيّ، وبنظرة جمالية لا غير، وكأنهم يرسمون منظراً طبيعياً أو مزهرية على طاولة، أو تمثالاً في ساحة.
من الواضح، أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك الجلسة. فقد كنت أرى، لأول مرة، امرأة عارية هكذا تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض جسدها بتلقائية، ودون حرج أمام عشرات العيون؛ وربما في محاولة لإخفاء ارتباكي رحت أرسم أيضاً. ولكن ريشتي التي تحمل رواسب عقد رجل من جيلي، رفضت أن ترسم ذلك الجسد، خجلاً أو كبرياء لا أدري.. بل راحت ترسم شياً آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه تلك الفتاة كما يبدو من زاويتي.. وعندما انتهت تلك الجلسة، وارتدت تلك الفتاة التي لم تكن سوى إحدى الطالبات ثيابها، وقامت بجولة كما هي العادة لترى كيف رسمها كلّ واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم أرسم سوى وجهها. قالت بلهجة فيها شيء من العتاب وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة لأنوثتها: "أهذا كلّ ما ألهمتك إيّاه؟" فقلت مجاملاً: "لا، لقد ألهمتني كثيراً من الدهشة، ولكني أنا أنتمي لمجتمع لم يدخل الكهرباء بعد إلى دهاليز نفسه. أنت أوَّل امرأة أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل يحترف الرسم.. فاعذريني. إن فرشاتي تشبهني، إنها تكره أيضاً أن تتقاسم مع الآخرين امرأة عارية.. حتى في جلسة رسم!".
كنت تستمعين إليّ مدهوشة، وكأنك تكتشفين فيّ فجأة رجلاً آخر لم تحدثك عنه جدّتك. كان في عينيك فجأة شي جديد، نظرة غامضة ما، شيء من الإغراء المتعمّد، ربما سببه غيرة نسائية من امرأة مجهولة، سرقت في يوم ما اهتمام رجل لم يكن حتى الآن مهماً بالنسبة إليك.
رحت أتلذّذ بذلك الموقف العجيب الذي لم أتعمده. كنت سعيداً أن تثير فيك الغيرة هذا الصمت المفاجئ، وهذه الحمرة الخفيفة التي علت وجنتيك، وجعلت عينيك تتّسعان بغضب مكبوت. فاحتفظت لنفسي ببقية القصة.. لم أخبرك أن هذه الحادثة تعود لسنتين، وأنَّ صاحبتها ليست سوى كاترين، وأنه كان عليّ فيما بعد أن أقدم لجسدها اعتذاراً آخر.. يبدو أنه كان مقنعاً لدرجة أنها لم تفارقني منذ ذلك الحين!
أذكر اليوم بشيء من السخرية، ذلك المنعطف الذي أخذته علاقتنا فجأة بعدما حدّثتك عن تلك اللوحة.. عجيب هو عالم النساء حقاً! كنت أتوقع أن تقعي في حبي، وأنت تكتشفي تلك العلاقة السرية التي تربطك بلوحتي الأولى "حنين". لوحة في عمرك وفي هويتك. وإذا بك تتعلقين بي بسبب لوحة أخرى لامرأة أخرى، تعبر الذاكرة خطأ!
انتهى موعدنا الأول عند الظهر.
كان عندي إحساس ما إنني سأراك مرة أخرى.. ربما غداً. كنت أشعر أننا في بداية شيء ما، وأننا كلينا على عجل. كان هناك كثير من الأشياء التي لم نقلها بعد، بل إننا لم نقل شياً في النهاية. نحن أغرينا بعضنا فقط بحديث محتمل. كنّا، عن سذاجة أو عن ذكاء، نمارس اللعبة نفسها معاً، ولذا لم أتعجب كثيراً عندما سألتني وأنت تودّعينني:
- هل ستكون هنا غداً صباحاًً؟
قلت لك بسعادة من ربح الرهان:
- طبعاً.
قلت:
- سأعود إذن غداً في الوقت نفسه تقريباً، سيكون لنا متَّسع أكثر للحديث. لقد مرّ الوقت بسرعة اليوم دون أن ننتبه لذلك..
لم أعلّق على كلامك. كنت أدري أن لا مقياس للوقت سوى قلبينا. ولذا فالوقت لا يركض بنا إلا عندما يركض بنا القلب لاهثاً أيضاً من فرحة إلى أخرى، ومن دهشة إلى أخرى.. ولذا وجدت في كلامك اعترافاً بفرح مشترك سرّيّ.. توقعت أن يتكرَّر.
أذكر أنني قلت لك يومها وأنا أودِّعك عند باب القاعة:
- لا تنسي كتابك غداً.. أريد أن أقرأك.
قلت متعجبة:
- أتتقن العربية؟
قلت:
- طبعاً.. سترين ذلك بنفسك.
قلتِ:
- سأحضره إذن..
ثم أضفت بابتسامة لا تخلو من كيدٍ نسائي محبّب:
- مادمت تصرّ على معرفتي.. لن أحرمك من هذه المتعة!
وانغلق الباب خلف ابتسامتك تلك، دون أن أفهم ما كنت تعنيه بالتحديد.
ذهبت بالغموض الضبابي الذي جئت به.. نفسه. وبقيت عند عتبة ذلك الباب الزجاجي، أتأملك تندمجين بخطى المارة وتختفين مرة أخرى كنجمٍ هارب.. و أنا أتسال بشيء من الذهول.. ترانا التقينا حقاً؟!
التقينا إذن..
الذين قالوا "الجبال وحدها لا تلتقي".. أخطأوا.
والذين بنوا بينها جسوراً، لتتصافح دون أن تنحني أو تتنازل عن شموخها.. لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل و الهزات الأرضية الكبرى، وعندما لا تتصافح، وإنما تتحول إلى تراب واحد.
التقينا إذن..
وحدثت الهزة الأرضية التي لم تك متوقّعة، فقد كان أحدنا بركاناً، وكنت أنا الضحية.
يا امرأة تحترف الحرائق. ويا جبلاً بركانياً جرف كلّ شيء في طريقه، وأحرق آخر ما تمسَّكت به.
من أين أتيت بكل تلك الأمواج المحرقة من النار؟ وكيف لم أحذر تربتك المحمومة، كشفتيْ عاشقة غجرية.
كيف لم أحذر بساطتك وتواضعك الكاذب، وأتذكّر درساً قديماً في الجغرافية: "الجبال البركانية لا قمم لها؛ إنها جبال في تواضع هضبة.." فهل يمكن للهضاب أن تفعل كلّ هذا؟
كلّ الأمثلة الشعبية تحذّرنا من ذلك النهر المسالم الذي يخدعنا هدوؤه فنعبره، وإذا به يبتلعنا. وذلك العود الصغير الذي لا نحتاط له.. وإذا به يعمينا.
أكثر من مثل يقول لن بأكثر من لهجة "يؤخذ الحذر من مأمنه". ولكن كلّ تحذيراتها لن تمنعنا من ارتكاب المزيد من الحماقات، فلا منطق للعشق خارج الحماقات والجنون. وكلما ازددنا عشقاً كبرت حماقاتنا.
ألم يقل (برنارد شو) "تعرف أنك عاشق عندما تبدأ في التصرف ضد مصلحتك الشخصية!"
وكانت حماقاتي الأولى، أنني تصرفت معك مثل سائح يزور صقلّية لأول مرة، فيركض نحو بركان (إتنا)، ويصلِّي ليستيقظ البركان النائم بعين واحدة من نومه، ويغرق الجزيرة ناراً، على مرأى من السواح المحملين بالآلات الفوتوغرافية.. والدهشة.
وتشهد جثث السواح التي تحولت إلى تراب أسود أنه لا أجمل من بركان يتثاءب، ويقذف ما في جوفه من نيران وأحجار، ويبتلع المساحات الشاسعة في بضع لحظات.
وأنّ المتفرج عليه يصاب دائماً بجاذبية مغناطيسية ما.. بشيء شبيه بشهوة اللهب، يشدّه لتلك السيول النارية، فيظل منبهراً أمامها. يحاول أن يتذكّر في ذهول كلّ ما قرأه عن قيام الساعة، وينسى بحماقة عاشق، أنه يشهد ساعتها.. قيام ساعته!
يشهد الدمار حولي اليوم، أنني أحببتك حتى الهلاك؛ وأشتهيك.. حتى الاحتراق الأخير. وصدَّقت جاك بريل عندما قال "هناك أراض محروقة تمنحك من القمح ما لا يمنحك نيسان في أوج عطائه". وراهنت على ربيع هذا العمر القاحل. ونيسان هذه السنوات العجاف.
يا بركاناً جرف من حولي كلّ شيء.. ألم يكن جنوناً أن أزايد على جنون السواح والعشاق، وكلّ من أحبوك قبلي.. فأنقل بيتي عند سفحك، وأضع ذاكرتي عند أقدام براكينك، وأجلس بعدها وسط الحرائق.. لأرسمك.
ألم يكن جنوناً.. أن أرفض الاستعانة بنشرات الأرصاد الجوية، والكوارث الطبيعية، وأقنع نفسي أنني أعرف عنك أكثر مما يعرفون. نسيت وقتها أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحبّ، وأنّ ما أعرفه عنك لا علاقة له بالمنطق ولا بالمعرفة.
التقت الجبال إذن.. والتقينا.
ربع قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ بك.
ربع قرن من الأيام المتشابهة التي أنفقتها في انتظارك.
ربع قرن على أوَّل لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة تلعب على ركبتي كانت أنت.
ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة عن والد لم يرك.
أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسيّة ذراعه، وفي المجن المغلقة قلبه..
لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها جثّتي، والمدينة التي سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي، لتبقى عذراء.. وجبّارة مثلك. تحمل في لونها كلّ الأضداد.
كيف حدث كلّ هذا؟ لم أعد أدري.
كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحبّ ينقلنا من شهقة إلى أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل.
كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوة تقف في وجه القدر؟
كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريباً، كنّا نلتقي في تلك القاعة نفسها في ساعات مختلفة من النهار، فقد شاءت المصادفات أن يصادف معرضي عطلة الربيع المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي كلّ يوم. فلم يكن لك أيّ دوام جامعي.
كان عليك فقط أن تتحايلي على الآخرين بعض الشيء، وربما على ابنة عمك أكثر، حتى لا ترافقك لسبب أو لآخر.
كنت أتساءل كل مرة وأنا أودعك مردداً تلقائياً، "إلى الغد": ترانا نرتكب أكبر الحماقات ويزداد تعلقنا ببعض كلّ يوم. وربما لأنني كنت أكبرك سنّاً، كنت أشعر أنني تحمل وحدي مسؤولية ذلك الوضع العاطفي الشاذ وانحدارنا السريع والمفجع نحو الحب.
ولكن عبثاً كنت أحاول الوقوف في طريق ذلك الشلال الذي كان يجرفني إليك بقوة حبّ في الخمسين، بجنون حبّ في الخمسين، بشهية رجل لم يعرف الحبّ قبل ذلك اليوم.
كان حبك يجرفني بشبابه وعنفوانه، وينحدر بي إلى أبعد نقطة في اللامنطق.. تلك التي يكاد يلامس فيها العشق، في آخر المطاف، الجنون أو الموت..
وكنت أشعر وأنا أنحدر معك إلى تلك المتاهات العميقة داخلي، إلى تلك الدهاليز السرية للحب والشهوة، وإلى تلك المساحة البعيدة الأغوار التي لم تطأها امرأة قبلك، أنني أنزل أيضاً سلّم القيم تدريجياً، وأنني أتنكَّر دون أن أدري لتلك المثل التي آمنت بها بتطرّف، ورفضت عمراً بأكمله أن أساوم عليها.
لقد كانت القيم بالنسبة لي شياً لا يتجزأ، ولم يكن هناك في قاموسي من فرق بين الأخلاق السياسية، وبقية الأخلاق.. وكنت أعي أنني، معك، بدأت أتنكَّر لواحدة لأقنعك بأخرى.
تساءلت كثيراً آنذاك..
تراني كنت أخون الماضي، وأنا أنفرد بك في جلسة شبه بريئة، في قاعة تؤثثها اللوحات والذاكرة؟
تراني أخون أعزّ مَنْ عرفت من رجال، وأكثرهم نخوة ومروءة، وأكثرهم شجاعة ووفاءً؟
تراني سأخون سي الطاهر قائدي ورفيقي وصديق عمر بأكمله. فأدنّس ذكراه وأسرق منه زهرة عمره الوحيدة.. ووصيّته الأخيرة؟
أيمكن أن أفعل كلّ ذلك باسم الماضي، وأنا أحدِّثك عن الماضي!
ولكن.. أكنت حقّاً أسرق منك شيئاً، في تلك الجلسات التي كنت أحدِّثك فيها طويلاً عنه؟.
لا.. لم يحدث هذا أبداً، كانت هيبة اسمه حاضرة في ذهني دائماً. كانت تربطني بك وتفصلني عنك في الوقت نفسه. كانت جسراً وحاجزاً في الوقت نفسه..
وكانت متعتي الوحيدة وقتها، أن أودعك مفاتيح ذاكرتي. أن أفتح لك دفاتر الماضي المصفرّة، لأقرأها أمامك صفحة.. صفحة. وكأنني أكتشفها معك وأنا أستمع لنفسي، أقصها لأول مرة.
كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل بطريقة مخيفة. كنت أنا الماضي الذي تجهلينه، وكنتِ أنت الحاضر الذي لا ذاكرة له، والذي أحاول أن أودعه بعض ما حمّلتني السنوات من ثقل.
كنتِ فارغة كإسفنجة، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر.
رحت تمتلئين بي كلّ يومٍ أكثر..
كنت أجهل ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتلأت بك أيضاً، وأنني كلما وهبتك شياً من الماضي، حوّلتك إلى نسخة منّي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاً وأزقة مشتركة، وأفراحاً وأحزاناً مشتركة كذلك. فقد كنَّا معاً معطوبي حرب، وضعتنا الأقدار في رحاها التي لا ترحم، فخرجنا كلُّ بجرحه.
كان جرحي واضحاً و جرحك خفياً في الأعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضواً.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كنَّا أشلاء حرب.. وتمثالين محطّمين داخل أثواب أنيقة لا غير.
أذكر ذلك اليوم الذي طلبت فيه مني لأول مرة، أن أحدَّثك عن أبيك. واعترفت بشيء من الارتباك، أنَّك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من المرارة التي اكتشفتها فيك لأول مرة.
قلت:
- ما فائدة أن يمنح اسم أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت لا أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على أن يحدّثني عنه حقاً؟
قلت لك متعجباً:
- ألم يحدثك عنه عمّك مثلاً؟
قلت:
- عمّي لا وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره أمامي، يأتي كلامه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر أخيه، ولا يتوجه فيها إليّ ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلّ شي..
الذي أريد أن أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد الأبطال والشهداء، والتي تقال في كلّ مناسبة عن الجميع؛ وكأنَّ الموت سوّى فجأة بين كلّ الشهداء، فأصبحوا جميعاً نسخة طبق الأصل.
يهمني أن أعرف شيئاً عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. لا أريد أن أكون ابنة لأسطورة، الأساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوّته وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه. ففي حياة كلّ رجل خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباً في انتصار آخر.
حلّ شيء من الصمت بيننا..
كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحدّ الفاصل بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيّاً، ولا كنت أنت آلهة إغريقية.. كنّا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمَي الأطراف، يحاولان ترميم أجزائهما بالكلمات. فرحت أستمع إليك وأنت ترمِّمين ما في أعماقك من دمار.
قلت:
- يحدث أن أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من خطّ آخر، ولكنها جميعاً أرقام لمأساة ما.
وأضفتِ:
- أن يكون أبي أورثني اسماً كبيراً، هذا لا يعني شيئاً. لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكوناً بهاجس الفشل، وهو الابن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه أن يفشل في الدراسة ولا في الحياة، لأنه ليس من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، في زمن يكدّس فيه الآخرون الملايين. ربما كان على حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة محترمة.
لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو إلى موظَّفين برواتب وأحلام محدودة، فقرَر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره رأيه، إلا أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزّ شبابه، إلى تاجر صغير يدير محلاً تجارياً وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. لا أعتقد أن أبي كان يتوقَّع له مستقبلاً كهذا!
قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك:
- إنه لم يتوقع أيضاً لك مستقبلاً كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحلامه؛ إنك الوريثة لكلّ طموحاته ومبادئه. كان رجلاً يقدّس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم بجزائر لا علاقة لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت جيله وقضت عليه. إنك لا تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ الاستثنائي، في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقَّفة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى الكتابة..
أجبت بشيء من السخرية:
- قد أكون مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمنّ به أحد عليّ. نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منّا.. كنت أفضِل أن تكون لي طفولة عادية وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة كالآخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاً لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها منِّي أحد!
أذهلني كلامك. ملأني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني إلى حد الشفقة عليك. إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن. كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد لأستعيد يدي الأخرى. كنت أفضِّل لو بقيت رجلاً عاديا بذراعين اثنتين، لأقوم بأشياء عادية يومية، ولا أتحول إلى عبقري بذراع واحدة، لا تتأبط غير الرسوم واللوحات.
لم يكن حلمي أن أكون عبقرياً ولا نبياً ولا فناناً رافضاً ومرفوضاً. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأولاد، ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا بي أب لأطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد بتروا أيضاً أحلامي.
قلت لك:
- لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد.
قلتِ:
- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات الأخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني وبينها من قرابة.
ثم أضفت وكأنك تودعينني سراً:
- أتدري لماذا كنت أحبّ جدّتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أمّي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد متسعاً من الوقت لتحدِّثني عن كلِّ شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائياً، وكأنها ترفض الخروج منه. كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. ولا تطرب سوى لسماع أغانيه.
كانت تحلم بالماضي في زمن كان الآخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيراً ما تحدّثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها الأنثوي العابر. وكانت لا تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل ذلك بحسرة الأم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها إلى الأبد.. ولكنها لم تكن تقول لي عنه أكثر مما تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو الأجمل.. هو الأروع.. هو الابن البارّ الذي لم يجرحها يوماً بكلمة.
يوم الاستقلال بكت جدّتي كما لم تبك يوماً. سألتها "أمّا.. لماذا تبكين وقد استقلَّت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئاً".
يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التي قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليك أطراف".
وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهما وأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كان أبي.
لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطف الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّ البكاء؟
مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل، فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس الذي انتهت لتوِّها من إعداده.
لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهنَّ للمطبخ، ولذا كنّ يعشن الأعياد والأعراس كوليمة حبّ، يهبن فيها من جملة ما يهبن فائض أنوثتهنَّ.. وحنانهنَ وجوع سرّي لم يجد له من تعبير آخر خارج الأكل.
لقد كنَّ في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "ترّاس".. وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهنّ المتوارث من عصور..اكتشفت هذه الحقيقة مؤخراً فقط، يوم وجدت نفسي ربَّما وفاءً لهنَّ_ عاجزاً عن حبّ امرأة تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها!
سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من خدوش طفولتي البعيدة:
- وأمك.. إنك لم تحدّثيني عنها أبداً كيف عاشت بعد وفاة سي الطاهر؟
قلتِ:
- لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربّما كانت في أعماقها تعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزفّونها لشهيد وليس لرجل..
كانت تعرف مسبقاً نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعد الزواج، وسيدخل في الحياة السرّيّة، ولن يزورها إلا خلسة بين الحين والآخر، وقد لا يعود إليها إلا جثماناً، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان لا بدّ لذلك الزواج أن يتمّ؛ كان في الجوّ رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر عبد المولى، صاحب الاسم والثروة الكبيرة. ولا بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته القادمة. وربما كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور الأولياء والصالحين متضرِّعة باكية لابنها أخيراً ذريّة.. تماماّ كما كانت تزور سابقاً يوم كانت حبلى به طالبة آنذاك أن يكون مولودها صبيّاً..
سألتك:
- من أين تعرفين كلّ هذه القصص؟
قلت:
- منها هي.. ومن أمي أيضاً. تصور أنها يوم كانت حبلى بأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا سمَته ( محمد الطاهر) تباركاً به.. ثمّ سمّت عمي ( محمد الشريف) تباركاً به أيضاً.. بعدها عرفت أنَّ نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأنَّ أهل تلك المدينة يولون اهتماماً كبيراً للأسماء، وأنَ معظمهم يحمل أسماء الأنبياء أو الأولياء الصالحين. وهكذا كادت تسمِيني "السيدة" تباركاً بالسيدة المنوبيّة التي كانت تزورها في تونس كلّ مرة محملة بالشمع والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار (سيدي عمر الفاياش). ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عارياً تماماً من كل شيء.. وهو ما جعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى لا يغادر البيت عارياً كما تعوّد أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيداً، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إلا من النساء اللاتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته المعروضة للفرجة.. ولفضول النساء الملتحفات بـ (السفساري) والمتظاهرات بالحشمة الكاذبة!.
سألتك ضاحكاًً..
- وهل زرته أنت؟.
قلتِ:
- طبعاً.. لقد زرته بعد ذلك مع كلّ واحدة منهنَّ على انفراد؛ وزرت أيضاً "السيدة المنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لولا أنَّ أمي أنقذتني من تلك الكارثة، وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي يعود إليه القرار الأخير في اختيار اسمي.
توقَّف القلب عند هذا الاسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثّر اللسان وهو يلفظ هذا الاسم بعد ربع قرن تماماً وفاجأك سؤالي:
- هل يسعدك أن أناديك "حياة"؟
قلت متعجبة..
- لماذا.. ألا يعجبك اسمي الحقيقي.. أليس أجمل؟!
قلت:
- إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطر اسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه لأول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي باسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحبّ أن أسمِّيك "حياة" لأنني قد أكون الوحيد مع والدتك الذي يعرف اليوم هذا الاسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة سرّ، ليذكّرك بعلاقتنا الاستثنائية، وبأنك أيضاً.. طفلتي بطريقة ما.
ضحكتِ.. قلتِ:
- أتدري أنك لم تخرج أبداً من فترة الثورة، ولذا أنت تشعر برغبة في أن تعطيني اسماً حركياً حتى قبل أن تحبني. وكأنك ستدخلني بذلك في العمل السري.. أيّة مهمة تراك تعد لي؟
ضحكت بدوري لملاحظتك التي فاجأتني بواقعيتها. تراك بدأت تعرفينني إلى هذا الحد؟
قلت:
- اعلمي أيتها الثوريّة المبتدئة أنه لا بدّ من أكثر من اختبار. لنكلِّف أحداً بمهمة فدائية. ولذا سأبدأ في مرحلة أولى بدراستك، ومعرفة استعدادتك الخاصّة!
أحسست لحظتها، أنّ الوقت قد أصبح مناسباً، لأقصّ عليك أخيراً قصّة يومي الأخير في الجبهة، ذلك اليوم الذي لفظ فيه سي الطاهر اسمك أمامي لأول مرة، وهو يودِّعني ويكلِّفني إذا ما وصلت إلى تونس على قيد الحياة أن أقوم بتسجيلك نيابة عنه.
وتلك الليلة التي عبرت فيها الحدود الجزائرية التونسية، بجسد محموم وذراع تنزف، وأنا أردِّد لنفسي بهذيان الحمّى، اسمك الذي أصبح وسط إجهادي ونزيفي، وكأنه اسم لعملية أخيرة كلفني بها سي الطاهر، كنت أريد أن أحقق طلبه الأخير، وأطارد حلمه الهارب، فأمنحك اسماً شرعياً رسمياً.. لا علاقة له بالخرافات والأولياء..
أذكر ذلك اليوم الذي وقفت فيه لأول مرة أدق باب بيتكم في شارع التوفيق بتونس. أذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها وكأن ذاكرتي كانت تقرأ مسبقاً ما سيكتب لي معك، فأفرغت مساحة كافية لها.
في ذلك اليوم الخريفيّ من شهر أيلول، انتظرت أمام بابكم الحديديّ الأخضر، قبل أن تفتح (أمّا الزهرة) الباب بعد لحظات بدت لي طويلة..
مازلت أذكر تلك الشهقة في نظرتها، كأنها كانت تنتظر شخصاً آخر غيري.
توقفت مدهوشة أمامي، تفحّصت معطفي الرمادي الحزين ووجهي النحيل الشاحب. توقفت عند ذراعي الوحيدة التي تمسك علبة الحلوى، وذراع معطفي الأخرى الفارغة التي تختبئ لأول مرة بحياء داخل جيب معطفي.
وقبل أن أنطق بأية كلمة اغرورقت عيناها بالدموع، وراحت تبكي دون أن تفكِّر حتى في دعوتي إلى دخول البيت.
انحنيت أقبّلها.. بشوق السنوات التي لم أرها فيها.. بالشوق الذي حمّلني إياه ابنها.. وبشوق (أمّا) التي لم أتعوَّد بعد سنتين ونصف على فجيعتها..
- واشك أمّا الزهرة؟
زاد بكاؤها وهي تحتضنني وتسألني بدورها..
- واش راك يا ولدي..؟
أكان بكاؤها فرحاً بلقائي، أم حزناً على حالتي، وعلى ذراعي التي تراها مبتورة لأول مرة.. أكانت تبكي لأنها توقعت أن ترى ابنها ورأتني.. أم فقط لأن أحداً قد دقّ هذا الباب، ودخل حاملاً في يده البهجة، وشيئاً من الأخبار، لبيت ربَّما لم يدخله رجل منذ شهور؟
- ع السلامة.. جوز يا ولدي جوز..
قالتها وهي تشرع باب الدار أخيراً وتمسح دموعها. ثم أعادت وهي تسبقني "جوز..جوز.." بصوت عالٍ كإشارة موجهة لأمك التي ركضت عند سماع هذه الكلمات، ولم أرَ غير ذيل ثوبها يسبقني، ويختفي خلف باب مغلق على عجل.
أحببت ذلك البيت.. بدوالي العنب التي تتسلّق جدران حديقته الصغيرة، وتمتد لتتدلى عناقيد ثريات سوداء على وسط الدار.
شجرة الياسمين التي ترتمي وتطلّ من السور الخارجي، كامرأة فضولية ضاقت ذرعاً بجدران بيتها، وراحت تتفرج على ما يحدث في الخارج، لتغري المارة بقطف زهرها.. أو جمع ما تبعثر من الياسمين أرضاً.. ورائحة الطعام التي تنبعث منه، فتبعث معها الطمأنينة، ودفء غامض يستبقيك هناك.
سبقتني (أمّا الزهرة) إلى غرفة تطل على وسط الدار مرددة:
- اقعد يا ولدي.. اقعد..
قالتها وهي تأخذ منّي علبة الحلوى وتضعها على الصينية النحاسية المستديرة والموضوعة على مائدة خشبية.
وما كدت أجلس أرضاً على ذلك المطرح الصوفي حتى ظهرت أنت في طرف الغرفة صغيرة كدمية، وحبوت مسرعة نحو العلبة البيضاء تحاولين سحبها إلى الأرض وفتحها. وقبل أن أتدخل أنا كانت (أمّا الزهرة) قد أخت منك العلبة وذهبت بها إلى مكان آخر وهي تقول: "يعطيك الصحة يا وليدي.. وعلاش عييت روحك يا خالد يا بني.. وجهك يكفينا..".
ثم عادت ونهرتك، وأنت تتجهين نحو الشّياحة الخشبية، الموضوعة على شكل قبّة صغيرة فوق كانون، والتي كانت ثيابك الصغيرة البيضاء منثورة فوقها كي تجفّ.. وعندها حبوت تحوي في خطوتين مترددتين، ويداك الصغيرتان أمامك تستنجدان بي.
لحظتها شعرت بهول ما حلّ بي، وأنا أمدّ نحوك يدي الفريدة في محاولة للإمساك بك. لقد كنت عاجزاً عن التقاطك بيدي الوحيدة المرتبكة، ووضعك في حجري لملاعبتك دون أن تفلتي مني.
أليس عجيباً أن يكون لقائي الأول بك هو امتحاني الأول وعقدتي الأولى، وأن أنهزم على يدك في أصعب تجربة مررت بها منذ أصبحت رجل الذراع الواحدة.. من عشرة أيام لا أكثر..!
عادت (أمّا الزهرة) بصينية القهوة وبصحن "الطمّينة":
- قل لي يا خالد يا ابني وراسك.. واش راه الطاهر؟
قالتها قبل أن تجلس حتى على المطرح.. كان في سؤالها مذاق الدمع. وفي حلقها غصّة السؤال الذي يخاف الجواب.. فرحت أطمئنها. أخبرتها أنني كنت تحت قيادته وأنه الآن في منطقة الحدود وأن صحته جيدة ولكنه لا يستطيع الحضور هذه الأيام، لصعوبة الأوضاع ولمسؤولياته الكثيرة.
لم أخبرها أن المعارك تشتد كل يوم، وأن العدو قرر أن يطرق المناطق الجبلية، ويحرق كل الغابات، حتى تتمكن طائراته من مراقبة تحركاتنا.. وأنه تم إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد، ومعه مجموعة من كبار القادة والمجاهدين، وأن ثلاثين منهم قد صدر في حقهم الحكم بالإعدام، وأنني أتيت للعلاج مع مجموعة من الجرحى والمشوهين الذين مات اثنان منهم قبل أن يصلا..
لقد قال لها منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها، فرحت أغيّر مجرى الحديث.. أمددتها بتلك الأوراق النقدية التي أرسلها معي سي الطاهر، وطلبت منها حسب وصيته أن تشتري لك بها هدية، ووعدتها أن أعود قريباً لتسجيلك، بذلك الاسم الذي اختاره لك، والذي رددته أمّا الزهرة بصعوبة، وبشي من الدهشة، ولكن دون تعليق. فقد كان لما يقوله سي الطاهر بالنسبة لها صفة القداسة.
وكأنك انتبهت فجأة أن الحديث يعنيك، فتسلّقت ركبتي وجئت فجأة لتجلسي في حجري بتلقائية طفولية، ولم أتمالك لحظتها احتضانك بيدي الوحيدة.. ضممتك إليّ، وكأنني أضمّ الحلم الذي أضعت من أجله ذراعي الثانية؛ كأنني أخاف أن يهرب مني وتهرب معه أحلام ذلك الرجل الذي لم يسعد بعد باحتضانك.
رحت أقبلك وسط دموعي وفرحتي وألمي وكلّ تناقضي، نيابة عن سي طاهر وعن رفاق لم يروا أولادهم منذ التحقوا بالجبهة، ونيابة عن آخرين، ماتوا وهم يحلمون بلحظة بسيطة كهذه، يحتضنون فيها بدل البنادق، أطفالهم الذين ولدوا وكبروا في غفلة منهم.
نسيت يومها أن أقبِّلك نيابة عني.. وأن أبكي أمامك نيابة عني. نيابة عن الرجل الذي سأتحول إليه على يدك بعد ربع قرن. نسيت أن أسجّل جوار اسمك اسمي مسبقاً.. وأن أطلب ذاكرتك مسبقاً.. وأعوامك القادمة مسبقاً.. أن أحجز عمرك، وأوقف عدّاد السنوات الذي كان يركض بي نحو السابعة والعشرين.. وأنت تدخلين شهرك السابع!
نسيت أن أستبقيك هكذا على حجري إلى الأبد، تلعبين وتعبثين وبأشيائي، وتقولين لي كلاماً لا أفهمه.. ولا تفهمينه.
لم تقاطعيني مرة واحدة، وأنا أقصّ عليك تلك القصة بإيجاز متعمّد، وأترك تفاصيلها المتشعبة لي.
توقفت فقط عند ذلك اليوم 15 أيلول 1957 الذي وقفت فيه لأكتب على سجلّ رسمي اسمك النهائي.
لم تسأليني أيّ سؤال توضيحي، ولا علَّقت يومها بكلمة واحدة، على قصّة لم يقصها عليك أحد قبلي. ربما لأن لا أحد وجد في تلك القصة ما يستحق التوقف.
استمعت إليَّ بذهول، وبصمت مخيف. وراحت غيوم مكابرة تحجب نظرتك عني.. كنت تبكين أمامي لأول مرة، أنت التي ضحكت معي في ذلك المكان نفسه كثيراً.
ترانا أدركنا لحظتها، أننا كنا نضحك لنتحايل على الحقيقة الموجعة، على شيء ما كنا نبحث عنه، ونؤجّله في الوقت نفسه؟
نظرت إليك خلف ضباب الدمع.. كنت أودُّ لحظتها، لو احتضنتك بذراعي الوحيدة، كما لم أحضن امرأة، كما لم أحضن حلماً. ولكنني بقيت في مكاني، وبقيت في مكانك، متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر سرّي من الحنين والشوق.. وكثير من الغيوم التي لم تمطر.
استوقفتني كلمة جسر، وتذكّرت تلك اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل الأهم من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضاً، عساني أصدّق غرابتها. وقفت وقلت:
- تعالي سأريك شيئاً.
تبعتني دون سؤال.
وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:
- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.
قلت متعجبة:
- وهل كنت مصيباً في حدسك؟
قلت:
- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟
أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..
- لا..
قلت:
_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!
قلت مدهوشة:
- عجيب.. عجيب كل هذا!
نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:
- أليست هذه قنطرة الحبال؟
أجبتك:
- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.
- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..
- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.
- فكرت قليلاً ثم قلت:
- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.
قلت:
- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!
لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..
لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.
قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:
- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟
فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.
كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!
وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.
قلت:
- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.
لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.
نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.
هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟
كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.
اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.
وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.
حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..
وكنت أحكم على نفسي بالجنون.
قضينا معاً وقتاً أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين بالهزّات النفسية، مشحونين بالانفعالات المتطرّفة، التي عشناها خلال أربع ساعات من الحديث المستمرّ. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناً، ووسط صمتنا المخيف أحياناً أخرى.
كنت سعيداً ربما لأنني رأيتك تبكين لأول مرة. كنت أحتقر الناس الذين لا دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم لا يستحقون الاحترام.
كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها.
وكان هذا أروع ما اكتشفته ذلك اليوم.
تذكّرت لقاءنا الأول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات الساخرة. يومها تذكّرت مثلاً فرنسياً يقوم: "أقصر طريق لأن تربح امرأة هو أن تضحكها"، وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد..
اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي يشجّع على الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي لا يهمّ أن تبكي بعدها المرأة التي قد ضحكت في البداية.
لم أربحك بعد نوبة ضحك..
ربحتك يوم بكيت أمامي وأنت تستمعين إلى قصّتك التي كانت قصّتي أيضاً. ثمَّ في تلك اللحظة التي تأملت فيها تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربّما على وشك أن تضعي قبلة على خدّي، أو تحضنيني في لحظة حنان مفاجئ.. ولكنَّك لم تفعلي.
وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة العابرة على الخدّ، إلى فتيلة تشعل البراكين النائمة.
كنّا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزّني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجرّدانني من سلاحي حتى عندما تمطران حزناً.
وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أيّ لغة كانت لغتك؟ أيّ موسيقى كانت موسيقاك..
كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئاً آخر غير ذاك بالنسبة لي.
ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلّ مرة، كما توضع حواجز في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساً خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعاً مرة واحدة، بنظرة واحدة.
كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناً هنا.. وأحياناً هناك، لتنتهي عند عينيّ أو زرّ قميصي المفتوح كالعادة.
قلت مرة وأنت تتأملينني أكثر:
- فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره الفوضوي المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه.
أجبتك:
- يمكن أن تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأنّ في أعماقي شيئاً من وحدته.. من حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائماً إلى هزائم.
قلت متعجبة:
- أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟
أجبت:
- ربما..
قلت:
- أتدري أنه الرجل الذي أثّر أكثر في حياتي؟
أدهشني اعترافك. فكَّرت إما أنك لم تعرفي كثيراً من الرجال.. أو لم تقرئي كثيراً من الكتب. وقبل أن أقول شيئاً واصلت بحماسة:
- يعجبني جنونه وتصرّفاته غير المتوقعة.. علاقته العجيبة بتلك المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدّها. أتذكّر قصة الكرز، يوم كان يحبّ الكرز كثيراً وقرر أن يُشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيراً.. كيراً حتى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده.
قلت:
- لا أذكر هذه القصة..
قلت:
- وهل تذكر رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حدّ الرقص. إنه تميّز في الهزائم أيضاً، فليست كلّ الهزائم في متناول الجميع. فلا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدّها بهذه الطريقة..
كنت أستمع إليك بانبهار وبمتعة. وبدل أن أجد في ذلك "الخراب الجميل" الذي كنت تصفينه لي بحماسة، ما يمكن أن يثير مخاوفي من نزعة سادية، أو مازوشية ما قد تسكنك، رحت أنقاد لجمال فكرتك فقط، وأقول دون كثير من التفكير:
- صحيح.. جميل ما تقولين. _ ثم أضفت_ لم أكن أدري أنك تحبين زوربا إلى هذا الحد!
قلت ضاحكة:
- سأعترف لك بشيء.. لقد أربكتني هذه القصة كثيراً. يوم قرأتها شعرت بشيء من الغبطة والحزن معاً. كنت أريد أن أحبّ رجلاً كهذا.. أو أكتب رواية كهذه، ولم يكن ذلك ممكناً، ولهذا ستطاردني هذه القصة حتى أشفى منها بطريقة أو بأخرى.
قلت ساخراً:
- يسعدني إذن أن تجدي شيئاً من الشبه بيني وبينه، فقد تحققين الأمنيتين معاً..
تأملتني بشيء من الشيطة المحبّبة وقلت:
- معك أريد أن أحقق إحدى الأمنيتين فقط.
وأضفت قبل أن أسألك أيّهما:
- لن أكتب عنك شيئاً.
- آ.. لماذا..؟
- لأني لا أريد قتلك، أنا سعيدة بك.. نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً علينا.. نحن نكتب لننتهي منهم..
يومها ناقشتك طويلاً في نظرتك "الإجرامية" للأدب وقلت لك ونحن نفترق:
- أيمكنني أخيراً أن أطّلع على روايتكم الأولى.. أو "جريمتك الأولى"؟!
ضحكت وأجبت:
- طبعاً.. شرط ألا تتحول إلى محقِّق جنائي أو طرفٍ في تلك القصّة!
- تراك كنت تتنبئين بما ينتظرني، وتدرين مسبقاً أنني لن أكون معك قاراً محايداً بعد الآن.
في اليوم التالي أحضرت لي تلك الرواية. قلت وأنت تمدّين نحوي الكتاب:
- أتمنى أن تجد شيئاً من المتعة في قراءتها..
قلت مازحاً:
- وأتمنى ألا يفسد عدد ضحاياك متعتي!
أجبت باللهجة نفسها:
- لا.. اطمئن.. فأنا أكره المقابر الجماعية!
كيف نسيت هذه الجملة الأخيرة..
عندما أتذكرها الآن، أقتنع أن قصّتك الجديدة هذه، التي تروج لها المجلات والجرائد، لن تكون سوى ضريح فردي لبطل واحد ربَّما كان زياد.. وربما كان أنا.. فمن ترى المحظوظ منَّا بميتة كهذه؟!
وحده كتابك قد يحمل جواباً على هذا السؤال، وعلى أسئلة أخرى تطاردني.
ولكن.. لماذا يثير كلّ ما تكتبيه لديّ أكثر من سؤال؟ ولماذا أشعر أنني طرف في كل قصصك الواقعية والوهمية، حتى تلك التي كتبتها قبلي؟
ترى لأنني أتوهم أن لي حقاً تاريخياً عليك، أو لأنك يوم أهديتني كتابك الأول ذاك، لم تضعي عليه أيّ إهداء، وقلت ذلك التعليق المدهش الذي لم أنسه:
"إننا نخطّ إهداءً للغرباء فقط.. وأمّا الذين نحبهم فمكانهم ليس في الصفحة البيضاء الأولى، وإنما في صفحات الكتاب..".
يومها أسرعت إلى ذلك الكتاب ألتهمه في سهرتين. رحت أركض لاهثاً من صفحة إلى أخرى، وكأنني أبحث عن شيء ما غير الذي أقرأه. عن شيء قد تكونين كتبته لي مسبقاً مثلاً حتى قبل أن نلتقي. عن شيء ما قد يكون يربطنا من خلال قصة لم تكن قصتنا.
أدري أنَّ ذلك كان جنوناً، ولكن أليس في الحياة مصادفات مدهشة كتلك اللوحة التي رسمتها ذات أيلول من سنة 1957، وبقيت تنتظرك ربع قرن دون أن أنها كانت لك.. بل إنها كانت أنتِ؟
وكان ذلك محض أوهام.. لم تخبّئي لي في كتابك ذاك، سوى مرارة وألم وغيرة حمقاء، ذقت نارها لأول مرّة. غيرة جنونية من رجل من ورق، قد يكون مرّ بحياتك حقاً.. وقد يكون مخلوقاً خيالياً، أثَّثت به فراغ أيامك وبياض الصفحات فقط.
ولكن أين هو الحد الفاصل بين الوهم والواقع؟ لم تجيبيني مرة واحدة عن ذلك السؤال.. رحتِ تعمّقين حيرتي بأجوبة أكثر غموضاً.. قلت:
- إنّ المهمّ في كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه لا غير، فوحدها الكتابة هي الأدب.. وهي التي ستبقى، وأمّا الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير.. أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسببٍ أو لآخر.. ثم واصلنا الطريق معهم أو بدونهم.
قلت:
- ولكن لا يمكن أن تكون علاقة الكاتب بملهمه مبسّطة إلى هذا الحد. إن الكاتب لا شيء دون من يلهمه.. إنه مدين له بشيء..
قاطعتني..
- مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه "أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزار قباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوماً عليه أن يبيضّ ويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس في ابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيس متناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين للآخر بالمجد إذن؟
كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب من الحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة:
- هل مرّ هذا الرجل بحياتك.. أم لا؟
ضحكت.. وقلت:
- عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من 60 جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العدد من القتلى. ولم يرفع أيّ مرة قارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهنَّ. ويكفي كاتبةً أن تكتب قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر من دليل على أنها قصتها. أعتقد أنه لا بد للنقاد من أن يحسموا يوماً هذه القضية نهائياً، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خيالاً يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكمونا جميعاً!
ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت:
- في انتظار أن يحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤالاً لم تجيبيني عنه.. هل مرّ هذا الرجل بحياتك حقاً؟
قلت وأنت تعبثين بأعصابي:
- المهم أنه مات بعد هذا الكتاب..
- آ.. لأنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟
قلت وأنت تواصلين مراوغتك:
- أيّ ماضٍ؟.. نحن قد نكتب أيضاً لنصنع أضرحة لأحلامنا لا غير..
كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت قصتك، وأن ذلك الرجل قد مرّ بحياتك.. وربما بجسدك أيضاً.
كنت أكاد أشمّ بين السطور رائحة تبغه. أكاد أكتشف أشياءه مبعثرة بين صفحات كتابك. في كلّ فقرة شيء منه.. من سمرته.. من مذاق قبلته.. من ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له..
تراه أبدع في حبّك حقاً.. أم أنت التي أبدعت في وصفه؟ أم تراه محض اختراع نسائي، كسته لغتك رجولة وأحلاماً، صنعت لها بعد ذلك ضريحاً جميلاً.. على مقاسه. وأنا، بأيّ منطق رحت أطالع ذلك الكتاب، في زيّ عاشق متنكر ببدلة شرطي أخلاق. وإذا بي أنقّب بين الكلمات وأبحث بين الفواصل، عساني أكتشفك متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف الأحرف الأولى من اسمه هناك.
ذهب تفكيري بعيداً.. تذكّرت أنك في باريس من أربع سنوات، وأنك تقطنين عند عمك منذ عُيّن في باريس، أي منذ سنتين فقط. فماذا تراك فعلت قبل ذلك في كلّ الفترة التي كنت فيها بمفردك؟
أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعاً ومتعباً مثلك.. اعترفت لك في ما بعد، أن علاقتي بك قد تغيّرت منذ قرأتك وأنني أشكّ في أن أكون قادراً على الصمود بعد اليوم.. فأنا لم أكن مهيأً لسلاح الكلمات.
قلتِ فقط وكأنَّ الأمر لا يعنيك تماماً:
- كان عليك ألا تقرأني إذن!
أجبتك بحماقة:
- ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا لا أملك طريقة أخرى لفهمك..
أجبت:
- مخطئ.. أنت لن تفهم شيئاً هكذا.. الكاتب إنسان يعيش على حافة الحقيقة، ولكنه لا يحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرّخين لا غير.. إنه في الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعاً من الكذب المهذّب. والروائي الناجح هو رجل يكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقيّة.
ثمّ أضفتِ بعد شيء من التفكير.. أعذب الكذب كان كذبك، وأكثره ألماً كذلك. قررت يومها ألا أنقّب بعد ذلك في ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي بشيء. ربما لأنك أنثى تحترف المراوغة. وربما لأنه ليس هناك من شي يستحقّ الاعتراف.
كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلك الطفلة التي عرفتها. في الواقع.. كنت فارغة، وكان كذبك في مساحة فراغك. وإلا ما سرّ تعلّقك بي، ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي بالأسئلة، وتسدرجينها للحديث عن كلّ شيء؟ لماذا كلّ تلك الشراهة للمعرفة، كلّ تلك الرغبة في مقاسمتي ذاكرتي وكلّ ما أحببت وما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة عقدتك؟
***
لا بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا من أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة أيام؟ كيف تعلَّمنا في بضع ساعات قضيناها معاً، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت واحد؟
كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع قرن من المعاناة والجنون؟
كنّا لوجة وسط عدة لوحات أخرى.
كنا لوحة متقلّبة الأطوار، متعدّدة الألوان، رسمتها المصادفة يوماً ثم واصلت رسمها يد الأقدار. وكنت أتلذذ بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته لا أكثر.
لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق لأترك القاعة فارغة لرسَّام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى لا تشبه قصّتي.
كنت أشعر أنني أجمع أيامي معك.
فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها للآخر.
تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلّق نحو الأعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن.
وتحت الأرجوحة الحديدية هوّة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي لسماء استفزازية الهدوء والزرقة.
لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في حاجة إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان بها.
في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقلام ومشاريع أحلام تجاوزتها الأحداث بخمس عشرة سنة من الحنين والدهشة وليس فقط بربع قرن من الزمن.
حملتها تحت إبطي، وكأنني أميّزها عن الأخريات. كنت فجأة على عجل. أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك السنوات، محملاً بفرشاة وألوان أخرى، لأنفخ الحياة والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيراً حجارة "قنطرة الحبال" حجراً.. حجراً. ولكن كان في ذهني المبعثر لحظتها هاجس آخر يطغى على كلّ شيء: كيف يمكن أن نلتقي بعد الآن... وأين؟
انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريباً. وها نحن محاصران بكل مستحيلات الزمان والمكان. ملاحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا. بكل أولئك الذين لا نعرفهم.. ويعرفوننا. أيّ جنون.. وأيّ قدر كان قدري معك! ولماذا وحدي تفضحني عاهتي؟ ولماذا كل هذا الحذر.. ولماذا أنت بالذات؟ كان مجرد احتمال لقائي بسي الشريف ذات يوم وأنا بصحبتك، يجعلني أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف، وبذلك الارتباك الذي سيفضحني لا محالة.
اتفقنا على أن تطلبيني هاتفياً، وأن نتفق على برنامج جديد.
كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكناً أ، أزورك في حيّك الجامعي. فقد كانت ابنة عمك تتابع دراستها معك في الجامعة نفسها.
أكان يمكن لنا أن نجد ظروفاً أكثر تعقيداً من هذه؟.
أطول نهاية أسبوع على الإطلاق، كانت تلك التي قضيتها في انتظار هاتفك صباح الاثنين.
يوم الأحد دقّ الهاتف.
أسرعت إليه وأنا أراهن أنّك أنت. فربما نجحت في سرقة لحظات تحدّثينني فيها.. ولو قليلاً. كانت كاترين على الخطّ. أخفيت عنها خيبتي. ورحت أستمع لها وهي تثرثر حول مشاغلها اليومية، ومشروع سفرها القادم إلى لندن.. ثم سألتني عن أخبار المعرض وقالت وهي تنتقل من موضوع إلى آخر:
- لقد قرأت مقالاً جيداً عن معرضك في مجلة أسبوعية.. من المؤكد أنك اطلعت عليه.. إنه بقلم روجيه نقَّاش، يبدو أنه يعرفك.. أو يعرف لوحاتك جيداً.
لم أكن أشعر برغبة في الحديث.. قلت لها باقتضاب:
- نعم، إنه صديق قديم..
تخلّصت منها بلباقة.
لم أكن أشعر بأية رغبة في لقائها ذلك اليوم. ربما كانت حاجتي للرسم يومها، تفوق حاجاتي الجسدية الأخرى.. وربما كنت فقط ممتلئاً بكِ.
عدت إلى مرسمي مثقل الخطى.
كنت شرعت في إعداد تشكيلة من الألوان، لأبدأ في وضع لمسات على تلك اللوحة.
ولكنني ارتبكت. تحولت أمامها إلى ذلك الرسام المبتدئ الذي كنته منذ خمس وعشرين سنة.
ترى قرابتها الجديدة لك، هي التي أضفت عليها هذه الصبغة المربكة؟
أم تراني كنت مرتبكاً لأنني كنت أجلس أمام الماضي لا غير.. لأضفي على الذاكرة_ وليس على لوحة_ بعض "الرتوشات"؟
كنت أشعر أنني على وشك أن أرتكب حماقة. وأدري_رغم رغبتي المضادة للمنطق_ أنه لا ينبغي أبداً العبث بالماضي، وأن أية محاولة لتجميله، ليست سوى محاولة لتشويهه.
كنت أدرك هذا.. ولكن هذه اللوحة أصبحت تضايقني فجأة هكذا.. كان كلّ شيء فيها مبسّطاً حدّ السذاجة، فلماذا لا أواصل رسمها اليوم، ولماذا لا أعاملها بمنطق فنّي لا أكثر؟
ألم يقضِ ( شاغال) خمس عشرة سنة في رسم إحدى لوحاته؟ كان يعود إليها دائماً بين لوحة وأخرى ليضيف شيئاً أو وجهاً جديداً عليها، بعدما أصرَّ على أن يجمع فيها كلّ الوجوه والأشياء التي أحبها منذ طفولته؟
أليس من حقي أيضاً أن أعود إلى هذه اللوحة، أن أضع على هذا الجسر بعض خطى العابرين، وأرشّ على جانبيه بعض البيوت المعلّقة فوق الصخور، وأسفله شيئاً من ذلك النهر الذي يشق المدينة، بخيلاً أحياناً، ورقراقاً زبديّاً أحياناً أخرى.. ألم يعد ضرورياً أن أضع عليها بصمات ذاكرتي الأولى، التي كنت عاجزاً عن نقلها في السابق، يوم كنت رساماً مبتدئاً وهاوياً لا غير؟
لا أدري كيف تذكّرت لحظتها روجيه نقّاش، صديق طفولتي.. وصديق غربتي.
ذكرت ولعه بقسنطينة، وتعلقه بذكراها، هو الذي لم يعد إليها أبداً منذ غادرها سنة 1959 مع أهله، ومع فوج من الجالية اليهودية التي كانت تريد أن تبني لها مستقبلاً آمناً في بلد آخر.
لك يحدث أن زرته مرة في بيته، دون أن يصرّ على أن يسمعني شريطاً جديداً للمطربة اليهودية "سيمون تمّار" وهي تغني المالوف والموشَّحات القسنطينية بأداء وبصوت مدهش، مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر، الذي أهدوها إياه في أول عودة لها هناك.. والذي يزيّن غلاف شريطها.
منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة على يد زوجها في إحدى نوبات غيرته، فقد كان يتهمها بحبّ رجل عربي.
سألته إن كان ذلك حقاً.. أجابني.. "لا أدري.." ثم أضاف بمرارة ما.. " أدري أنها كانت تحب قسنطينة".
وروجيه أيضاً كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة واحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة غرفته والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال..
وكنت أشعر بمزيج من السعادة والإحراج معاً وأنا أستمع إليه، يقصّ عليّ بلهجته القسنطينية المحببة التي لم يطمس ربع قرن من البعد أيّ نبرة فيها، شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة!
وكان يزيد إحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي منذ سنوات، عندما وصلت إلى باريس لأستقر فيها. فقد كان له من الصداقات والوساطات، ما يمكن أن يسهّل عليّ_دون أن أطلب منه_ كثيراً من المعاملات والمشكلات التي تواجه رجلاً في وضعي.
ذات مرة سألته "لماذا لم تعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا لا أفهم خوفك، إن الناس مازالوا يعرفون أهلك في ذلك الحيّ ويذكرونها بالخير.." أذكر وقتها أنه قال لي "ما يخيفني ليس ألا يعرفني الناس هناك، بل ألا أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك الأزقّة.. وذلك البيت الذي لم يعد بيتي منذ عشرات السنين..".
ثم أضاف: "دعني أتوهم أن تلك الشجرة مازالت هناك.. وأنها تعطي تيناً كل سنة، وأن ذلك الشباك مازال يطلّ على ناس كنت أحبهم.. وذلك الزقاق الضيق مازال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري.. إن أصعب شيء على الإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها.."
كان في عينيه يومها لمعة دموع مكابرة، فأضاف بشيء من المزاح "لو حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى تلك المدينة معك، أخاف أن أواجه ذاكرتي وحدي..".
اليوم، وبعد عدة سنوات، أذكر كلامه فجأة_ هو الذي لم يطرح معي ذلك الموضوع بعد ذلك أبداً_
تراه نجح حقاً في التحايل على ذاكرته؟
وماذا لو كان على حق؟ يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتها الأولى ولا نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع يتحطم بعدها كل شيء داخلنا كواجهة زجاجية.. المهم في هذه الحالات إنقاذ الذاكرة.
أقنعني ذلك المنطق، وشعرت أن هاتف كاترين أنقذني بطريقة غير مباشرة من حماقة كنت على وشك ارتكابها.
لن يكون لتلك اللوحة أية قيمة تأريخية بعد اليوم، إذا أضفت إليها شيئاً هنا، أو طمست فيها شيئاً هناك.. ستصبح لوحة لقيطة لذاكرة مزوّرة.. وهل يهم عندئذٍ أن نكون أجمل؟
نظرت إلى خشبة الألوان التي كانت بيدي. فكّرت أنه رغم ذلك لا بد أن أفعل شيئاً بهذه الألوان.. وبهذه الفرشاة العصبية التي كانت تترقّب مثلي لحظة الخلق الحاسمة.
وفجأة وجدت الحلّ في فكرة بسيطة ومنطقيّة لم تخطر ببالي.
رفعت تلك اللوحة عن خشبات الرسم، ووضعت أمامها لوحة بيضاء جديدة، ورحت أرسم دون تفكير، قنطرة أخرى، بسماء أخرى، بوادٍ آخر وبيوت وعابرين.
رحت هذه المرة، أتوقف عند كل التفاصيل وأكاد أبدأ بها، وكأن أمر الجسر لم يعد يعنيني في النهاية، بقدر ما تعنيني الحجارة والصخور التي يقف عليها. وتلك النباتات التي تبعثرت أسفله، مستفيدة من رطوبة (أو عفونة) الأعماق. وتلك الممرات السرية التي حفرتها خطى الإنسان وسط المسالك الصخرية. منذ أيام (ماسينيسا) وحتى اليوم، في غفلة من الجسر العجوز الذي لا يمكن له في شموخه الشاهق، أن يرى ما يحدث على علو 700 متر من أقدامه!
أليس التحايل على الجسور هو الهدف الأزلي الأول للإنسان الذي يولد بين المنحدرات.. والقمم؟
أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة؛ وأدهشني أكثر، كون هذه التفاصيل التي تشغلني اليوم بإلحاح، لم تكن تلفت انتباهي منذ ربع قرن، يوم رسمت هذا الجسر نفسه لأول مرة.
ترى لأنني كنت في بدايتي الأولى، محكوماً بالخطوط العريضة للأشياء كأيّ مبتدئ، وأن طموحي آنذاك، لم يكن يتجاوز رغبتي في إدهاش ذلك الدكتور_ أو إدهاش نفسي_ ورفع أثقال التحدي بيدٍ واحدة؟
وإنني اليوم بعد ذلك العمر.. لم يعد يعنيني أن أثبت شيئاً لأحد. أريد فقط أن أعيش أحلامي السرية، وأن أنفق ما بقي لي من وقت في طرح أسئلة.. كان الجواب عليها في الماضي ترفاً.. ليس في متناول الشباب. ولا في متناول.. ذلك المناضل أو المجاهد المعطوب الذي كُنتُه..
ربما لأن الوقت آنذاك لم يكن للتفاصيل، بل كانت وقتاً جماعياً نعيشه بالجملة، وننفقه بالجملة.
كان وقتاً للقضايا الكبرى.. والشعارات الكبرى.. والتضحيات الكبرى. ولم يكن لأحد الرغبة في مناقشة الهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة.
تراها حماقة الشباب.. أم حماقة الثورات!
أخذت مني تلك اللوحة، كل أمسية الأحد، وقسماً كبيراً من الليل. ولكنني كنت سعيداً وأنا أرسم، وكأنني كنت أسمع صوت الدكتور "كابوتسكي" يعود ليقول لي بعد ذلك العمر "ارسم أحبّ شيء إلى نفسك".
وها أنا أطيعه وأرسم اللوحة نفسيها، بالارتباك نفسه.
ولكن ما رسمته هذه المرة، لم يكن تمريناً في الرسم. كان تمريناً في الحبّ.
كنت أشعر أنني أرسمك أنتِ لا غير. أنت بكل تناقضك. أرسم نسخة أخرى عنك أكثر نضجاً.. أكثر تعاريج. نسخة أخرى من لوحة كبرت معك.
كنت أرسم تلك اللوحة بشهية مدهشة للرسم. بل وربَّما بشهوة ورغبة سرية ما..
فهل بدأت شهوتك تتسلّل يومها إلى فرشاتي، دون أن أدري؟!
***
في اليوم التالي، جاءني صوتك في الساعة التاسعة تماماً.
جاء شلال فرح، وشجرة ياسمين تساقطت أزهارها على وسادتي.
كنت أكتشف صوتك على الهاتف، وأنا في فراشي بعد ليلة مرهقة من العمل. شعرت أنه يشرع نوافذ غرفتي، ويقبّلني قبلة صباحية.
- هل أيقظتك.؟
- لا أنت لم توقظيني.. أنت منعتني البارحة من النوم لا أكثر!
قلتِ بلهجة جزائرية بين المزاح والجدّ:
- علاش.. إن شاء الله خير..
قلت:
- لأنني رسمت حتى ساعة متأخرة من الليل..
- وما ذنبي أنا؟
- لا ذنب لك سوى ذنب الملهم.. يا ملهمتي!
صحت فجأة بالفرنسية كعادتك عندما تفقدين السيطرة على أعصابك:
- ah.. non!
ثم أضفتِ:
- أتمنى أنك لم ترسمني.. يا لها من كارثة معك!
- وأين هي الكارثة إن كنت قد رسمتك؟
واصلت بصوت عصبي:
- أأنت مجنون؟ تريد أن تحولني إلى لوحة تدور بها القاعات من مدينة إلى أخرى، يتفرّج عليها كل من يعرفني؟!
كنت أشعر برغبة صباحية في مشاكستك، ربما من فرط سعادتي، وربما لأنني مجنون حقاً، ولا أعرف كيف أكون سعيداً مثل الآخرين.
قلت لك:
- أما قلتِ مرّة.. إن الناس الذين بلهموننا هم أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو لآخر، وأنهم ليسوا سوى حادثة سير. فإن أكون رسمتك لا يعني شياً، سوى أنني صادفتك يوماً في طريقي لا غير!
صحت:
- أأنتَ أحمق؟. تريد أن تقنع عمي وتقنع الآخرين أنك رسمتني بعدما صادفتني مرة على رصيف، واقفة مثلاً أمام ضوء أحمر.. إننا لا نرسم سوى ما يثيرنا.. أو ما نحبه.. هذا معروف!
تراك كنت تستدرجينني إلى ذلك الاعتراف، وتدورين حوله، أم كنت من الحماقة لتصدّقي زعمي بأنني لا أدري ذلك. لكنني وجدت في تلك الفرصة الصباحية، وفي ذلك الخيط الهاتفي الذي كان يفصلني ويقرّبني منك في آن واحد.. مناسبة لمصارحتك.
قلت:
- لنفترض إذن أنني أحبّك.!
كنت أنتظر وقع الكلمات عليك، وأتوقع عدة أجوبة لكلامي. ولكنك قلت بعد لحظة صمت:
- ولنفترض إذن.. أنني لم أسمع!
أدهشتني..
لم أفهم تماماً إذا كنت تجيدين ذلك "التصريح" أقل أو أكثر مما توقعت، أم أنك كعادتك تتلاعبين بالكلمات بمتعة مدهشة، وأنت تدرين أنك تلعبين بأعصابي لا غير، وتقذفينني من سؤال.. إلى تساؤل آخر.
- أين نلتقي؟
كان هذا هو السؤال الأهم الذي قررنا أن نجيب عليه بجدية.
تناقشنا طويلاً في عنوان مكان آمن يمكن أن نشرب فيه قهوة، أو نتناول فيه وجبة الغداء معاً.
ولكن باريس ضاقت بنا.
كنت لا تعرفين غير الأماكن التي يرتادها الطلبة. وكنت لا أرتاد غير المقاهي القريبة من حييّ. قررنا أن نلتقي في أحد المقاهي المجاورة لبيتي والتي تقدم وجبات غداء.
وكنت أقترف إحدى حماقاتي الكبرى.
لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنواناً لذاكرتي مجاوراً تماماً لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي.
لم أعد أذكر الآن، كيف أصبح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا. وكيف أصبح تدريجياً يشبهنا، بعدما تعوّد أن يختار لنا زاوية جديدة كلّ مرة، تتلاءم مع مزاجنا المتقلّب، خلال شهرين من السعادة المسروقة..
كنا نلتقي هناك في أوقات مختلفة من النهار، وحسب ساعات دراستك وبرنامج أعمالي.
تعودت أن تطلبيني هاتفياً كل صباح في الساعة التاسعة، وأنت في طريقك إلى الجامعة. ونتّفق كل صباح على برنامج لك اليوم الذي لم بعد لنا فيه في النهاية من برنامج سوانا.
كنت أتدحرج يوماً بعد آخر نحو هاوية حبّك، أصطدم بالحجارة والصخور، وكل ما في طرقي من مستحيلات. ولكنني كنت أحبك. ولا أنتبه إلى آثار الجراح على قدمي، ولا إلى آثار الخدوش على ضميري الذي كان قبلك إناء بلّور لا يقبل الخدش. وكنت أواصل نزولي معك بسرعة مذهلة نحو أبعد نقطة في العشق الجنوني.
وكنت أشعر أنني غير مذنب في حبّك. على الأقل حتى تلك الفترة التي كنت مكتفياً فيها بحبك، بعدما أقنعت نفسي أنني لا أسيء إلى أحد بهذا الحب.
وقتها لم أكن أجرؤ على أن أحلم بأكثر من هذا. كانت تكفيني تلك العاطفة الجارفة التي تعبرني لأول مرة، بسعادتها المتطرفة أحياناً, وحزناه المتطرف أحياناً أخرى..
كان يكفيني الحب.
متى بدأ جنوني بك؟
يحدث أن أبحث عن ذلك التاريخ وأتساءل.. ترى أفي ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة؟ أم في ذلك اليوم الذي انفردت بك فيه لأول مرّة؟ أم في ذلك اليوم الذي قرأتك فيه لأول مرة؟.
أم ترى يوم وقفت فيه بعد عمر من الغربة، لأرسم فيه قسنطينة.. كأول مرة!
ترى يوم ضحكتِ أم يوم بكيت.
أعندما تحدَّثتِ.. أم عندما صمتِّ.
أعندما أصبحتِ ابنتي.. أم لحظة توهَّمت أنك أمي؟!
أيّ امرأة فيك هي التي أوقعتني؟.
كنت معك في دهشة دائمة. فقد كنت شبيهة بتلك الدمية الروسية الخشبية التي تخفي داخلها دمية أخرى. وهذه تخفي دمية أصغر، وهكذا تكون سبع دمى داخل واحدة!
كنت كلّ مرة أفاجأ بامرأة أخرى داخلك. وإذا بكِ تأخذين في بضعة أيام ملامح كل النساء. وإذا بي محاط بأكثر من امرأة، يتناوبن عليّ في حضورك وفي غيابك، فأقع في حبّهن جميعاً.
أكان يمكن لي إذن أن أحبّك بطريقة واحدة؟
لم تكوني امرأة.. كنت مدينة.
مدينة بنساء متناقضات. مختلفات في أعمارهنَّ وفي ملامحهن؛ في ثيابهنَّ وفي عطرهنَّ؛ في خجلهنَّ وفي جرأتهنَّ؛ نساء من قبل جيل أمي إلى أيامك أنتِ.
نساء كلهن أنتِ.
عرفت ذلك بعد فوات الأوان. بعدما ابتلعتني كما تبتلع المدن المغلقة أولادها.
كنت أشهد تحولك التدريجي إلى مدينة تسكنني منذ الأزل..
كنت أشهد تغيرك المفاجئ، وأنت تأخذين يوماً بعد يوم ملامح قسنطينة، تلبسين تضاريسها، تسكنين كهوفها وذاكرتها ومغاراتها السرية، تزورين أولياءها، تتعطرين ببخورها، ترتدين قندورة عنّابي من القطيفة، في لون ثياب "أمّا"، تمشين وتعودين على جسورها، فأكاد أسمع وقع خلخالك الذهبي يرنّ في كهوف الذاكرة.
أكاد ألمح آثار الحناء على كعب قدميك المهيأتين للأعياد.
وكنت أنا أستعيد لهجتي القديمة معك. كنت ألفظ التا "تساء" على الطريقة القسنطينية.
كنت أناديك مدلّلاً "يالا" كما لم يعد الرجال ينادون النساء في قسنطينة.
كنت أناديك بحنين "يا أميمة" بذلك النداء الذي ورثته قسنطينة دون غيرها، عن أهل قريش من عصور.
وكنت، كنت عندما يجرّدني عشقك من سلاحي الأخير، أعترف لك مهزوماً على طريقة عشاقنا "نِشتيك.. يعن بُو زَيْنِك!".
تلك الكلمة التي كان أصلها "أشتهيك" والتي اختصروها منذ زمان لتخفي معناها الأصلي، وتتحول إلى كلمة ودّ لا غير.
فقسنطينة مدينة منافقة، لا تعترف بالشهوة ولا تجيز الشوق؛ إنما تأخذ خلسة كل شيء، حرصاً على صيتها، كما تفعل المدن العريقة.
ولذا فهي تبارك مع أوليائها الصالحين.. الزانين أيضاً.. والسرّاق!
ولم أكن سارقاً، ولا كنت وليّاً، ولا شيخاً يدّعي البركات، لتباركني قسنطينة.
كنت فقط، رجلاً عاشقاً، أحبك بجنون رسّام؛ بتطرف وحماقة رسام، خلقك هكذا كما يخلق الجاهليون آلهتهم بيدهم، ثم يجلسون لعبادتها، وتقديم القرابين لها.
وربما كان هذا، أكثر ما كنت تحبّينه في حبّي!
ذات يوم قلت لي:
كنت أحلم أن يحبّني رسّام. قرأت عن الرسامين قصصاً مدهشة. إنهم الأكثر جنوناً بين كلّ المبدعين. إنّ جنونهم متطرف.. مفاجئ ومخيف. لا يشبه في شيء ما يُقال عن الشعراء مثلاً أو عن الموسيقيين. لقد قرأت حياة فان غوغ.. دولاكروا.. غوغان... دالي.. سيزان.. بيكاسو وآخرين كثيرين لم يبلغوا هذه الشهرة. أنا لا أتعب من قراءة سيرة الرسّامين.
في الواقع شهرتهم لا تعنيني بقدر ما يعنيني تقلّبهم وتطرّفهم. تهمني تلك اللحظة الفاصلة بين الإبداع والجنون. عندما يعلنون فجأة خروجهم عن المنطق واحتقارهم له. وحدها تلك اللحظة تستحقّ التأمل والانبهار أحياناً، فهم يفعلون ذلك لمجرد تحدّينا وتعجيزنا بلوحة ليست سوى حياتهم.
هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقريَّتهم في إنتاجهم. وهنالك آخرون، يصرّون على توقيع حياتهم أيضاً، بنفس العبقرية، فيتركون لنا سيرة فريدة، غير قابلة للتكرار أو التزوير..
أعتقد أن مثل هذا الجنون ينفرد به الرسامون. ولا أظن أن شاعراً يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه فان غوغ مثلاً في لحظة يأس واحتقار للعالم، عندما قطع أذنه ليهديها إلى غانية..
أو ما فعله ذلك الرسام المجهول الذي لم أعد أذكر اسمه، والي شنق نفسه، بعدما علَّق في سقف غرفته، لوحة المرأة التي أحبها والتي قضى أياماً في رسمها. وهكذا توحّد معها على طريقته.. ووقّع لوحته وحياته معاً مرة واحدة.
قلتُ:
- إن ما يعجبك في النهاية، هو قدرة الرسامين الخارقة على تعذيب أنفسهم، أو على التمثيل بها.. أليس كذلك؟.
أجبتِ:
- لا.. ولكن هنالك لعنة ما تلاحق الرسامين دون غيرهم؛ وهنالك جدلية لا تنطبق إلا عليهم. فكلّما زاد عذابهم وجوعهم وجنونهم، زاد ثمن لوحاتهم. حتى إن موتهم يوصلها إلى أسعار خيالية، وكأن عليهم أن ينسحبوا لتحلّ هي مكانهم.
لم أناقشك في رأيك.
رحت أستمع إليك وأنت ترددّين كلاماً أعرفه، ولكن فاجأني منك.
لم أتساءل يومها، إن كنت تحبينني لاحتمال جنوني، أو لشيء آخر. ولا أن تكون نيّتك اللاشعورية تحويلي إلى لوحة ثمينة أدفع ثمنها من حطامي.
هل سيزيد عذابي حقاً، من قيمة أية لوحة سأرسمها كيفما كان، تحت تأثير جوعي أو نوبة جنوني؟
اكتفيت بالتساؤل.. أين يبدأ الفنّ ترى؟.. وأين تبدأ النزعة السادية عند الآخرين؟
كنت أعتقد أن هذه الجدلية لا علاقة لها بالإبداع ولا بالفن، وإنما بطبع الإنسان لا أكثر.
نحن ساديون بفطرتنا. يحلو لنا أن نسمع عذابات الآخرين، ونعتقد، عن أنانية، أن الفنان مسيح آخر جاء ليصلب مكاننا.
عذابه يحزننا و يسعدنا في آن واحد. قصّته قد تبكينا، ولكنها لن تمنعنا من النوم، ولن تدفعنا إلى إطعام فنان آخر، يموت جوعاً أو قهراً أمامنا. بل إننا نجد من الطبيعي أن تتحول جراح الآخرين إلى قصيدة نغنيها، أو لوحة نحتفظ بها، وقد نتاجر بها، للسبب نفسه.
فهل الجنون قُصر حقاً على الرسامين دون غيرهم؟
أليس هو قاسماً مشتركاً بين كلِّ المبدعين، وكل المسكونين بهذه الرغبة المرضيّة في الخلق؟
فالذي لا يمكن بحكم منطق الإبداع نفسه، أن يكون إنساناً عادياً، بأطوار عادية وبحزن وفرح عاديّ. بمقاييس عادية للكسب والخسارة.. للسعادة والتعاسة.
إنه إنسان متقلّب، مفاجئ، لن يفهمه أحد ولن يجد أحد مبرراً لسلوكه.
كان ذلك أول يوم حدّثتك فيه عن زياد.
قلت:
- لقد عرفت شاعراً فلسطينياً كان يدرس في الجزائر. كان سعيداً بحزنه وبوحدته؛ مكتفياً بدخله البسيط كأستاذ للأدب العربي، وبغرفته الجامعية الصغيرة، وبديوانين شعريّين. حتى ذلك اليوم الذي تحسّنت أحواله المادية، وحصل على شقة وكان على وشك الزواج من إحدى طالباته التي أحبّها بجنون، والتي قبل أهلها أخيراً تزويجها منه.
عندما قرّر فجأة أن يتخلى عن كل شيء، ويعود إلى بيروت ليلتحق بالعمل الفدائي..
عبثاً حاولت إقناعه بالبقاء. لم أكن أفهم حماقته تلك، وإصراره على الرحيل عندما أوشك أخيراً أن يحقق أحلامه. وكان يجيب ساخراً "أيّ أحلام.. أنا لا أريد أن أقتل داخلي ذلك الفلسطيني المشرّد.. فعندها لن يكون لأيّ شيء أمتلكه من قيمة..".
ويضيف وهو ينفث دخانه على مهل وكأنه يختفي خلفه كي يبوح لي بسرٍّ: "ثم.. لا أريد أن أنتمي لامرأة.. أو إذا شئت لا أريد أن أقيم فيها.. أخاف السعادة عندما تصبح جبرية. هنالك سجون لم تخلق للشعراء..".
وكانت الفتاة التي أحبّته تزورني راجية أن أقنعه بالبقاء، وأنه مجنون ذاهب إلى الموت وإلى حتفه المؤكد. ولكن عبثاً، لم تكن هناك حجة واحدة لإغرائه بالبقاء.. بل إنه في تطرفه المفاجئ، أصبح يجد في حججي ما يزيده إغراءً بالرحيل.
أذكر أنه قال لي يومها بشيء من السخرية، وكأنه يعطيني درساً في الحياة:
"هناك عظمة ما، في أن نغادر المكان ونحن في قمة نجاحنا. إنه الفرق بين عامة الناس.. والرجال الاستثنائيين!".
سألتك إن كنت تعتقدين أنّ شاعراً كهذا، هو أقلّ جنوناً من رسام قطع أذنه؟
لقد استبدل براحته شقاءً لم يكن مرغماً عليه. واستبدل بحياته موتاً، دون أن يكون مجبراً عليه.
لقد أراد أن يذهب إلى الموت مكابراً وليس مهزوماً ومكرهاً. إنها طريقته في أن يهزم مسبقاً شيئاً لا يُهزم، وهو الموت.
سألتني بلهفة:
- هل مات؟
قلت لك:
- لا.. إنه لم يمت.. أو على الأقل مازال على قيد الحياة حتى تاريخ بطاقته الأخيرة التي بعث إليّ بها في رأس السنة، أي منذ ستة أشهر تقريباً.
ساد بيننا شيء من الصمت، وكأن أفكارنا معاً ذهبت إليه..
قلت لك:
- أتدرين أنه كان سبباً غير مباشر في مغادرتي الجزائر؟ معه تعلّمت أنه لا يمكن أن نتصالح مع كل الأشخاص الذين يسكنوننا، وأنه لا بد أن نضّحي بأحدهم ليعيش الآخر. وأمام هذا الاختبار فقط نكتشف طينتنا الأولى، لأننا ننحاز تلقائياً إلى ما نعتقد أنه الأهم.. وأنه نحن لا غير.
قلت وأنت تقاطعينني:
- صحيح.. نسيت أن أسألك لماذا جئت إلى فرنسا؟
أجبتك وتنهيدة تسبقني، وكأنها تفتح أبواب صدر أوصدته الخيبات:
- قد لا تقنعك أسبابي.. ولكنني مثل ذلك الصديق، أكره الجلوس على القمم التي يسهل السقوط منها. وأكره خاصة أن يحولني مجرد كرسي أجلس عليه إلى شخص آخر لا يشبهني.
لقد كنت بعد الاستقلال أهرب من المناصب السياسية التي عرضت عليّ، والتي كان الجميع يلهثون للوصول إليها.
كنت أحلم بمنصب في الظل يمكن أن أقوم فيه بشيء من التغيرات دون كثير من الضجيج ودون كثير من المتاعب. ولذا عندما عيّنت كمسؤول عن النشر والمطبوعات في الجزائر، شعرت أنني خلقت لذلك المنصب. فقد قضيت كلّ سنوات إقامتي في تونس في تعلّم العربية والتعمق فيها، وتجاوز عقدتي القديمة كجزائري لا يتقن بالدرجة الأولى سوى الفرنسية. وأصبحت، في بضع سنوات، مزدوج الثقافة، لا أنام قبل أن أبتلع وجبتي من القراءة بإحدى اللغتين.
كنت أعيش بالكتب ومع الكتب. حتى إنني كدت في فترة ما أنتقل من الرسم إلى الكتابة، خاصة أن الرسم، كان في نظر البعض آنذاك، شبيهاً بالشذوذ الثقافي، وعلامة من علامات الترف الفني، التي لا علاقة لها بظروف التحرير.
عندما عدت إلى الجزائر بعدها، كنت ممتلئاً بالكلمات.
ولأن الكلمات ليست محايدة، فقد كنت ممتلئاً كذلك بالمثل والقيم، ورغبة في تغيّر العقليات والقيام بثورة داخل العقل الجزائري الذي لم تغير فيه الهزات التاريخية شيئاً.
ولم يكن الوقت مناسباً لحلمي الكبير الذي لا أريد أن أسمّيه "الثورة الثقافية". بعدها لم تعد هاتان الكلمتان مجتمعتين أو متفرقتين تعنيان شيئاً عندنا.
كانت هناك أخطاء كبرى تُرتكب عن حسن نية. فلقد بدأت التغيرات بالمصانع، والقرى الفلاحية والمباني والمنشآت الضخمة، وترك الإنسان إلى الأخير.
فكيف يمكن لإنسان بائس فارغ، وغارق في مشكلات يومية تافهة، ذي عقلية متخلفة عن العالم بعشرات السنين، أن يبني وطناً، أو يقوم بأية ثورة صناعية أو زراعية، أو أية ثورة أخرى؟
لقد بدأت كلّ الثورات الصناعية في العالم من الإنسان نفسه، ولذا أصبح اليابان (ياباناً) وأصبحت أوربا ما هي عليه اليوم.
وحدهم العرب راحوا يبنون المباني ويسمّون الجدران ثورة. ويأخذون الأرض من هذا ويعطونها لذاك، ويسمّون هذا ثورة.
الثورة عندما لا نكون في حاجة إلى أن نستورد حتى أكلنا من الخارج.. الثورة عندما يصل المواطن إلى مستوى الآلة التي يسيّرها.
كان صوتي يأخذ فجأة نبرة جديدة، فيها كثير من المرارة والخيبة التي تراكمت منذ سنين. وكنت تنظرين إليّ بشيء من الدهشة وربما من الإعجاب الصامت، وأنا أحدثك لأول مرة عن شجوني السياسية.
سألتني:
- ألهذا جئت إلى فرنسا إذن؟
قلت:
- لا.. ولكنني جئت ربما بسبب أوضاع هي نتيجة أخطاءٍ كهذه، لأنني ذات يوم قرّرت أن أخرج من الرداءة، من تلك الكتب الساذجة التي كنت مضطراً إلى قراءتها ونشرها باسم الأدب والثقافة، ليلتهمها شعب جائع إلى العلم.
كنت أشعر أنني أبيعه معلّبات فاسدة مرّ وقت استهلاكها. كنت أشعر أنني مسؤول بطريقة أو بأخرى عن تدهور صحته الفكرية، وأنا ألقّنه الأكاذيب بعدما تحوّلت من مثقف إلى شرطي حقير، يتجسّس على الحروف والنقاط، ليحذف كلمة هنا وأخرى هناك.. فقد كنت أتحمل وحدي مسؤولية ما يكتبه الآخرون.
كنت أشعر بالخجل وأنا أدعو أحدهم إلى مكتبي لإقناعه بحذف فكرة أو رأي كنت أشاركه فيه.
ذات يوم، زارني زياد.. ذلك الشاعر الفلسطيني الذي حدّثتك عنه، والذي لم أكن التقيت به من قبل.
وكنت اتصلت به لأطلب منه حذف أو تغيير بعض الكلمات التي جاءت في ديوانه، والتي كانت تبدو لي قاسية تجاه بعض الأنظمة.. وبعض الحكام العرب بالذات، والذين كان يشير إليهم بتلميح واضح، ناعتاً إياهم بكل الألقاب.
لم أنسَ أبداً نظرته ذلك اليوم.
توقّفت عيناه عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع عينيه نحوي في نظرة مهينة وقال:
" لا تبتر قصائدي سيّدي.. ردّ لي ديواني، سأنشره في بيروت".
شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ في عروقي، وأنني على وشك أن أنهض من مكاني لأصفعه. ثم هدأت من روعي، وحاولت أن أتجاهل نظرته وكلماته الاستفزازية.
ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة؟
ترى هويّته الفلسطينية، أو تلك الشجاعة التي لم يواجهني بها كاتب قبله، أم ترى عبقريّته الشعرية؟ فقد كان ديوانه أروع ما قرأت من الشعر في ذلك الزمن الرديء. وكنت أؤمن في أعماقي أن الشعراء كالأنبياء هم دائماً على حق.
تلقَّيت كلماته كصفعة أعادتني إلى الواقع، وأيقظتني بخجل. لقد كان ذلك الشاعر على حق، كيف لم أكتشف أنني لم أكن أفعل شيئاً من سنوات سوى تحويل ما يوضع أمامي من إنتاج إلى نسخة مبتورة مشوّهة مثلي؟
قلت له متحدياً، وأنا ألقي نظرة غائبة على غلاف تلك المخطوطة: "سأنشره لك حرفياً".
كان في موقفي شيء من "الرجولة"، تلك الرجولة أو الشجاعة التي كان لا يمكن لموظف مهما كان منصبه أن يتحلى بها، دون أن يغامر بوظيفته، لأن الموظّف في النهاية هو رجل استبدل برجولته كرسيّاً!
سبب لي ديوانه عند صدوره بعض المتاعب. شعرت أن هناك شيئاً من الزيف الذي لم أتحمّله.
ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية قذرة، مازلنا باسم الصمود ووحدة الصفّ، نصمت على جرائمها؟ ولماذا من حقّنا أن ننتقد أنظمة دون أخرى حسب النشرات الجوية، والرياح التي يركبها قبطان بواخرنا؟
بدأ شيء من اليأس والمرارة يملأني تدريجياً. هل أغير وظيفتي لأستبدل بمشكلاتي مشاكل أخرى، وأصبح هذه المرة طرفاً في لعبة أخرى؟
ماذا أفعل بكل ما كدّست وجمعت من أحلام طوال سنوات غربتي ونضالي، وماذا أفعل بسنواتي الأربعين، وبذراعي المبتورة، وبذراعي الأخرى؟
ماذا أفعل بهذا الرجل المكابر العنيد الذي يسكنني، ويرفض أن يساوم على حريته، وبذلك الرجل الآخر الذي لا بد أن يعيش ويتعلم الجلوس على المبادئ.. ويتأقلم مع كل كرسي.
كان لا بد أن أقتل أحدهما ليحيا الآخر... وقد اخترت.
كان لقائي بزياد منعطفاً في حياتي.
اكتشفت بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص الحب العنيفة، كثيراً ما تبدأ بالمواجهة والاستفزاز واختبار القوى.
فلا يمكن لرجلين يتمتع كلاهما بشخصية قوية وبذكاء وحساسية مفرطة، رجلين حملا السلاح في فترات من حياتهما.. وتعودّا على لغة العنف والمواجهة، أن يلتقيا دون تصادم.
وكان لا بد لنا من ذلك الاصطدام الأول.. وذلك التحدي المتبادل لنفهم أننا من طينة واحدة.
بعدها أصبح زياد تدريجياً صديقي الوحيد الذي أرتاح إليه حقاً.
كان نلتقي عدة مرات في الأسبوع، نسهر ونسكر معاً، نتحدث طويلاً عن السياسة، وكثيراً عن الفنّ، نشتم الجميع ونفترق سعيدين بجنوننا.
كنا في سنة 1973. كان عمره ثلاثين سنة، وديوانين، ما يقارب الستِّين قصيدة، وما يعادلها من الأحلام المبعثرة.
وكان عمري بعض اللوحات، قليلاً من الفرح وكثيراً من الخيبات، وكرسيين أو ثلاثاً، تنقّلت بينها منذ الاستقلال، بشيء من الوجاهة، بسائق وسيارة.. وبمذاق غامض للمرارة.
ذات يوم، رحل زياد بعد حرب أكتوبر بشهرين أو ثلاثة. عاد إلى بيروت لينضمّ إلى الجبهة الشعبية التي كان منخرطاً فيها قبل قدومه إلى الجزائر.
ترك لي كلّ كتبه المفضّلة والتي كان ينقلها من بلد إلى آخر. ترك لي فلسفته في الحياة، وشيئاً من الذكريات، وتلك الصديقة التي كانت تزورني أحياناً لتسأل عن أخباره، تلك التي كان يرفض أن يكتب لها، وكانت ترفض أن تنساه.
قلت وأنت تخرجين من صمتك الطويل:
- ولماذا لم يكتب لها؟
قلت:
- ربما لأنه كان يكره التحرش بالماضي.. وربما كان يريد أن تنساه وتتزوج بسرعة، كان يريد لها قدراً آخر غير قدره.
سألتني:
- وهل تزوجت؟
قلت:
- لا أدري.. لقد فقدت أخبارها منذ عدة سنوات، ومن الأرجح أن تكون تزوجت. لقد كانت على قدر كبير من الجمال. ولكن لا أعتقد أن تكون قد نسيته، من الصعب على امرأة عرفت رجلاً مثل زياد أن تنساه..
شعرت في تلك اللحظة، أنك ذهبت بعيداً في أفكارك.
تراك كنت قد بدأت تحلمين به؟
تراني قد بدأت يومها باقتراف حماقاتي، الواحدة تلو الأخرى، وأنا أردّ بعد ذلك على أسئلتك الكثيرة حوله، بأجوبة تثير فيك فضول الأنثى والكاتبة في آن واحد؟
حدّثتك عن قصائده كثيراً، وعن ديوانه الأخير، الذي كتب قصائده كما يطلق بعضهم الرصاص في الأعراس والمآتم ليشيّعوا حبيباً أو قريباً.
كان هو يشيّع صديقاً قديماً اسمه الشعر، ويقسم أنه لن يكتب بعد اليوم سوى بسلاحه.
في الواقع، لم يكن ذلك الرجل يكتب. كان فقط يفرغ رشاشه المحشو غضباً وثورة في وجه الكلمات.
كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم يعد يثق في شيء!
آخ.. كم كان زياد مدهشاً!
لا بد أن أعترف اليوم أنه كان مدهشاً حقاً، وأنني كنت أحمق. كان لا بد أن أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال لا تلتقي..
لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟
أكنت أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خلاله أن لي قرابة سابقة بالكتاب والشعراء، فأكبر بذلك في عينيك؟
أم كنت أصفه لك في صورته الأجمل، لأنني كنت أعتقد حتى ذلك اليوم أنني أشبهه، وأنني كنت أصف لك نفسي لا غير..
ربما كان كل هذا حقاً.. ولكن..
كنت أريد أيضاً، أن تكتشفي العروبة في رجال استثنائيين، كما لم تنجب هذه الأمة.
رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال مختلفة، واتجاهات سياسية مختلفة، ولكنهم جميعاً لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته، بكبريائه وعروبته..
جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه الأمة.
كنت لا أريد أن تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن تتحولي إلى منقّبة للآثار والذكريات، في مساحة مدينة واحدة.
فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك خلفه كل شيء وذهب ليموت من أجل قضية، كان يمكن أن يكون اسمه الطاهر..
وكان يمكن أن تكون لك قرابة به.
كنت أريد أن تملأي رواياتك بأبطال آخرين أكثر واقعية، أبطال تخرجين معهم من مراهقتك السياسية، ومراهقتك العاطفية.
ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو عرفتِ رجالاً مثل زياد.. لما أحببت بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة إلى خلق أبطال وهميين. هنالك في هذه الأمة أبطال جاهزون بفوقون خيال الكتّاب..".
لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن أكون أنا الذي سيتحوّل ذات يوم إلى منقب يبحث بين سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منّا أحببت أكثر، ولمن بنيت ضريحك الأخير، وروايتك الأخيرة..
ألي.. أم له؟
في ذلك اليوم، وضعتِ فجأة قبلة على خدّي. وقلت بلهجة جزائرية ونحن على وشك أن ننهض للذهاب:
" خالد.. انحبك.."
توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على شفتيك. وكان يمكن وقتها أن أحتضنك، أو أقبّلك.. أو أردّ عليك بألف.. ألف أحبك أخرى.
ولكنني جلست من دهشتي، وطلبت من النادل قهوة أخرى، وقلت لك أول جملة خطرت آنذاك في ذهني:
" لماذا اليوم بالذات؟"
أجبتني بصوت خافت:
- لأنني اليوم أحترمك أكثر. إنها أول مرة منذ ثلاثة أشهر تحدثني فيها عن نفسك. اكتشفت اليوم أشياء مدهشة. لم أكن أتصور أنك حضرت إلى باريس لهذه الأسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثاً عن الشهرة أو الكسب لا أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء هناك، لكي تبدأ من الصفر هنا..
قاطعتكِ مصحِّحاً لكلامك:
- لم أبدأ من الصفر.. نحن لا نبدأ من الصفر أبداً عندما نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت من قناعاتي.
شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من علاقتنا، وأنك عجينة تأخذ فجأة كل قناعاتي، وشكل طموحاتي وأحلامي القادمة.
تذكّرت جملة قرأتها يوماً في كتاب عن الرسم لأحد النقّاد تقول:
"إنّ الرسام لا يقدم لنا من خلال لوحته صورة شخصيّة عن نفسه. إنه يقدم لنا فقط مشروعاً عن نفسه ويكشف لنا الخطوط العريضة لملامحه القادمة".
وكنتِ أنتِ مشروعي القادم.
كنت ملامحي القادمة، ومدينتي القادمة. كنت أريدك الأجمل، أريدك الأروع.
كنت أريد لك وجهاً آخر، ليس وجهي تماماً، وقلباً آخر، ليس قلبي، وبصمات أخرى، لا علاقة لها بما تركه الزمن على جسدي وروحي من بصمات زرقاء.
يومها عرضت عليك بعد شيء من التردّد، أن تزوري ذات يوم مرسمي، لأريك ما رسمته في الأيام الأخيرة.
وكنت سعيداً أن تقبلي عرضي دون تردد أو خوف. فقد كنت أحرص على ألا تسيئي الظنّ بي. وكنت قررت أن ألغي ذلك العرض نهائياً إذا ما ضايقك.
ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة عُرض عليها زيارة مدينة للألعاب:
- أو... رائع يسعدني حقاً أن أزوره!
في اليوم التالي، طلبتني هاتفياً لتخبريني أن عندك ساعتين وقت الظهر، يمكنك أن تزوريني خلالهما.
وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات، وأسبق الزمن.
أنت في بيتي.. أحقاً سيحدث هذا؟
أحقاً ستدقّين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه الأريكة، ستمشين هنا أمامي.
أنتِ.. أخيراً أنتِ؟
أخيراً سأجلس إلى جوارك، وليس مقابلاً لك. أخيراً لن يلاحقنا نادل بطلباته وخدماته. لن تلاحقنا عيون روّاد المقهى، ولا عيون الغرباء من المارة.
أخيراً يمكننا أن نتحدث، أن نحزن ونفرح، دون أن يكون من شاهد على تقلباتنا النفسية.
رحت من فرحي أشرع الباب لك مسبقاً، وأنا أجهل أنني أشرع قلبي للعواطف والزوابع.
أيّ جنون كان.. أن آتي بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي السريّ الآخر، أن أحوّلك إلى جزء من هذا البيت.
هذا البيت الذي أصبح جنّتي في انتظارك، والذي قد يصبح جحيمي بعدك.
أكنت عندئذٍ أعي كلّّ هذا؟ أم كنت سعيداً وأحمق كأيّ عاشقٍ لا يرى أبعد من موعده القادم؟
تساءلت بعدها.. إن كنت حقاً لا أريد غير إطلاعك على لوحتي الأخيرة.. وعلى حديقتي السرّيّة للجنون.
تذكّرت كاترين، وتلك اللوحة التي رسمتها لها اعتذارا لأنني ذات يوم، كنت عاجزاً عن أن أرسم شيئاً آخر غير وجهها، بينما كان الآخرون يتسابقون في رسم جسدها العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون الجميلة.
تذكّرت يوم عرضت عليها أن تزورني لأريها تلك اللوحة..
لم أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سبباً بعد ذلك في علاقة غير بريئة دامت سنين.
أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلّة التعقّل، ورغبة سرية لاستدراج الظروف لأشياء أخرى؟
تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، وهي تستسلم لي في ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات المرسومة، واللوحات البيضاء المتّكئة على الجدران، وتقول لي بإشارة متعمدة:
- هذا مكان يغري بالحب..
فأجبتها بشيء من الواقعية:
- لم أكن أعرف هذا قبل اليوم..
فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكان للخلق جاذبية ما تغري بالجنون؟
ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. ولن تكونيها. فبيننا من الحواجز ما لن يحطمه أيّ جنون..
اليوم، بعد ستّ سنوات على تلك الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، وكأنني أعيشه مرة أخرى، بكل هزّاته النفسية المتقلبة.
ها أنت تدخلين في فستان أبيض (لماذا أبيض؟)، يسبقك عطرك إلى الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى المصعد ويهرول أمامك.
ها أنا أكاد أضع قبلة على خدك.. وإذا بي أصافحك (لماذا أصافحك؟).
أسألك هل وجدت البيت بسهولة فتأتي الكلمات بالفرنسية (لماذا أيضاً بالفرنسية؟) تراني كنت أبحث عن حرّيّة أو جرأة أكثر، داخل تلك اللغة الغريبة عن تقاليدي وحواجزي النفسية؟
على تلك الأريكة جلستِ.
قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس:
- لم أكن أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من الذوق!
سألتك:
- كيف كنت تتصورينه إذن؟
أجبتني:
- بفوضى.. وبأشياء أكثر.
قلت لك ضاحكاً:
- لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبّرة، بأشياء كثيرة مبعثرة لأكون فنّاناً. إنها فكرة أخرى خاطئة عن الرسّامين. أنا مسكون بالفوضى، ولكنني لا أسكنها بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من الترتيب داخلي.
لقد اخترت هذه الشقة الشاهقة، لأن الضوء يؤثثها وهو كل ما يلزم للرسام، فاللوحة مساحة لا تؤثث بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل والألوان.
فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة، ودعوتك للخروج إلى الشرفة.
قلت:
- انظري هذه النافذة، إنها الجسر الذي يربطني بهذه المدينة. من هنا، من شرفتي أتعامل مع سماء باريس المتقلّبة.
كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس هنا في الشرفة لأتفرج عليها وهي تنقلب من طور إلى آخر.
يحدث كثيراً أن أرسم أمام هذه النافذة، ويحدث أن أجلس في الخارج لأتفرج على نهر السين، وهو يتحول إلى إناء يطفح بدموع مدينة تحترف البكاء.
يحلو لي الجلوس هنا على حافّة المطر قريباً ومحمياً منه في آن واحد. منظر المطر يستدرجني لأحاسيس متطرفة.
" إن الإنسان ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول المطر"
عندئذٍ، نظرت إلى السماء وكأنك تصلين لتمطر، وقلت بالعربية:
- إن المطر يغريني بالكتابة.. وأنت؟
وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب".
نظرت طويلاً إلى السماء. كانت صافية زرقاء كسماء حزيران.
كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما لأنني تعودت أن أراها رمادية.
وربما لأنني تمنيت في سرّي، لو أمطرت لحظتها؛ لو تواطأت معي ورمتك إلى صدري عصفورة مبللة.
ولم أقل لك شيئاً من كل هذا.
نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك.
كنت أراهما لأول مرة في الضوء. شعرت أنني أتعرف عليهما.
ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة، وربما أجمل من العادة.
كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد. شيء من البراءة، والمؤامرة العشقية..
تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرف الجواب مسبقاً:
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
كان صوتك بالعربية يأتي كموسيقى عزف منفرد.
وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
سألتني مدهوشة:
- أتعرف شعر السياب أيضاً؟. عجيب!
قلت في جواب مزدوج:
- أعرف "أنشودة المطر".
عرت أنك ربما أحببتني أكثر تلك اللحظة بالذات، وكأنني أصبحت في نظرك السيّاب أيضاً.
وككل مرة أفاجئك فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما باللغة العربية، سألتني:
- متى قرأت هذا؟
أجبتك هذه المرة:
- أنا لم أفعل شيئاً عزيزتي سوى القراءة. ثروة الآخرين تعدّ بالأوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم!.
بعدها قلت وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية استثنائية:
- أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلّ شرفتك على نهر السين، ما اسم هذا الجسر؟
قلت:
- إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيراً أن " أبولينير" قد خلّد هذا الجسر في قصائده، عثرت على بعضها منذ أيام في ديوان له. يبدو أنه كان مولعاً به. إن الشعراء مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه بحب. بعضهم خلّد ضيعة مجهولة، وآخر مقهى كتب فيه يوماً، وثالث مدينة عبرها مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى الأبد.
سألتني:
- وهل رسمت أنت هذا الجسر؟
- أجبتك متنهداً:
- لا.. لأننا لا نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما ما رأيناه يوماً ونخاف ألا نراه بعد ذلك أبداً. وهكذا قضى (دولاكروا) عمره في رسم مدن مغربية لم يسكنها سوى أيام، وقضى (أطلان) عمره في رسم مدينة واحدة.. هي قسنطينة.
لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين في هذه الغرفة مقابلاً لهذه النافذة، لأرسم بشيء من التوتر الاستثنائي لوحتي الأخيرة.
كانت عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي ترسم جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى.
وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد ووادي الرمال.. لا غير. وأدركت أننا في النهاية لا نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا.
سألتني بلهفة:
- هل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟
قلت وأنا أقودك إلى مرسمي:
- طبعاً.
وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة الملأى باللوحات. رحت تنظرين إلى الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات أرضاً بدهشة طفل في مدينة سحرية. ثم قلت بالانبهار نفسه:
- كم هو رائع كلّ هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت مرسماً قبل اليوم..
كنت أودّ أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة قبلك، قبل اليوم".
ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكّرتني بمرور امرأة أخرى من هنا. ذهب فكري عندها بعض الوقت عندما قلتِ فجأة:
- وأين هي اللوحة التي حدّثتني عنها؟
أخذتك إلى الطرف الآخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال منتصبة على خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها المميز ذاك، كل اللوحات الأخرى المبعثرة حولها.
هنالك علاقة عشقية ما بين أيّ رسام ولوحته الأخيرة. هنالك تواطؤ عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول لوحة عذرا أخرى إلى دائرة الضوء.
فالرسام مثل الكاتب لا يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للّون الأبيض، واستدراجه إياه للجنون الإبداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء.
كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدي اللون الأبيض وإغراء كل اللوحات التي أشهرت في وجهي بياضها؟
ولماذا، رفضت أن أرسم شيئاً بعد لوحتي هذه، وفضّلت أن أبقيها هكذا على الخشبات نفسها، لأشهد لها أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي من لوحات، وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو جدار كما تحال عشيقة عابرة.
أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لم تعطنيه حتى النساء؟
ربما.. لأنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسماً.. مع الوطن!
قلت وأنت تتأملينها:
- إنها مشابهة للوحتك الأولى "حنين" ولكنها تختلف عنها، في الكثير من التفاصيل.. وخاصة في الألوان الترابية الخام التي استعملتها، إنها تعطيها نضجاً.. وحياة أكثر.
قلت وأنا أنقل نظري منها إليك:
- لقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنتِ.
- أنا؟
- أتذكرين يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل لأرسمك. اتّهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد فضحت ملامحك. لا تخافي، لن أرسمك أبداً ولن يعرف أحد أنك عبرت حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة أيضاً.
وأضفت:
أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا..
قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة كاترين:
- وهي؟
كان في سؤالك شيء من عناد الأطفال وأنانيتهم، وشيء من عناد النساء وغيرتهنّ.
قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من الأرض:
- هل تزعجك هذه اللوحة حقاً؟.
أجبت بشيء من الكذب الواضح:
- لا..
واصلت وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن أرتكب أي جنون:
- إذا شئت سأتلفها أمامك..
صحت:
- لا، أأنت مجنون!
قلت بهدوء:
- لست مجنوناً.. وهذه اللوحة لا تعني شيئاً بالنسبة لي. إنها امرأة عابرة، في مدينة عابرة.
قلتِ بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها:
- إنها مدينتك الأخرى.. أليس كذلك؟
من أين جئت بتلك الرصاصة الأخيرة، لتطلقيها على تلك اللوحة؟
اعترفت لك بتلميح واضح:
- لا.. ليست مدينتي، إنها وسادتي الأخرى.. أو إذا شئت سريري الآخر فقط!
شعرت أن شيئاً من الحمرة قد علا وجنتيك، وأن عواطف وأحاسيس متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها على ملامحك التي تغيّرت في لحظات.
ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك:
-... لا يهم!
قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك:
- لا تغاري من هذه اللوحة. هنالك امرأة واحدة تستحق أن تغاري منها في هذا البيت، هي هذه..
نظرت نحو المكان الذي أشرت إليه. كان ثمّة تمثال ينتصب على الأرض في حجم امرأة.
قلت بتعجّب:
- هذه.. لماذا هذه؟
قلت:
- لأنها المرأة الوحيدة التي ارتحت لها حتى الآن، والتي قاسمتني معظم سنوات غربتي. كنت في السابق أملك منها نسخة مصغرة. وقررت منذ سنتين أن أهدي نفسي تمثالها في حجمه الأكبر.
كانت تلك إحدى نوبات جنوني. ولكنني لم أندم على اقتنائها، إنها تشبهني كثيراً. أنا بذراع واحدة وهي بلا ذراعين. لقد فقدنا أطرافنا في أزمنة مختلفة، لأسباب مختلفة. ولكننا صامدان معاً، لن تمنعنا عاهتنا من الخلود.
لم تعلّقي على كلامي.
يبدو أنك لم تصدقي ذلك. أن يعيش رجل مع تمثال لامرأة، ضرب من الجنون أليس كذلك؟ حتى لو كان الرجل رسّاماً، وكانت المرأة فينوس لا غير!
المشكلة معك.. أنك كنت مأخوذة بالعبقرية التي تلامس الجنون. ولكنك كنت أعقل من أن تكشفيها. ولذا كلما أردت أن أعطيك دليلاً على جنوني، لم تكوني تصدقيني تماماً.
رحتِ فقط بحماقة أنثى، تسترقين النظر إلى لوحة كاترين، وكأنها وحدها تعنيك. ورحت أنا أحاول فهمك.
ما الذي كان يزعجك في تلك اللوحة؟ هل وجودها في تلك اللحظة بيننا بحضورها الصامت الذي يذكّرك بمرور امرأة أخرى في حياتي؟ أم شقرة تلك المرأة، والإغراء الاستفزازي لشفتيها وعينيها المختفيتين خلف خصلات شعر فوضوي؟
أكنت تغارين من اللوحة أم من صاحبتها؟ وكيف يكون من حقك أن تعاتبيني على لوحة واحدة رسمتها لامرأة، دون أن يكون لي الحق في أن أحاسبك على كل ما كتبته قبلي، وعلى ذلك الرجل الذي عذّبتني به صدقاً أم كذباً؟
عادت عيناك إلى اللوحة الأخيرة. تأملتها قليلاً ثم قلت:
- إذن هذه.. أنا!
قلت:
- ربما لم تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من تعاريج هذه المدينة؛ من استدارة جسورها، من شموخها، من مخاطرها، من مغارات وديانها، من هذا النهر الزبديّ الذي يشطر جسدها، من أنوثتها وإغرائها السري ودوارها.
قاطعتني مبتسمة:
- أنت تحلم.. كيف يمكن لك أن تجد قرابة بيني وبين هذا الجسر؟
كيف خطرت فكرة كهذه بذهنك؟! أتدري أنني لا أحب سوى الجسور الخشبية الصغيرة تلك التي نراها في بطاقات نهاية السنة، مرشوشة بالثلج والفضة، تعبرها العربات الخرافية. وأما جسور قسنطينة الجديدة المعلّقة في الفضاء، فهي جسور مخيفة.. حزينة. لا أكر أنني عبرتها مرة واحدة راجلة، أو حاولت مرة واحدة النظر منها إلى أسفل.. إلا شعرت بالفزع والدوار.
قلت:
- ولكن الدوار هو العشق؛ هو الوقوف على حافة السقوط الذي لا يقاوم؛ هو التفرج على العالم من نقطة شاهقة للخوف؛ هو شحنة من الانفعالات والأحاسيس المتناقضة، التي تجذبك للأسفل والأعلى في وقت واحد، لأن السقوط دائماً أسهل من الوقوف على قدمين خائفتين! أن أرسم لك جسراً شامخاً كهذا، يعني أن أعترف لك أنك دواري. إنه ما لم يقله لك رجلٌ قبلي.
أنا لا أفهم أن تحبّي قسنطينة وتكرهي الجسور؛ وتبحثي عن الإبداع، وأنت تخافين الداور. لولا الجسور لما كانت هذه المدينة. ولولا شهقة الدوار، لما أحبّ أحد.. أو أبدع.
كنت تستمعين إليّ، وكأنك تكتشفين شيئاً لم تنتبهي له من قبل برغم بساطته.
غير أنك قلت:
- ربما كنت في النهاية على حق، ولكنني كنت أفضل لو رسمتني أنا وليس هذا الجسر. إن أي امرأة تتعرف على رسام، تحلم في سرّها أن يخلّدها، أن يرسمها هي.. لا أن يرسم مدينتها؛ تماماً كما أنّ أيّ رجل يتعرف على كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه شيئاً، وليس عن شيء آخر له علاقة به. إنها النرجسية.. أو الغرور أو أشياء أخرى لا تفسير لها.
فاجأني اعترافك. شعرت بشيء من الخيبة.
هل رسمت نسخة مزوّرة عنك إذن؟ أحقّ أنه ليس بينك وبين هذا الجسر من قرابة؟ أكانت هذه اللوحة نسخة طبق الأصل عن ذاكرتي.. وأن حلمك في النهاية، أن تصبحي نسخة أخرى عن كاترين لا غير، أن تتحولي إلى لوحة عادية، مفضوحة المزاج، ووجه بكثير من المساحيق، يشبه وجهه؟
ترانا لم نَشْفَ من هذه العقدة؟
قلت لك بشيء من اليأس:
- إذا كان هذا ما تريدين.. سأرسمك.
أجبتني بصوت فيه خجل ما:
- أعترف أنني منذ البداية، كنت أحلم أن ترسمني أنا.. وأن أحتفظ بهذه اللوحة عندي كذكرى، شرط ألا تضع عليها توقيك إذا أمكن..
شعرت برغبة في الضحك، أو على الأرجح برغبة في الحزن، وأنا أكتشف ذلك المنطق العجيب للأشياء.
كان من حقي إذن أن أوقع الرموز واللوحات التي ليس بينها وبينك من شبه. وأما أنت فليس في وسعي أن أضع أسفل رسمك توقيعي. أنت المرأة الوحيدة التي أحببتها، لن يقترن اسمي بك ولو مرة واحدة، حتى في أسفل لوحة؟
هناك إذن الذين يشترون توقيعي فقط، وليس لوحاتي. وهناك أنت التي تريدين لوحتي دون توقيع.
وهنالك أنا.. المجنون العنيد الذي يرفض هذا المنطق الجديد للأشياء، ويرفض باسم الحبّ أن يحولك إلى لوحة لقيطة، لا نسب لها ولا صاحب. يمكن أن تتبنّاها أية ريشة وأي رسام.
حيّرك صمتي.. قلت شبه معتذرة:
- هل يزعجك أن ترسمني؟
قلت ساخراً:
- لا.. كنت أكتشف فقط مرة أخرى، أنك نسخة طبق الأصل عن وطن ما، وطن رسمت ملامحه ذات يوم. ولكن آخرين وضعوا إمضائهم أسفل انتصاراتي. هنالك إمضاءات جاهزة دائماً لمثل هذه المناسبات. فمن الأزل، كان هنالك دائماً من يكتب التاريخ، وهنالك من يوقّعه، ولذا أنا أكره اللوحات الجاهزة للتزوير.
تراك فهمت كل ما قلته لك لحظتها؟
بدأت أشكّ فجأة في وعيك السياسي. لقد كان كلّ ما يهمّك في النهاية، هو موضوع لوحتك لا غير.
قلت وأنت تغادرين المرسم:
- أتدري أننا لن نلتقي لمدة شهرين؟ سأسافر الأسبوع القادم إلى الجزائر..
صحت وأنا أستوقفك في الممر:
- أحقٌ ما تقولين؟
قلت:
- طبعاً أنا أقضي دائماً عطلتي الصيفية مع والدتي في الجزائر. ولا بدّ أن أعود الأسبوع القادم مع عمي وعائلته.. لن يبقى أحد هنا في باريس.
وقفت مذهولاً وسط الممشى. أمسكت بذراعك وكأنني أمنعك من الرحيل، وسألتك بحزن:
- وأنا..؟
- أنت.. سأشتاق إليك كثيراً. أعتقد أننا سنتعذّب بعض الشيء.. إنه فراقنا الأول. ولكن سنحتال على الوقت ليمرّ بسرعة.
ثم أضفتِ بلهجة من يريد أن يحل مشكلة، أو ينتهي منها بسرعة:
- لا تحزن.. يمكنك أن تكتب لي أو تطلبني هاتفياً.. سنبقى على اتصال.
كنت على حافة البكاء.
كطفل أخبرته أمه أنها ستسافر دونه. وكنت أنت تزفّين لي ذلك الخبر، بشي من السادية التي أدهشتني. وكأن عذابي يغريك بشيء ما.
هل أمسك بأطراف ثوبك كطفل وأجهش بالبكاء؟
هل أتحدث إليك ساعات، لأقنعك أنني لن أقدر بعد اليوم على العيش بدونك، وأن الزمن بعدك لا يقاس بالساعات ولا بالأيام، وأنني أدمنتك؟
كيف أقنعك أنني أصبحت عبداً لصوتك عندما يأتي على الهاتف؟ عبداً لضحكتك، لطلتك، لحضورك الأنثوي الشهيّ، لتناقضك التلقائيّ في كل شي وفي كل لحظة. عبدٌ لمدينة أصبحت أنت، لذاكرة أصبحت أنت، لكل شي لمسته أو عبرته يوماً.
كان الحزن يهجم عليّ فجأة، وأنا واقف هكذا في ذلك الممر أتأملك بذهول من لا يصدق.
وكنت قريبة مني حد الالتصاق، كما لم يحدث أن كنته يوماً. بحثت في ملامحك عن شيء يفضح لي في تلك اللحظة عواطفك؛ لكنني لم أفهم شيئاً.
أتراه عطرك الذي كان يخترق حواسي ويشلّ عقلي، هو الذي جعلني عندئذٍ لا أتعمّق في البحث؟ كنت أعي فقط أنك بعد لحظات ستكونين بعيدة، بقدر ما كنت ساعتها قريبة.
رفعت وجهك نحوي.
كنت أريد أن أقول لك شيئاً لم أعد أذكره. ولكن قبل أن أقول أيّة كلمة، كانت شفتاي قد سبقتاني وراحتا تلتهمان شفتيك في قبلة محمومة مفاجئة. وكانت ذراعي الوحيدة تحيط بك كحزام، وتحولك في ضمة واحدة إلى قطعة مني.
انتفضت قليلاً بين يدي كسمكة خرجت لتوّها من البحر، ثم استسلمت إليّ.
كان شعرك الطويل الحالك، ينفرط فجأة على كتفيك شالاً غجرياً أسود، ويوقظ رغبة قديمة لإمساكك منه، بشراسة العشق الممنوع. بينما راحت شفتاي تبحثان عن طريقة تتركان بها توقيعي على شفتيك المرسومتين مسبقاً للحب.
كان لا بدّ أن يحدث هذا..
أنت التي تضعين الظلال على عينيك، والحمى على شفتيك بدل أحمر الشفاه، أكان يمكن أن أصمد طويلاً في وجه أنوثتك؟ ها هي سنواتي الخمسون تلتهم شفتيك، وها هي الحمّى تنتقل إليّ، وها أنا أذوب أخيراً في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية الارتباك.
لا أجمل من حرائقك.. باردةٌ قُبل الغربة لو تدرين. باردةٌ تلك الشفاه الكثيرة الحمرة والقليلة الدفء. باردٌ ذلك السرير الذي لا ذاكرة له.
دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع. دعيني أخبّئ رأسي في عنقك. أختبئ طفلاً حزيناً في حضنك.
دعيني أسرق من العمر الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه المساحات المحرقة.. لي.
فاحرقيني عشقاً، قسنطينة!
شهيّتين شفتاك كانتا، كحبّات توت نضجت على مهل. عبقاً جسدك كان، كشجرة ياسمين تفتحت على عجل.
جائع أنا إليك.. عمر من الظمأ والانتظار. عمر من العقد والحواجز والتناقضات. عمر من الرغبة ومن الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات المكبوتة. عمر من الارتباك والنفاق.
على شفتيك رحت ألملم شتات عمري.
في قبلة منك اجتمعت كلّ أضدادي وتناقضاتي. واستيقظ الرجل الذي قتلته طويلاً مراعاة لرجل آخر، كان يوماً رفيق أبيك.
رجلٌ كاد يكون أباك.
على شفتيك وُلدتُ ومتُّ في وقتٍ واحد. قتلت رجلاً وأحييت آخر.
هل توقّف الزمن لحظتها؟
هل سوّى أخيراً بين عمرينا، هل ألغى ذاكرتنا بعض الوقت؟
لا أدري..
كلّ الذي كنت أدريه، أنك كنت لي، وأنني كنت أريد أن أصرخ لحظتها كما في إحدى صرخات "غوته" على لسان فاوست "قف أيها الزمن.. ما أجملك!".
ولكن الزمن لم يتوقف. كان يتربص بي كالعادة. يتآمر عليّ كالعادة. وكنت بعد لحظات تتأملين ساعتك في محاولة لإخفاء ارتباكك، وتذكيري بضرورة عودتك إلى الجامعة.
عرضت عليك فنجان قهوة في محاولة أخيرة لاستبقاك.
قلت وأنت أمام المرآة تضعين شيئاً من الترتيب في مظهرك، وتصففين شعرك وتعيدين جمعه:
- أفضل شيئاً بارداًً إذا أمكن..
تركتك في الصالون وذهبت إلى المطبخ. تعمدت ألا أستعجل في العودة، وكأنني فجأة أخجل من آثار قبلي على شفتيك.
وعندما عدت بعدها، كنت أمام المكتبة تلقين نظرة على عناوين الكتب، وتقلّبين بعضها. ثم سحبت من أحد الرفوف كتاباً صغيراً، سألتني وأنت تنظرين إلى غلافه:
- أليس هذا الديوان لصديقك الشاعر الذي حدّثتني عنه؟
أجبتك بسعادة وأنا أجد أخيراً في ذلك الموضوع مخرجاً لارتباكي:
- نعم.. هناك ديوان آخر له أيضاً تجدينه على الرفّ نفسه.
قلت:
- هل اسمه زياد الخليل؟ لقد سمعت هذا الاسم قبل اليوم.
قلبتِ الكتاب. رأيتك تتأملين طويلاً صورته على ظهر الكتاب. تقرئين بعض السطور.. ثم قلت:
- أيمكن لي أن أستعير منك هذين الديوانين؟. أفضّل أن أقرأهما على مهل هذا الصيف، فليس لي ما أطالعه.
أجبتك بحماسة، أو بحماقة:
- طبعا، إنها فكرة جيدة.. أنا واثق أن هذين الديوانين سيتركان تأثيرهما على كتاباتك. ستجدين أشياء رائعة خاصة في الديوان الأخير "مشاريع للحبّ القادم". إنه أجمل ما كتب زياد.
رحت بسعادة تخفين الكتابين في حقيبة يدك. كنت وقتها في سعادة طفلة تعود إلى بيتها بلعبٍ أحبّتها.
طبعاً، لم أكن أعي في ذلك الحين، أنني سأكون بعد ذلك لعبتك الأخرى، وأن هذين الكتابين سيتركان تأثيرهما أيضاً على مجرى قصتنا.
كنت تستعيدين تدريجياً وجهك العادي وملامحك الطبيعية.
وكأن زوبعة حبّي لم تمرّ بك. فهل كان ذلك تمثيلاً أم حقيقة؟
حاولت أن أنسى خيبتي معك، أمام تلك اللوحة التي كانت السبب الأول في زيارتك. حاولت أيضاً أن أخفّف من خيبتك.
قلت:
- سأرسمك، ستكون لوحتك تسليتي في هذا الصيف..
ثم أضفت دون أية نية خاصة:
- يجب أن تزوريني مرة أخرى لتجلسي أمامي، حتى أتمكن من رسمك. أو تعطيني صورة لك أنقل عنها ملامحك.
قلتِ وكأن الجواب كان جاهزاً لديك:
- لم يبقَ أمامي متّسع من الوقت لأعود إليك هذه الأيام، وليس في حوزتي أية صورة. يمكنك أن تستعين بصورتي الموجودة على ظهر كتابي، في انتظار أن أعود.
أعترف أنني لم أفهم في ذلك الحين أيضاً، إذا كان في جوابك شيء من التلميح لي بأنك لن تعودي إلى هذا البيت، أم أنك كنت تجيبيني بتلقائية بريئة لا أكثر؟
ألست أنت التي كنت تلحّين عليّ أن أرسمك؟
فلماذا حوّلت هذه اللوحة إلى قضية شخصية أنا وحدي معنيّ بها؟
لم أناقشك كثيرا. كنت أدري أنني في جميع الحالات سأرسمك. ربما لأنني لا أعرف كيف أرفض لك طلباً، وربما لأنني لا أعرف كيف سأقضي الصيف دون استحضارك ولو رسماً.
ذهبت ذلك اليوم بعدما وضعت قبلتين على خدّي، ووعدتني بلقاء قريب. لم يعد ممكناً بعد قبلتنا أن نتصافح..
كنت أعي أنّ شيئاً ما قد تغيّر في علاقتنا، ولم يعد ممكناً بعد اليوم لذلك المارد الذي انطلق فجأة من أعماقنا، أن يعود إلى قلب الزجاجة التي أغلقناها عليه لأسابيع كاملة.
كنت أعي أنني أنتقل معك في بضع لحظات من الحب إلى العشق. من العاطفة البريئة إلى الشهوة، وأنه سيكون من الصعب، بعد اليوم، أن أنسى مذاق قبلتك، وحرارة جسدك الملتصق بي للحظات.
كم دامت قبلتنا تلك.. دقيقتين؟ ثلاثاً؟ أم خمس دقائق للجنون لا غير؟
أيمكن أن تفعل تلك الدقائق القليلة كل الذي حلّ بي بعد ذلك؟
أيمكن أن تلغي خمس دقائق، خمسين سنة من عمري؟
وكيف لم أشعر بعدها بأيّ إحساس بالندم، بأيّ خجل تجاه ذكرى سي الطاهر؟ أنا الذي كنت أقترف يومها أول خيانة بالمفهوم الأخلاقي للخيانة.
لا.. لم يكن في قلبي سوى الحب.
كنت ممتلئاً بالعشق، بالشهوة، بالجنون. كنت أخيراً سعيداً. فلماذا أفسد سعادتي بالندم، بالتساؤلات التي ستوصلني إلى التعاسة؟
لا أذكر من قال " الندم هو الخطأ الثاني الذي نقترفه.." ولم يكن في القلب مساحة أخرى ولو صغيرة، يمكن أن يتسلل منها شيء آخر غير؟ الحبّ.
ألم يكن كلّ ذلك جنوناً.
كيف سمحت لنفسي أن أكون سعيداً إلى ذلك الحدّ، وأنا أدري أنني لم أمتلك منك شيئاً في النهاية، سوى بضع دقائق للفرح المسروق، وأن أمامي متسعاً من العمر.. للعذاب؟...
==================================
يتبــــــــــع
الفصل الخامس
مازلت
أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك المساء بتوقيت نشرة الأخبار.
كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني في البداية، وأخرجاني من رتابة صمتي الليلي ووحدته.
كان صوته عندي عيداً بحد ذاته والصلة الوحيدة التي ظلت تربطني بك، بعدما سدّت كل الطرق الموصلة إليك.
وكنت أستبشر خيراً به. إنه يحمل دائماً احتمال لقاءٍ بك بطريقة أو بأخرى.
ولكنه هذه المرة كان يحمل لي أكثر من هذا..
راح سي الشريف يعتذر أولاً عن انقطاعه عني منذ سهرتنا الأخيرة، بسبب مشاغله الكثيرة، وزيارات المسؤولين التي لا تتوقف إلى باريس.. قبل أن يضيف:
"إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علّقت لوحتك في الصالون وأصبحت أتقاسم معك البيت.. أتدري، لقد تركت التفاتتك تلك أثراً كبيراً في نفسي، وخلقت لي أكثر من حاسد.. وكل مرة لا بد أن أشرح للآخرين صداقتنا وعلاقتنا التي تعود إلى أيام الشباب".
كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل إليك..
كان يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيتٍ أنتِ فيه، لأعود عاشقاً مبتدئاً بكل انفعالات العشّاق وحماقاتهم.
ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما سألني:
- أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة.. لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها..
صحت متعجّباً:
- قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟
قال وكأنه يزفّ لي بشرى:
- لحضور عرس ابنة أخي الطاهر..
ثم أضاف بعد شيء من التفكير.
- .. ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي ناديا..
شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة.
أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذه الطريقة؟
أيمكن للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزاً عن الإمساك بسماعة؟
يحدث في لحظات كهذه، أن أتذكر فجأة أنني أملك يداً واحدة..
سحبت بقدمي كرسياً مجاوراً وحلست عليه.
وربما لاحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما.. فقطع ذهولي قائلاً:
- يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفرٍ كهذا؟ لقد جاء ذكرك منذ أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء في الأمن، وأكدوا لي أنه لا توجد أية تعليمات في شأنك، وأن بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت الأمور كثيراً منذ مجيئك، ولا بد أن تعود إلى الجزائر ولو في زيارة خاطفة.. إنني أتحمل مسؤولية عودتك.. ستسافر معي وعلى حسابي.. فما الذي يقلقك إلى هذا الحد؟
أجبته وأنا أبحث عن مخرج لتوتري:
- الحقيقة أنني لست مستعداً نفسياً بعد لزيارة كهذه.. وأفضّل أن تكون في ظروف أخرى..
قال:
- أنت لن تجد ظروفاً أحسن من هذه للعودة.. أنا واثق من أنني إذا لم أجرّك هكذا من يدك هذه المرة، فقد تمضي عدة سنوات أخرى قبل أن تعود إليها. هل ستقضي عمرك في رسم قسنطينة؟ ثم ألا يسعدك حضور زواج ابنة سي الطاهر؟ إنها ابنتك أيضاً، لقد عرفتها طفلة ويجب أن تحضر عرسها للبركة.. افعل هذا لوجه أبيها، يجب أن تقف معي في ذلك اليوم مكان سي الطاهر..
كان سي الشريف يعرف نقطة ضعفي، ويدري مكانة سي الطاهر عندي. فراح يحرّك ما تبقّى داخلي من وفاء لماضينا وذاكرتنا المشتركة.
كان في ذلك الموقف شيء من السريالية واللامعقول.
كنت أقف على الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين الضحك والبكاء..
"لقد عرفتها طفلة.." لا يا صديقي! عرفتها أنثى أيضاً وهذه هي المشكلة. "إنها ابنتك أيضاً.." لا لم تكن ابنتي، كان يمكن فقط أن تكون زوجتي.. كان يمكن أن تكون لي.
سألته:
- لمن ستكون؟
قال:
- أعطيتها لـ (سي....) لقد سهرت معه المرة الماضية.. لا أدري ما رأيك فيه، ولكنني أعتقد أنه رجل طيب برغم ما يُقال عنه.
كان في جملته الأخيرة جواب مسبق على ردٍ كان يتوقعه.
(سي....) إذن ولا أحد غيره!
"رجل طيب.." هل الطيبة هي حقاً صفته المميزة الأولى؟ أعرف أنا أكثر من رجل طيب كان يمكن إذن أن يصبح زوجها.
ولكن (سي....) كان أكثر من ذلك. كان رجل الصفقات السرية والواجهات الأمامية. كان رجل العملة الصعبة والمهمات الصعبة. كان رجل العسكر.. ورجل المستقبل. فهل مهم بعد هذا أن يكون طيباً أو لا يكون؟
تجمعت في الحلق أكثر من غصة، منعتني من أن أبدي رأيي فعلاً في ذلك الشخص، وأسأل سي الشريف سؤالاً واحداً فقط: تراه يعتقد حقاً أن بإمكان رجل لا أخلاق له.. أن يكون طيباً؟
أم تراني صمتّ لأنني كنت بدأت لا أفرق كثيرا بينه وبين "صهره" وأنا أسأل نفسي سؤالاً آخر.. هل يمكن لشخص يتصاهر مع رجل قذر.. أن يكون نظيفاً حقاً؟
فقدت فجأة شهية الكلام. أخرستني الصدمات المتتالية في مكالمة واحدة. فاختصرت كل الكلام في جملة واحدة قابلة لأكثر من تفسير:
- كل شيء مبروك..
رد سي الشريف حسب التقاليد:
- الله يهنيك.. ويبارك فيك..
ثم أضاف بسعادة من نجح في امتحان:
-إذن سنراك..راني نعوّل عليك.. سنسافر بعد عشرة أيام تقريباً فالزواج سيكون في 15 يوليو.. أطلبني هاتفياً كي نتّفق على تفاصيل سفرك.
انتهت المكالمة، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي.
بدأ عمري الآخر الذي أعلنت يومها رسمياً خروجك منه. ولكن.. هل خرجت حقاً؟
أحسست أن رقعة الشطرنج أصبحت فارغة إلا مني. كانت كل المربعات بلون واحد لا غير.. وكل القطع أصبحت قطعة واحدة أمسكها وحدي.. بيدٍ واحدة!
فهل كنت الرابح أم الخاسر الوحيد.. كيف لي أن أعرف ذلك؟ لقد تقلصت الرقعة، ومعها مساحة الأمل والترقب، حسمها طرف آخر، كنا نلعب جميعاً منذ البدء نيابة عنه: إنه القدر!
كنت أحقد على ذلك القدر أحياناً، ولكن كنت كثيراً ما أستسلم له دون مقاومة. بلذّة غامضة وبفضول رجل يريد أن يعرف كلّ مرة، إلى أي حد يمكن لها القدر أن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير عادلة، وأن تكون عاهرة لا تهب نفسها سوى لذوي الثروات السريعة، ولأصحاب السلوك المشبوه الذين يغتصبونها على عجل..
وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة نفسي بتفاهة الآخرين. وأجد في هزائمي الذاتية، دليلاً على انتصارات أخرى ليست في متناول الجميع.
تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك، وأن أكون شاهداً على مأتمي، وعلى الحقارة التي يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟
أم تراني ككل المبدعين، كنت مازوشيّاً بتفوق، وأصرّ في غياب السعادة المطلقة، أن أعيش حزني المطلق، وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في تعذيب النفس، فأمارس كيّ هذا القلب بنفسي ليشفى منك؟
كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل.
انقلبت عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها مزيج من المرارة والغيرة والحقد.. وربما الاحتقار أيضاً.
ما الذي أوصلك هنا؟
وهل النساء حقاً مثل الشعوب، يشعرن دائماً بإغراء.. وبضعف ما تجاه البدلات العسكرية.. حتى الباهتة منه؟!
ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أن أذهب إلى قسنطينة لحضور عرسك؟
كنت أعرف مسبقاً أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة، والتفاتة ود وصداقة لرجل تجمعني به أكثر من قرابة.
ولكن كانت قبل كلّ شيء، استغلالاً للذاكرة واستعمالاً سيئاً لاسم من الأسماء القليلة التي ظلّت نظيفة في زمن انتشر فيه وباء القذارة.
كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه يبيع بزواجه اسم أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل منصب وصفقات أخرى..
وأنه يتصرف باسمه، بطريقة لم يكن ليقبلها لو كان حياً.
وكان يلزمه أنا.. ولا أحد غيري لأبارك اغتصابك، أنا صديق سي الطاهر الوحيد ورفيق سلاحه.
أنا الهيكل المفتت الأطراف الأخير، الذي بقي من ذلك الزمن الغابر.
كانت تلزمه مباركتي، ليُسكت بحضوري ضميره ويعتقد أن سي الطاهر سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه طويلاً.
فلماذا قبلت الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون نقاش أن أسلمك لأظافرهم؟
ألأنني أدري أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن تؤخر في شيء، وأنه لو لم يزوّجك من (سي....) لكنت من نصيب (سي....) آخر من السادة الجدد.
فماذا يهم في النهاية، أي اسم من أسماء الأربعين لصاً ستحملين!
لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم لأنني استسلمت لإغراء قسنطينة، ولندائها السرّي الذي كان يلاحقني ويطاردني من الأزل، كما يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على بواخرهم لعنة الآلهة..
أم تراني كنت عاجزاً عن أن أخلف موعداً معك، حتى ولو كان ذلك مناسبة زواجك؟
هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أن أفسّر قراراً أخذته خارج المنطق؟
كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتين متفجّرتين في الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق وعشق وجنون، قست قدرتهما التدميرية كلا على انفراد، وأردت أن أجربهما معاً كما تجرّب قنبلة ذرية في صحراء.
أردت أن أعيشهما معاً في انفجار داخلي واحد.. يهزّني وحدي.. يدمرني وحدي.. وأخرج بعده من وسط الحرائق والدمار، إما رجلاً آخر.. وأشلاء رجل.
ألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعاً اسمها "شهوة اللهب"؟
اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك المدينة.
كان فيكما معاً، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. وقدرة خارقة على إشعال الحرائق..
ولكنكما معاً، كنتما تتظاهران بإعلان الحرب على المجوس. إنه زيف المدن العريقة المحترمة.. ونفاق بنات العائلات.. أليس كذلك؟
***
جاء صوتك يوم الاثنين هكذا دون مقدمات. دون أية نبرة حزن أو فرح مميزة.. دون ارتباك ولا أي خجل واضح.
ورحت تتحدّثين إليّ، وكأنك تواصلين حديثاً بدأناه البارحة، كأن صوتك لم يعبر هذا الخط الهاتفي منذ أكثر من ستّة أشهر.
ما أغرب علاقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك!
- أهلاً خالد.. هل أيقظتك؟
كان يمكن أن أقول لا، وكان من الأصح أن أقول نعم. ولكنني قلت بصوت من يخرج من غيبوبة عشق:
- أنتِ..؟!
ضحكت.. تلك الضحكة الطفولية التي أسرتني يوماً وقلت:
- أعتقد أنني أنا.. هل نسيت صورتي؟!
ثم أضفت أمام صمتي:
- كيف أنت؟
- أحاول أن أصمد..
- تصمد في وجه من.؟
- في وجه الأيام..
قلت بعد شيء من الصمت.. وكأنك شعرت بذنبٍ ما:
- كلنا نحاول ذلك..
ثم أضفتِ:
- هل أخباري هي التي أزعجتك؟
عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعلاقتك بمن تحبّين!
قلت:
- أخبارك ليست سوى جزء من تقلّبات الأيام.
أجبت ببراءة كاذبة:
- كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى. لقد سمعت عمي يتحدث إليك أمس على الهاتف، وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى قسنطينة دون مناقشة أو تردد. لقد أسعدني ذلك كثيراً، وقررت أن أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتباً عليّ.. فأنا أريد أن تحضر إلى هذا العرس.. من الضروري أن تحضر..
لا أدري لماذا أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة مع سي الشريف، وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما كان يقنعني أنك ابنتي.
شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين العقل واللاعقل، بين البكاء والضحك..
سألتك بشيء من المرارة الساخرة:
- أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعاً على حضوري..
قلتِ:
- سبب إصرار عمي على حضورك لا يهمني إطلاقاً. ولكنني أدري أنني سأكون تعيسة لو تغيّبت عن المجيء..
أجبتك بتهكم:
- هل السادية .. آخر هواياتك؟
قلتِ بنبرة فاجأتني:
- لقد أحببت هذه المدينة من أجلك.
أجبتك بتلك الطريقة نفسها التي أجبتني بها يوماً، وأنا أعترف لك "لقد أحببتك يوم قرأتك" فقلتِ "كان ينبغي ألا تقرأني..".
قلتُ:
- كان ينبغي ألا تحبّيها إذن..
وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبثّ شحنة كهربائية في جسدي..
- ... ولكنني أحببتك!
ها هي الكلمة التي انتظرتها عاماً دون جدوى. فهل أشكرك أم أبكي. أم أسألك لماذا اليوم.. لماذا الآن.. ولماذا كلّ هذا العذاب إذن؟
سألتك فقط:
- وهو؟
أجبتني وكأنك تتحدّثين عن شيء لا يعنيك تماماً:
- إنه قدر جاهز.
قاطعتك:
- لكل شخص القدر الذي يستحقّه. كنت أتوقع قدراً غير هذا.. كيف قبلت أن ترتبطي به؟
قلتِ:
- أنا لا أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد تصلح للسكن، بعدما أثثتها بالأحلام المستحيلة والخيبات المتتالية..
- ولكن لماذا هو.. كيف يمكن أن تمرّغي اسم والدك في مزبلة كهذه.. أنت لست امرأة فقط، أنت وطن، أفلا يهمّك ما سيكتبه التاريخ يوماً؟
أجبتِ بشيء من السخرية المرة:
- وحدك تعتقد أن التاريخ جالس مثل ملائكة الشر والخير على جانبينا، ليسجّل انتصاراتنا الصغيرة المجهولة.. أو كبواتنا وسقوطنا المفاجئ نحو الأسفل. التاريخ لم يعد يكتب شيئاً. إنه يمحو فقط!
لم أسألك ما الذي تريدين محوه بالضبط. ولم أناقشك في نظرتك الخاطئة للقيم..
سألتك:
- ما الذي تريدينه مني على التحديد؟
قلتِ كأنك طفلة يسألونها عن أيّ حلوى تريد:
- أريدك..
خطر بذهني لحظتها أنك ربما كنت امرأة عاجزة عن حب رجل واحد، وأنه يلزمك دائماً رجلان. كانا في الماضي زياد وأنا. وأصبحا اليوم أنا.. والآخر.
عاد صوتك يقول:
- خالد.. أتدري أنني أحببتك.. إنه حدث أن أردتك واشتهيتك حدّ الجنون.. شيء فيك جرّدني من عقلي يوماً.. ولكنني قررت أن أشفى منك.. كانت علاقة حبّنا علاقة مرضيّة، أنت نفسك قلت هذا..
سألتكِ:
- لماذا عدت اليوم إذن؟
قلتِ:
- عدت لأقنعك بالمجيء إلى قسنطينة. أريد أن تباركنا تلك المدينة ولو مرة واحدة.. تباركنا ولو كذباً، لقد تواطأت معنا وأوصلتنا إلى جنوننا هذا.. أدري أننا لن نلتقي فيها.. قد لا نتحدث.. وقد لا نتصافح. ولكن سأكون لك ما دمنا فيها. سنتحداهم على مرأى منها.. ووحدها ستعرف أنني أمنحك ليلتي الأولى.. أيسعدك هذا؟
كم من ليلة أولى كنت تملكين؟ كم من ليلة وهمية أولى كنت قادرة على أن تهبي على بياض، كما وهبتِ روايتك الأولى.. نسختين مزوّرتين لي ولزياد.. موقّعتين على بياض.
لمن ستكونين بعد كل ليلة وهمية؟ ومع من بدأت كذبتك الأولى؟ لمن أهديت هديّتك الملغومة الأولى؟
عندما أذكر كلامك اليوم، أضحك وأنا أشبّه نفسي آنذاك بأثيوبي جائع يسردون عليه قائمة من الأطباق الشهية التي لن يذوقها، ويسألونه بعدها كيف وجدها.. وإذا كان ذلك يسعده..
ولكن وقتها لم أضحك، بل ربما بكيت وأنا أجيبك بحماقة عاشق.. "يسعدني..".
لم أنتبه إلى أنك كنت تمنحينني ليلةً وهمية، عليّ أن أتنازل عنها مباشرة لرجل آخر، سيستفيد منها فعلياً!
ولكن هل يهم ذلك.. مادمت أتنازل عن شيء ليس في جميع الحالات لي؟
هكذا التاريخ دائماً عزيزتي وهكذا الماضي.. ندعوه في المناسبات ليتكفّل بفتات الموائد.
نتحايل على الذاكرة، نرمي لها عظمة تتلهى بها، بينما تُنصب الموائد للآخرين.
وهكذا الشعوب أيضاً، نهبها كثيراً من الأوهام.. كثيراً من الأحلام المعلّبة، من السعادة المؤجلة، فتغضّ النظر عن الولائم التي لن تدعى إليها..
ولكن لم أعِ كل هذا إلا بعد فوات الأوان. بعدما رفعت الموائد، وانسحب الجميع لأبقى وحدي.. أمام فتات الذاكرة.
قلتُ:
- أريد أن أراكِ..
صحتِ:
- لا.. لم يعد لقاؤنا ممكناً الآن.. وربما كان هذا أفضل. يجب أن نبحث عن نهاية أقل وجعاً لقصّتنا. لتكن قسنطينة لقاءنا وفراقنا معاً.. فلا داعي لمزيد من العذاب.
هكذا إذن.. قررت قتلي حسب الأصول، بجرّة سكّين واحدة، ذهاباً وإياباً.. في لقاءٍ وفراقٍ واحد. فما أرأفك بي.. وما أغباني!
أكثر من سؤال ظلّ معلّقاً في الحلق، لم أطرحه عليك يومها.
أكثر من لوم.. أكثر من عتاب.. أكثر من رغبة..
ولكن هاتفك انتهى كما جاء خارج الزمان، وأنا بين الصحوة واليقظة ممدد بذهول في فراشي.
حتى أنني تساءلت بعدها: هل طلبتني حقاً في ذلك الصباح أم أنني حلمت.. فقط؟
ها نحن مثل أطفال إذن..
نمحو كل مرة آثار الطباشير على الأرض لنرسم قوانين لعبة جديدة.
نتحايل على كل شيء لنربح كل شيء. فتتّسخ ثيابنا ونصاب بخدوش ونحن نقفز على رِجْل واحدة من مربع مستحيل إلى آخر.
كل مربع فخّ نصب لنا، وفي كل مربع وقفنا وتركنا أرضاً شيئاً من الأحلام.
كان لا بد أن نعترف أننا تجاوزنا عمر النط على رِجْل واحدة، والقفز على الحبال، والإقامة في مربعات الطباشير الوهيمة.
أخطأنا حبيبتي..
الوطن لا يرسم بالطباشير، والحب لا يكتب بطلاء الأظافر.
أخطأنا.. التاريخ لا يكتب على سبورة، بيد تمسك طباشير وأخرى تمسك ممحاة..
والعشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن والمستحيل.
دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. لحظة عن الجري في كل الاتجاهات. نسينا في هذه اللعبة مَنْ مِنّا القط، ومَن الفأر.. ومن منا سيلتهم مَنْ.
نسينا أنهم سيلتهموننا معاً.
لم يعد أمامنا متّسع للكذب. لا شيء أمامنا سوى هذا المنعطف الأخير. لا شيء تحتنا غير هاوية الدمار.
فلنعترف أننا تحطّمنا معاً.
لستِ حبيبتي..
أنتِ مشروع حبي للزمن القادم. أنت مشروع قصّتي القادمة وفرحي القادم.. أنتِ مشروع عمري الآخر.
في انتظار ذلك.. أحبّي من شئتِ من الرجال، واكتبي ما شئتِ من القصص..
وحدي أعرف قصّتك التي لن تصدر يوماً في كتاب. وحدي أعرف أبطالك المنسيين وآخرين صنعتهم من ورق.
وحدي أعرف طريقتك الشاذة في الحب، طريقتك الفريدة في قتل من تحبين.. لتؤثثي كتبك فقط.
أنا الذي قتلتني لعدة أسباب غامضة، وأحببتك لأسباب غامضة أخرى.
أنا الرجل الذي حوّلك من امرأة إلى مدينة، وحولته من حجارة كريمة إلى حصى.
لا تتطاولي على حطامي كثيراً.
لم ينته زمن الزلازل، وما زال في عمق هذا الوطن حجارة لم تقذفها البراكين بعد.
دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. كفاك كل ما قلته من كذب..
أعرف اليوم أنك لن تكوني لي.
دعيني إذن، أنحشر معك يوم الحشر حيث تكونين، لأكون نصفك الآخر.
دعيني أحجز مسبقاً مكاناً لي إلى جوارك، ما دامت كل الأماكن محجوزة حولك هنا، وما دامت مفكّرتك ملأى بالمواعيد حتى آخر أيامك..
يا امرأة على شاكلة وطن..
أيهمّ بعد اليوم أن نبقى معاً؟
حقيبة صغيرة فقط لملاقاة الوطن.
ولا شي سوى بدلة سوداء لحضور حفل زفافك. زجاجتيْ وسكي.. قمصان.. وشفرات حلاقة.
هنالك أوطان تنتج كل مبرّرات الموت، وتنسى أن تنتج شفرات حلاقة!
على أصابع الجرح أعود إلى الوطن.
دون أمتعة شخصية، دون زيادة في الوزن ولا زيادة في حساب.
وحدها الذاكرة أصبحت أثقل حملاً، ولكن من سيحاسبنا على ذاكرة نحملها بمفردنا؟
مشياً على جرحي الأخير أعود إليه على عجل.
عشر سنوات من الغياب، وها هوذا الرجوع المفاجئ. كنت أتوقع لقاءً غير هذا..
كنت سأحجز لي مكاناً في الدرجة الأولى مثلاً. فيحدث للذاكرة في مثل هذه المناسبات، أن ترفض الجلوس في الكراسي الخلفية.
ولكن، لا يهم سيدتي.. كانت كل الكراسي الأمامية محجوزة مسبقاً، لأولئك الذين حجزوا كراسي الوطن أيضاً بأمر..
فلأعد إليه كما جئت منه إذن، على كرسي جانبي للحزن.
نغادر الوطن، محمّلين بحقائب نحشر فيها ما في خزائننا من عمر. ما في أدراجنا من أوراق.
نحشر أبوم صورنا، كتباً أحببناها، وهدايا لها ذكرى..
نحشر وجوه من أحببنا.. عيون من أحبّونا.. رسائل كتبت لنا.. وأخرى كنّا كتبناها.
آخر نظرة لجارة عجوز قد لا نراها، قبلة على خد صغير سيكبر بعدنا، دمعة على وطن قد لا نعود إليه.
نحمل الوطن أثاثاً لغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن عند بابه، عندما يغلق قلبه في وجهنا، دون أن يلقي نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا.. ننسى أن نسأله من سيؤثثه بعدنا.
وعندما نعود إليه.. نعود بحقائب الحنين.. وحفنة أحلام فقط.
نعود بأحلام وردية.. لا "بأكياس وردية"، فالحلم لا يستودر من محلات "تاتي" الرخيصة الثمن.
عارٌ أن نشتري الوطن ونبيعه حلماً في السوق السوداء. هنالك إهانات أصعب على الشهداء من ألف عملة صعبة!
ها أنذا.. بحقيبة يدٍ صغيرة، هنا في اللامكان.
في هذه النقطة المعلقة بين الأرض والسماء. والهاربة بي من ذاكرة إلى أخرى. أجلس على مقعد في الدرجة الثانية للنسيان.
أحلّق على تضاريس حبّك. على ارتفاع تصعب معه الرؤية، ويصعب معه النسيان. وأتساءل رغم فوات الأوان: تراني أرتكب آخر حماقات عمري، وأهرب منك إلى الوطن؟ أحاول أن أشفى منك به. أنا الذي لم أشف بك منه؟
ها هي اللوحة التي أحضرتها هدية لعرسك تشغل مكانك الفارغ إلى جواري.
ها نحن نسافر _ أخيراً معاً _ أنا وأنت..
نأخذ طائرة واحدة لأول مرة. ولكن ليس للرحلة نفسها.. ولا للاتجاه نفسه.
ها هي قسنطينة..
ساعتان فقط ليعود القلب عمراً إلى الوراء.
تشرع مضيفةٌ باب الطائرة، ولا تتنبّه إلى أنها تشرع معه القلب على مصراعيه. فمن يوقف نزيف الذاكرة الآن؟
من سيقدر على إغلاق شبّاك الحنين، من سيقف في وجه الرياح المضادة، ليرفع الخمار عن وجه هذه المدينة.. وينظر إلى عينها دون بكاء.
ها هي قسنطينة إذن..
وها أنذا أحمل بيدي الوحيدة حقيبة يد، ولوحة تسافر معي سفرها الأخير، بعد خمس وعشرين سنة من الحياة المشتركة.
ها هي "حنين"، النسخة الناقصة عن قسنطينة، في لقاء ليليّ مع اللوحة الأصل..
تكاد مثلي تقع من على سلّم الطائرة تعباً.. ودهشة.. وارتباكاً.
تتقاذفنا النظرات الباردة المغلقة، تتقاذفنا العبارات التي تنهى وتأمر. وكل هذه الوجوه المغلقة، وكل هذه الجدران الرمادية الباهتة..
فهل هذا هو الوطن؟
قسنطينة..
كيف أنتِ يا اميمة.. واشك؟
أشرعي بابك واحضنيني.. موجعة تلك الغربة.. موجعة هذه العودة..
باردٌ مطارك الذي لم أعد أذكره. باردٌ ليلك الجبلي الذي لم يعد يذكرني.
دثّريني يا سيدة الدفء والبرد معاً.
أجلي بردك قليلاً.. أجّلي خيبتي قليلاً.
قادمٌ إليك أنا من سنوات الصقيع والخيبة، من مدن الثلج والوحدة.
فلا تتركيني واقفاًً في مهب الجرح.
كانت الإشارات المكتوبة بالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني أخيراً أقف وجهاً لوجه مع الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات العربية.
وحده وجه حسّان ملأني دفئاً مفاجئاً عندما أطلّ، وأذاب جليد اللقاء الأول.. مع ذلك المطار.
وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجة جزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة:
"واش.. مازلت تنقّل في الطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفك هنا..!".
شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جات ترحّب بي.
وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها.. وجسورها ومدارسها.. وأزقّتها وذاكرتها؟
هنا ولد، وهنا تربّى ودرس، وهنا أصبح مدرّسا. لم يغادرها إلا نادراً في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس.
كان يحضر لزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنّ عليّ وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التي ما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسم العائلة، بعدما يئس من تزويجي وأدرك بعد محاولات إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بنات و لا بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي.
أكتشف اليوم، أن هذا الرجل الفارع القامة، المهذّب المظهر، والذي يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وعنادهم وتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه وليس للآخرين، هو أخي.. لا غير.
أكنت أجهل هذا؟ لا!
ولكن في هذا اليوم الاستثنائي الألم والخيبة.. والفرحة! أشعر أن قرابته بي تصبح الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زلازلي الداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لولا الكبرياء، بكيت عليه في تلك اللحظة.
عشر سنوات.. حدث خلالها في بعض المرّات أن انتظرته أنا في مطار (أورلي الدولي).
كانت الأدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنت أشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لستُ ملزماُ به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانت تلك إحدى فرصي القليلة لألعب دور "الأخ الكبير" بكل مسؤولياته وواجباته. ذلك الدور الذي لم أوفّق دائماً في أدائه. فقد عشت في الواقع دائماً بعيداً عن حسّان، حسان الذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكّر.. وتعلقه العاطفي بي.
تُراه لهذا أيضاً تزوّج باكرا على عجل، وراح يكثر من الأولاد ليحيط نفسه أخيراً بتلك العائلة التي حرم منها دائماً في طفولته، والتي كنت عاجزاً عن أن أعوضها له بحضوري العابر.. وغيابي المتنقّل من منفى إلى آخر.
فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كل مقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أولاده الستة، أنني الأخ الأصغر وأنه في هذه اللحظة يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر..
ترى لأنه هو الذي يحمل حقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفزّ رجولتي وكبريائي يجرّدني من وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته مع هذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلّبة، جعلته اليوم يبدو أكبر..
أم تراها قسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حباً وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوّلتني بوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثلاثين سنة؟
نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت، وتساءلت: أتراها تعرفني؟
هذه المدينة الوطن، التي تُدخل المخبرين وأصحاب الأكتاف العريضة والأيدي القذرة من أبوابها الشرفيّة.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجّار الشنطة.. والبؤساء.
أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أن تتأملني؟
سُئلت أعرابية يوماً: "من أحبّ أولادك إليك؟" قالت: "غائبهم حتى يعود.. ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر".
وكنت أنا غائبها الذي لم يعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم يكبر..
ولكن قسنطينة لم تكن قد سمعت بقول تلك الأعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من كتب التراث العربي!
لم أنم تلك الليلة..
أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجة حسان، وكأنها تعدّ وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كان سبب قلقي، بعدما تناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟
أم أن السبب هو صدمة لقائي العاطفي الآخر مع ذلك البيت، الذي ولدت فيه وتربّيت، والذي على جدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد.. وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها في أعماقي لتطفو الآن فجأة.. كذكريات فوق العادة تلغي كل شيء عداها؟
ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام من يتوسّد ذاكرته؟
مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيل كندورة (أمّا) العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري للأمومة. وصوت أبي يطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. الطريق" لينبّه النساء في البيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق ويذهبن للاختباء في الغرف البعيدة.
أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليه أبي يوماً شهادتي الابتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادة أخرى..
وبعدها لا شيء..
توقّف اهتمامه بي ليبدأ اهتمامه بأشياء أخرى، ومشاريع أخرى، انتهت بموت (أما) وزواجه الذي كان جاهزاً للاستهلاك، ومعداً في ذهنه منذ مدة.
أكاد أرى جثمان (أما) يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد من قراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم.
أكاد أرى موكباً آخر يعود بعد أسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل.
ثم تلك الليلة التي قبّلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة.
لم يسألني ليلتها إلى أين كنت ذاهباً. كان حسان وهو في عامه الخامس عشر، قد سبق عمره بسنوات.
كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلّمه ذلّه أن يصمت ويحتفظ لنفسه بالأسئلة.
سألني:
- .. وأنا؟
وأجبته بالذهول نفسه:
- مازلت صغيراً يا حسان.. انتظرني..
فقال وكأنه يتقمّص فجأة صوت (أما) وخوفها المرضيّ عليّ:
- عندك على روحك.. آ خالد..
وأجهش بالبكاء.
ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوماً.
كنت أعتقد أنه وحده قادر على شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن ذلّي.
اليوم.. بعد كل هذا العمر، بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن هناك يُتم الأوطان أيضاً. هنالك مذلّة الأوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها.
هنالك أوطان لا أمومة لها.. أوطان شبيهة بالآباء.
***
لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من الصباح.
كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة ما. وما كدت أغفو حتى أيقظني من غفوتي أصغر أولاد حسان، الذي استيقظ باكراً وراح يبكي بكاء رضيع يطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية.
حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته على قول ما يريد دون كلام.
في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة، فقدت لغتي.
شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي، وأنها جاءت بي إلى هنا، لتقنعني بذلك لا غير!
ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري.
لقد هزمت من مرّوا قبلي، وصنعت من جنونهم بها أضرحة للعبرة.
وأنا آخر عشاقه المجانين..
أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمق قسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها عمراً؟
وكانت تشبهك..
تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجة لتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.
كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.
وكانوا رجالاً.. في غرور العسكر!
من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم آخرون.
تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.
تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..
.. و رحلوا.
لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".
أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بها لأسباب تاريخية محض.
وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.
وربما لذلك، يحدث أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتها الأولى.
تماما.. كما أناديك "حياة".
ككلّ الغزاة.. أخطأ قسطنطين.
المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناها اسمنا.
لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ، وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.
كنسائها كانت تغري بالفتوحات الوهمية..
ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!
هنا أضرحة الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.
هنا وقفت جيوش فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.
فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركت فيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.
منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.
ولكن، كانت الصخرة دائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!
ها هي مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كل سائح.
تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من وليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.
هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.
كل شيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ما كان ينتظرهم على الطرف الآخر.
ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في فوقه.. وما تحته.
تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر، والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.
وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.
ترى لأنني أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة على جسر؟
***
هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر.
خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين..
قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته.
كان جدّي يومها أضعف من أن يقف بمفرده في وجه ذلك الأمر القاطع بالقتل. وكان أيضاً أكبر من أن يُقاد ليقف بين يدي ذلك الباي ذليلاً..
ولذا عندما أرسل الباي من يحضره إليه.. كان جدي جثة في هوة سحيقة كهذه، أسفل وادي الرمال، فقد رفض أن يمنح الباي شرف قتله.
سمعت هذه القصة مرة واحدة من فم أبي، يوم سألته عن سر هذا الاسم الذي نحمله.
يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى.
أعيد نظري إلى أسفل.
ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟
تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة.
هذه هي قسنطينة..
مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى.
تراها تغيّرت؟
أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها!
ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟
تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟
ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض.
أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها.
يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني عنها، وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها لأسكنها إلى الأبد.
أتدحرج نحو هذا الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للونٍ ما.. على لوحةٍ أبدية، لمنظر أردت أن أرسمه.. فرسمني.
أليست هذه أجمل نهاية لرسّام، أن يتوحد مع لوحته في مشهد واحد؟
كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلك الأنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبديّ، أن "الهاوية الأنثى" كانت تستدرجني إلى العمق، في موت شبقيّ أخير، ربما كان فرصتي الأخيرة للتوحد الجسديّ مع قسنطينة، ومع ذاكرة جدّ بدأت أشعر بتواطؤ غامض معه.
ترى شهوة السقوط والتحطم هي التي أشعرتني عندئذٍ بالدوار، وأنا معلّق على ذلك الجسر وحدي؟
وإذا بي أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرون بالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟
ورغم ذلك أعترف، أنني لم أكن يومها مستعداً للموت.
ليس تمسكاً منيّ بالحياة. ولكن لأنني وصلت بذلك الحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة أخرى.
لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة.
فلقد تعلّمت أن أسخر من استفزاز الأشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء من التهكم المرّ.
ألم آت هنا إثر قرارٍ جنوني، ربما بحثاً عن الجنون في مدينة تكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذّذ سراً بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتي بمازوشيّة متعمّدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي منجم جنوني وعبقريتي القادمة.
وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنوني يوماً.
فجأة تطيّرت منه، أن الذي أولعت به طويلاً وحولته إلى ديكور لحياتي، بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه.
أيكون ذلك الإحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث كنت تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماً مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس المنثور بين الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنة لاستقبال الربيع.. محمّلين بما أعدّته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة.. والتي تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟
أم تراه منظر مزار (سيدي محمد الغراب) الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخراً في كتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة غامضة.
ماذا لو لاحقتني دون أن أدري اللعنة التي لاحقت صالح باي أكبر بايات قسنطينة على الإطلاق بسبب هذا الجسر؟ هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصلاحاته المختلفة التي وهبها لتلك المدينة، بإصلاح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربط المدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية.
تقول أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هلاك (صالح باي) ونهايته المفجعة..
فقد قتل فوقه (سيدي محمد)، أحد الأولياء الذين كانوا يتمتّعون بشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على الأرض، تحول جسمه إلى غراب، وطار متوجهاً نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك السفوح. ولعنه واعداً إياه بنهاية لا تقل قسوة ولا ظلماً عن نهاية الولي الذي قتله.
فما كان من صالح باي إلا أن غادر بيته وأراضيه إلى الأبد، تطيّراً من ذلك الغراب، واكتفى بداره في المدينة.
هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى بعد قرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات الأسبوع وفي المواسم، لقضاء أسبوع كامل يرتدون خلاله ثياباً وردية، يؤدون بها طقوساً متوارثة جيلاً عن جيل، فيقدّمون له ذبائح الحمام، ويستحمّون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيث كانت تستحمّ السلاحف، ويعيشون على شرب "العروق" لا غير، والاستسلام لنوبات رقص بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع بندير "الفقيرات".
ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهة والرفاهية.
سوّت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل.
صنعت من (سيدي محمد الغراب) أشهر مزار وليّ قسنطيني على الإطلاق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسم وليّ.
وخلّدت من بين واحد وأربعين باياً حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت فيه أجمل أشعارها، وغنّت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى اليوم مع ملاءات نسائها السوداء.. دون أن تدري!
هذه هي قسنطينة..
لا فرق بين لعنتها ورحمتها، لا حاجز بين حبّها وكراهيّتها، لا مقاييس معروفة لمنطقها.
تمنح الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء.
فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه يحسم موقفه منها، حباً أو كراهية.. إجراماً أو براءةً.. دون أن يعترف أنها تحمل في كل الحالات ضدّها؟
***
في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي تمتد بنا أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان.
أبحث في ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويلاً عن طمأنينة أخرى خارج فضائها.
كان لوجودي في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على نفسيّتي في تلك الأيام. وربما كان سندي السريّ الذي لم أتوقّعه. لقد كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو دهاليز طفولتي البعيدة، لأصبح جنيناً من جديد..
أختبئ في جوف أمٍ وهمية، مازال مكانها هنا فارغاً منذ ثلاثين سنة.
يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، يوم أقام عندي لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدّد له عقد إيجار البيت.
تعوّدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على الأرض في غرفة أخرى.
وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من الإحراج، معتقداً أنني أفعل ذلك مجاملة له.
وكنت أوكّد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم على الأرض. فقد كان ذلك الفراش الأرضي يذكّرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه الأزرق. بل وتلك الأيام التي كانت تخصّصها (أمّا) كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت الأثاث الأساسي لغرفة نومي.
تمنّيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاً على الأرض، تماماً كما تفعل مع أولادها الذين ينامون في الغرف الأخرى، على فراش أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة بالانزلاق تحت أغطيته الصوفية الجميلة التي تثير غيرتي وحنيني لزمنٍ لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته حقاً.. أم تخيّلته.
ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل غرف بيتها، غرفة نومها العصرية المعدّة لاستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليالٍ زوجية.. للحب؟
لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيراً لجنوني هذا. فقد كانت عتيقة تشارك أحياناً في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجلاً متحضّراً قادماً من باريس، لأقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلّفة في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل الأشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة.. ونادرة.
ولأنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، ولا الجرأة على معاكسة رأيها، كنت أكتفي بالاستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناً إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلّق حسان شبه معتذر:
"لا يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل (دالاس) على التلفزيون، أن تسكن بيتاً كهذا وتحمد الله.. لا بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناس سكناً محترماً.. وحياة أفضل..".
كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة.
كان يقول: "لكي تكون سعيداً عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف، ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا رفعت رأسك كثيراً ونظرت لمن في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراً فقط.. وتتعس باكتشافك!".
وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحياناً مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيه آلاف الناس. بل وعشرات الآلاف الذين لم يجدوا بيتاً واسعاً كهذا يسكنونه بمفردهم مع أولادهم وزوجتهم. بل كثيراً ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون بيتاً لعائلتين لعدة سنوات.
هكذا كان حسان..
"لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط..".
وكان سعيداً بتلك النظرة التي قد تعود أيضاً إلى عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدود الأحلام!
فَبِمَ يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص الأدبية، وسرد سيرة الكتّاب والشعراء القدامى على تلاميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية والإنشائية، ولا يجد متسعاً من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس الشعارات والمزايدات؟.
كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته. ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه.
من الواضح أنه كان متعباً وغارقاً في مشكلات أولاده الستّة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، أو بالأحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص يتوسط له ليحصل على ثلاجة جديدة.. لا غير!
عندما عرفت أمنيته البسيطة الصعبة، حزنت وأنا أكتشف أننا لم نكن متخلّفين عن أوربا وفرنسا فقط، كما كنت اعتقد، وإلا لهان الأمر.. وبدا منطقياً. لقد كنا متخلّفين عما كنّا عليه منذ نصف قرن وأكثر. يوم كنّا تحت الاستعمار.
يومها كانت أمنياتنا أجمل.. وأحلامنا أكبر.
يكفي أن تتأمل وجوه الناس اليوم وأن تسمع أحاديثهم وأن تلقي نظرة على واجهات المكتبات لتفهم ذلك.
يومها كنّا وطناً يصدّر الأحلام.. مع كل نشرة أخبار إلى كل شعوب العالم.
وكانت هذه المدينة بمفردها تصدّر من الجرائد والمجلات والكتب ما لا تصدّره اليوم المؤسسات الوطنية لا نوعاً.. ولا عداً.
يومها كان لنا من المفكرين والعلماء.. والشعراء والظرفاء والكتاب، ما يملأنا زهواً وغروراً بعروبتنا.
اليوم.. لم يعد أحد يشتري الجرائد ليحتفظ بها في خزانة، إذ لم يعد في الجرائد ما يستحق الحفظ.
ولم يعد أحد يجلس إلى كتاب ليتعلّم منه شيئاً. لقد أصبح البؤس الثقافي ظاهرة جماعية، وعدوى قد تنتقل إليك وأنت تتصفّح كتاباً. " لقد كانت الكتب دائماً على صواب في ذلك العهد، وكان الواحد منّا فصيحاً يتكلم كما تتكلم الكتب..".
واليوم أصبحت الكتب تكذب أيضاً.. مثلها مثل الجرائد. ولذا تقلّص صدقنا.. وماتت فصاحتنا، منذ أصبح حديثنا يدور فقط حول المواد الاستهلاكية المفقودة!
عندما قلت يومها هذا الكلام لحسان، ظل يتأملني بذهول وكأنه اكتشف شيئاً لم ينتبه له من قبل.. ثم قال بشيء من الحسرة:
- صحيح.. لقد خلقوا لنا أهدافاً صغيرة لا علاقة لها بقضايا العصر. وانتصارات فردية وهمية، قد تكون بالنسبة للبعض الحصول على شقة صغيرة بعد سنوات من الانتظار.. أو قد تكون الحصول على ثلاجة، أو التمكن من شراء سيارة.. أو حتى دواليبها فقط! ولا أحد عنده متسع من الوقت والأعصاب ليذهب أكثر من هذا، ويطالب بأكثر من هذا..
نحن متعبون.. أهلكتنا هموم الحياة اليومية المعقّدة التي تحتاج دائماً إلى وساطة لحل تفاصيلها العادية. فكيف تريد أن نفكّر في أشياء أخرى، عن أيّ حياة ثقافية تتحدث؟ نحن همّنا الحياة لا غير.. وما عدا هذا ترف.. لقد تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوتها وجحر تختبئ فيه مع أولادها لا أكثر..
سألته بسذاجة:
- وماذا يفعل الناس؟
قال مازحاً:
- الناس..؟ لا شيء.. البعض ينتظر.. والبعض يسرق.. والبعض الآخر ينتحر، هذه مدينة تقدم لك الاختيارات الثلاثة بالمبررات نفسها.. والحجة نفسها!
يومها خفت على حسان من تلك المدينة.. وانتابتني فجأة قشعريرة مبهمة.
سألته دون تفكير.. وكأنني أسأله أي الوصفات الثلاثة أختار:
- وهل لك أصدقاء هنا تلتقي بهم.. وتخرج معهم؟
أجابني وكأنه يعجب لسؤالي، أو يسعد لاهتمامي المفاجئ بكل تفاصيل حياته:
- لي أصدقاء معظمهم مدرسون معي في الثانوية.. ما عدا هذا ليس لي أحد.. لقد فرغت قسنطينة من أهلها، ورحلت كل العائلات القديمة التي عرفناها.
وراح يسرد عليّ أسماء عائلات كبيرة هاجرت أو راحت تستقر في العاصمة أو في الخارج، لتترك تلك المدينة لآخرين.. جاء معظمهم من القرى و المدن الصغيرة المجاورة.
قبل أن يضيف تلك الجملة التي لم تستوقفني ساعتها، والتي أخذت بعد ست سنوات كل أبعاد القدر الأحمق، قال:
- لقد أصبح سكان هذه المدينة الأصليون، لا يزورونها سوى في الأعراس.. أو في المآتم!
وقبل أن أعلّق على كلامه، أضاف وكأنه تذكّر شيئاً:
- سأعرفك على ناصر ابن سي الطاهر.. من المؤكد أنه سيأتي بعد غدٍ لحضور زواج أخته. سترى.. لقد أصبح رجلاً بطولك وبضخامتك، وهو يتردد عليّ منذ بضعة أشهر، منذ قرّر أن يستقر في قسنطينة. إنه الوحيد الذي قام بهجرة معاكسة. لقد رفض حتى منحة إلى الخارج.. تصور! لا أحد يصدّق هذا.. عندما سألته لماذا لم يسافر مثل الآخرين ويهرب من هذا البلد، قال لي: "أخاف إن سافرت ألا أعود أبداً.. كل أصحابي الذين سافروا لم يعودوا..".
ضحكت وأنا أكتشف هذا التطرف الذي يذكّرني بك، وكأنه سمة عائلية. وشعرت برغبة في إطالة ذلك الحديث الذي كان يؤدي إليك بطريقة.. أو بأخرى..
سألته:
- وماذا يفعل الآن؟
- لقد أعطوه بصفته ابن شهيد محلاً تجارياً وشاحنة يعودان عليه بدخل كبير. ولكنه مازال ضائعاً متردداً، يفكر أحياناً في مواصلة دراسته، ثم أحياناً أخرى في التفرّغ للتجارة. والحقيقة أنني عاجز عن نصحه. فمن المؤسف أن ينقطع إنسان عن دراسته العليا، لأنه سيظل يشعر بذلك النقص طوال حياته.. ومن ناحية أخرى، لم تعد تفيد الشهادات اليوم في شيء حسب قوله، وهو يرى شباباً بشهادات عليا عاطلين عن العمل، وآخرين جهلة يتنقّلون في سيارات مرسيدس ويسكنون فيلات فخمة.. ليس هذا زمناً للعلم.. إنه زمن الشّطارة.. فكيف يمكن أن تقنع اليوم صديقك أو حتى تلميذك بالتفاني في المعرفة؟. لقد اختلت المقاييس نهائياً..
قلت لحسان:
المهم أن يعرف الإنسان ما هو هدفه الحقيقي في الحياة.. هل المال هو مشكلته الأولى.. أم المعرفة وتوازنه الداخلي؟
ردّ حسان مازحاً:
- توازن..؟ عن أي توازن تتحدث.. نحن شعب نصف مختلّ. لا أحد فينا يدري ما يريد بالضبط.. ولا ماذا ينتظر بالتحديد.. إن المشكل الحقيقي هو هذا الجو الذي يعيشه الناس، وهذا الإحباط العام لشعبٍ بأكمله. إنه يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط لأي مشروع. فلا المثقفون سعداء.. ولا الجاهلون ولا البسطاء ولا الأغنياء. قل لي يرحم والديك.. ماذا يمكن أن تفعل بعلمك إذا كنت ستنتهي موظفاً يعمل تحت إشراف مدير جاهل، وُجِد في منصبه مصادفة ليس لسعة معرفته، وإنما.. لكثرة معارفه وعرض أكتافه.! وماذا يمكن أن تفعل بأموالك في قسنطينة مثلاً.. سوى أن تدفعها عمولة لتحصل على شقة غير صالحة للسكن في معظم الأحيان.. أو تقيم عرساً بها يغنّي فيه "الفرقاني"؟ أما إذا كان كل ما تملكه لا يتجاوز العشرين ألف دينار.. فيبقى أمامك أن تدفعها "شراب قهوة" لمسؤول محليّ يختبئ خلف أيّ موظّف آخر، ليبيع جوازات سفر إلى الحجّ. وهكذا يمكنك أن تؤدي فريضتك وتحجز لك غرفة صغيرة في الآخرة.. بعدما ضاقت بك الدنيا!
صحت عجباً:
- واش.. أحقاً تقول.. هل يبيعون جوازات سفر إلى الحج بمليونين!؟
- طبعاً.. لأن الحكومة حددت عدد الحجاج كل عام بسبب تكاليفهم الباهظة بالعملة الصعبة، بعدما اكتشفت أن معظمهم يسافر عدة مرات لأسباب لا علاقة لها بالحج، وإنما لأغراض تجارية محض. وإلا كيف تفسر أن يكون بعضهم قد حج ست مرات أو سبعاً دون أن يكون ذلك واضحاً على سلوكه وأخلاقه؟ أنا أعرف حاجاً "سوكارجي" لا تفارق الخمرة بيته، وأعرف آخر متفرغاً للترافيك و"البزنيس".. وتغيير العملة الصعبة في الأسواق السوداء.. هؤلاء مازالوا يسافرون كل عام للحج. يمكنهم أن يحصلوا على عشرين ألف دينار بسهولة. وأما أنا فمن أين لي هذا المبلغ لأقوم بتأدية فريضتي، ودخلي لا يتجاوز الأربعة آلاف دينار في الشهر؟
قلت له وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- علاش.. هل تنوي الحج؟
- طبعاً.. ولم لا.. ألست مسلماً؟ لقد عدت إلى الصلاة منذ سنتين ولولا إيماني لأصبحت مجنوناً. كيف يمكن أن تصمد أمام كل هذا المنكر وهذا الظلم دون إيمان؟ وحدها التقوى تعطيك القدرة على الصمود.. انظر حولك: لقد توصّل جميع الناس إلى هذه النتيجة وربما الشباب أكثر من غيرهم لأنهم الضحية الأولى في هذا الوطن.. وحتى ناصر نفسه أصبح يصلّي منذ عاد إلى قسنطينة، ربما لهذا السبب وربما لأن الدين كالكفر.. عدوى أيضاً! والله يا خالد.. لو رأيتهم يوم الجمعة يتجهون إلى المساجد بالآلاف حتى تضيق بهم جدرانها.. وتفيض بهم الشوارع.. لوقفت معهم تصلي دون أن تتساءل لماذا!
لم أجد شيئا أعلّق به على كلام حسان في تلك السهرة العجيبة، التي طالت بنا حتى الثانية صباحاً. فقد كان حسان سعيداً بوجودي، وسعيداً ببدء العطلة الصيفية التي تسمح له بالسهر والتحدث إليّ طويلاً بعد كل هذه السنوات التي باعدتنا.
فتركته يتحدث.. ويعري أمامي هذا الوطن الذي كنت كسوته حنيناً وعشقاً وجنوناً.
أكان يخاف عليّ من خيبتي،ويخشى أن يفقد فرحة عودتي إليه وإلى هذا الوطن مرة أخرى، عندما كان يتوقف أحياناً عن الحديث لينتقل بي إلى موضوع آخر؟ كأن يستدرجني مثلاً بطريقة غير مباشرة إلى الدين وإلى التقوى والإيمان. ويغريني بالتوبة، وكأن وجودي في فرنسا بحد ذاته قد أصبح ذنبا وكفراً.
أهذا هو حسان؟.
لم أمنع نفسي ساعتها من الابتسام وأنا أتذكر أنني أحضرت له معي زجاجتيْ ويسكي كالعادة..
تساءلت ليلتها وأنا في فراشي عن ذنوبي. حاولت أن ألخصها، أن أحصرها.. فلم أجدها أكبر من ذنوب غيري، بل وربما وجدتها أقل بدرجات..
لم أكن مجرماً.. ولا مقامراً.. ولا كافرا.. ولا كاذباً.. ولا سكّيراً.. ولا خائناً..
لم تكن لي زوجة ولا سرير شرعي استبدلت به آخر.
خمسون سنة من الوحدة. نصفها تماماً ما يمكن أن أسمّيه "السنوات المعطوبة" تلك التي قضيتها بذراعٍ واحدة، مشوّه الجسد والأحلام.
كم أحببت من النساء؟. لم أعد أذكر. منذ حبّي الأول لتلك الجارة اليهودية التي أغريتها. إلى تلك الممرضة التونسية التي أغرتني. إلى نساء أخريات.. لم أعد أذكر أسماءهن ولا ملامحهن، تناوبن على سريري لأسباب جسدية محض، وذهبن محملات بي لأبقى فارغاًً منهن..
وجئتِ أنتِ..
أكبر ذنوبي على الإطلاق كنت أنتِ. المرأة الوحيدة التي لم أمتلكها، والذنب الوحيد الذي لم أقترفه حقاً.
لقد كانت ذنوبي معك، هي ما يمكن أن أسميه "ذنوب اليد اليمنى".. اليد الوحيدة التي رسمتك بها.. واستحضرتك بها.. واغتصبتك بها.. وهما!
فهل سيعاقبني الله على ذنوب يدٍ لم يترك لي سواها!؟
لا أذكر من قال: "ليس الفضيلة تجنّب الرذيلة، الفضيلة في ألا تشتهيها!
وأعتقد أنني بهذا المفهوم فقط.. لم أكن رجلاً فاضلاً.
فقد كان لا بد ألا أشتهيك أنتِ.. وألا أبدأ رذيلتي معك. كان لحبك طعم المحرمات والمقدسات التي يجب تجنّبها، والتي كنت أنزلق نحوها دون تفكير.
لقد كان الأمر المدهش حقاً في قصتي معك، أن تكون المبررات التي جعلتني أحبك، هي التي كان يجب أن تجعلني أعدل عن حبك. ولهذا ربما كنت أحبك وأعدل عن حبك.. أكثر من مرة في اليوم. وبالتطرف نفسه كل مرة.
وأنا لا أفعل شيئاً في النهاية هنا، سوى البحث عن حدٍ لهذا المدّ والجزر العاطفي الذي أعيشه معك كل لحظة.
كنت أدري أن العاشق مثل المدمن، لا يمكن أن يقرر بمفرده الشفاء من دائه، وأنه مثله يشعر أنه ينزل تدريجياً كل يوم أكثر نحو الهاوية. ولكنه لا يمكن أن يقف على رجليه ويهرب، مادام لم يصل إلى أبعد نقطة في الجحيم، ويلامس بنفسه قعر الخيبة والمرارة القصوى.
وكنت سعيداً في تلك الليلة..
تلك السعادة الغامضة المرة، لأنني كنت أدري أن كل شي سوف يحسم في اليومين القادمين، وأنني بطريقة أو بأخرى سأنتهي منك.
كانت زوجة حسان في تلك السهرة منهمكة في إعداد نفسها للحدث الهام، ولمرافقة الموكب النسائي في الغد إلى الحمام، ثم إلى ليلة الحنة.
وكانت كثيرة الحركة ومشغولة عنا وعن أولادها بهمومها النسائية، وبما ستأخذه في حقيبتها من ثياب للحمام، حيث ستستعرض النساء مثل العادة كل شيء حتى ثيابهن الداخلية.. ليتظاهرن بغناهنّ الكاذب في معظم الأحيان.. أو ليقنعن أنفسهن فقط، أنهن مازلن برغم كل شيء قادرات على إغراء رجل، تماماً مثل تلك العروس التي يرافقنها.. والتي يتأمّلنها بحسد سريّ.
فليكن.. غداً تبدأ طقوس أفراحك.. وينتهي ذلك الزمن الذي سرقناه من الزمن.
أجمل الأحلام إذن سيدتي في انتظار غدك.
ولتصبح على خير.. أيها الحزن!
***
يوقظني الحب المضاد في هذا الصباح الصيفي.. ويرمي بي في الشوارع.
قررت حال استيقاظي أن أهرب من البيت، ومن حديث عتيقة الذي لا ينقطع عن مراسيم الحفل، وعن أسماء الشخصيات والعائلات الكبيرة التي جاءت خصيصاً لتحضر ذلك الحدث الذي لم تشهد قسنطينة مثله منذ سنوات.
ولكنها لحقت بي حتى الباب لتواصل حديثها:
- على بالك.. يقال إنهم حضروا كل شيء من فرنسا.. منذ شهر والطائرة تنقل لوازم العرس.. لو رأيت جهاز العروس وما لبسته البارحة.. يا حسرة.. قال لك "واحد عايش في الدنيا.. وواحد يوانس فيه..!"
أجبتها وأنا أغلق خلفي الباب، وكأنني أغلق بعنف أبواب قلبي:
- ما عليهش.. البلد لهم والطائرات أيضاً. ويمكنهم أن يجلبوا إليه كما أخذوا منه ما شاؤوا!
أين أهرب؟
ها أنا أوصدت الباب خلفي، وإذا لا شي أمامي.. سواي.
رميت بخطاي دون تفكير وسط أفواج المارة الذين يجوبون الشوارع هكذا كل يوم دون جهة محددة.
هنا.. أنت تملك الخيار بين أن تمشي، أو تتكئ على جدار، أو تجلس في مقهى لتتأمل الذين يمشون أو يتكئون أمامك.. على حائط الرصيف المقابل..
رحت أمشي..
شعرت في لحظة ما، أننا نطوف جميعاً حول هذه المدينة الصخرة، دون أن ندري تماماً.. ماذا يجب أن نفعل بغضبنا، ماذا يجب أن نفعل ببؤسنا.. وعلى من نرمي هذا الحصى الذي امتلأت به جيوبنا الفارغة.
من الأوْلى بالرّجم في هذا الوطن؟ من؟ ذلك الجالس فوق الجميع.. أم أولئك الجالسون فوقنا؟
حضرني لحظتها عنوان رواية لمالك حداد.. "الأصفار تدور حول نفسها".
تمنيت لو أنني قرأتها، عساني أجد تفسيراً لكل هذه الدوائر التي تحولنا إليها.
ثم قادتني أفكاري إلى مشهد شاهدته يوماً في تونس لجمل مغمض العينين، يدور دون توقف في ساحة (سيدي بوسعيد)، ليستخرج الماء من بئر أمام متعة السواح ودهشتهم.
استوقفني يومها عيناه اللتان وضعوا عليهما غمامة ليتوهم أنه يمشي إلى الأمام دائماً، ويموت دون أن يكتشف أنه كان يدور في حلقة مفرغة.. وأنه قضى عمره دائراً حول نفسه!
ترانا أصبحنا ذلك الجمل الذي لا يكاد ينتهي من دورة حتى يبدأ أخرى تدور به بطريقة أو بأخرى حول همومه الصغيرة اليومية؟
تُرى هذه الجرائد التي تحمل لنا أكياساً من الوعود بغدٍ أفضل، ليست سوى رباط عينين، يخفي عنا صدمة الواقع وفجيعة الفقر والبؤس الحتمي الذي أصبح لأول مرة يتربص بنصف هذا الشعب؟
وأنا.. تراني لم أعد أعرف المشي إلى الأمام في خط مستقيم لا يعود بي تلقائياً إلى الوراء.. إلى هذا الوطن الذاكرة؟
وهذا الوطن.. من أين له هذه القدرة الخارقة على لَيّ المستقيمات، وتحويلها إلى دائرة.. وأصفار!
ها هي الذاكرة سياج دائري يحيط بي من كل جانب.
تطوّقني أول ما أضع قدمي خارج البيت. وفي كل اتجاه أسلكه تمشي إلى جواري الذكريات البعيدة..
فأمشي نحو الماضي مغمض العينين.. أبحث عن المقاهي القديمة تلك التي كان لكل عالم أو وجيه مجلسه الخاص فيها، حيث كانت تعد القهوة على الوجاق الحجري وتقدم بالجزوة.. ويخجل نادل أن يلاحقك بطلباته. كان يكفيه شرف وجودك عنده.
في ذلك الزمن كان لابن باديس المقهى الذي كان يتوقف عنده، وهو في طريقه إلى المدرسة. كان اسمه (مقهى بن بامينة).
وكان هنالك (مقهى بو عرعور) حيث كان مجلس بلعطّار وباشتارزي وحيث كنت ألمح أبي أحياناً وأنا أمر بهذا الطريق.
أين ذلك المقهى لأحتسي فيه هذا الصباح فنجان قهوة نخب ذكراه؟
كيف أعثر على مقهى لم يكن كبيراً سوى بأسماء رواده؟ كيف أجده.. في هذا الزمن الذي كبرت فيه المقاهي وكثرت، لتسع بؤس المدينة. وإذا بها متشابهة وحزينة كوجوه الناس؟
لم يعد يميزها شيء. حتى تلك الهيبة التي كانت سمة أهل قسنطينة، وذلك الشاش والبرنس المتألق بياضاً، أصبح نادراًً وباهتاً اليوم.
ربما كان أول ما لفت نظري ذلك الصباح، ذلك الزيّ الموحّد لتلك المدينة التي تستيقظ كما تنام بحزن غامض. ذلك اللون القاتم المتدرج والمشترك بين الجنسين.
النساء ملفوفات بملاءاتهن السوداء التي لا يبدو منها شيء سوى عيونهن.
والرجال في بدلاتهم الرمادية أو البنية التي لا تختلف عن لون بشرتهم.. ولا لون شعرهم. والتي يبدون وكأنهم اشتروها جميعاً عند خياط واحد.
وقلما كان يبدو من بين الحشود نقطة ضوء، أو لون زاهٍ لفستانٍ أو لبدلةٍ صيفية.
تراني كنت أنظر ذلك الصباح إلى تلك المدينة، بعيون رسام لا تلفت نظره سوى الألوان، ويكاد لا يرى سواها في كل شيء. أم تراني كنت أراها فقط بعيون الماضي وخيبة الحاضر؟
رميت بنفسي وسط أمواج الرجال الضائعين مثلي في تلك المدينة. شعرت لأول مرة أنني بدأت أشبههم.
مثلهم أملك وقتاً ورجولة لا أدري ماذا أفعل بها. فلا أملك إلا أن أمشي ساعات في الشوارع كما يمشون.. محملاً ببؤسي الحضاري.. وبؤسي الجنسي الآخر.
ها نحن نتشابه فجأة في كل شيء. في لون شعرنا ولون بدلتنا وجرّ أحذيتنا وخطانا الضائعة على الأرصفة.
نتشابه في كل شيء، وأنفرد وحدي بك. ولكن هل يغير ذلك شيئاً؟
حبك الذي استدرجني حتى هذه المدينة، أعادني إلى تخلّفي دون علمي. رمى بي وسط هذه الجموع الرجالية، التي تسير ببطء تحت الشمس الصيفية، دون وجهة محددة، ودون أن تدري ماذا تفعل بتلك الأشعة التي تختزنها الأجساد المحمومة في النهار، وتنفقها الأيدي البائسة سرّاً في الليل.. في الملذات الفردية.
تتوقف فجأة خطواتي أمام جدران بيت لا يشبه بيوتاً أخرى.
هنا كانت أكبر "دار مغلقة" يرتادها الرجال. وكان لها ثلاثة أبواب تؤدي إلى شوارع وأسواق مختلفة.
لقد كانت في الواقع داراً مغلقة مشرعة، مدروسة ليتسلل إليها الرجال من أية جهة، ويخرجوا منها من أية جهة أخرى.
كان الرجال يؤمونها من كل صوب، هرباً من المدن والقرى المجاورة، التي لا ملّذات فيها ولا نساء.
وكانت النساء الجميلات والبائسات، يأتين أيضاً من كل المدن المجاورة ليختفين خلف هذه الجدران المصفرة، التي لا يخرجن منها إلا عجائز لينفقن ثروتهن في الصدقات والحسنات، وتطهير الأيتام في موسم توبتهن الأخيرة.
هنا أنفق أبي ثروته ورجولته..!
أحاول ألا أتوقف عند ذلك البيت الاستثنائي، الذي كان لعدة سنوات سبب حزن أمي السري، وربما موتها قهراً.
وكان لعدة سنوات أيضاً سرّ نشوتي السرية، وأحلامي المكبوتة أيام صباي، يوم كنت أحلم به ولا أجرؤ على دخوله، ربما خوفاً من أن ألتقي بأبي هناك، وربما أيضاً لأنني كنت مكتفياً بمغامراتي العابرة المسروقة فوق السطح تارة، أو في غرف المؤونة التي قلما يفتحها أحد..
اليوم لم يعد أبي هناك ليمنعني احتمال وجوده في هذا "البيت" من الدخول.
لقد رحل بعدما ترك تاريخه بامتياز خلف هذه الجدران، تماماً كما يفعل أيّ فلسطيني ثري ومحترم على أيامه.
ألم تكن جدتي تقول وقتها لتعلم أمي الصبر، وتعودها على تقبّل تلك الخيانة بفخر: "إن ما يفعله الرجال.. طرّز على أكتافهم!".
وكان أبي يطرّز مغامراته جرحاً ووشماً على جسد (أمّا) دون أن يدري.
ماذا أصبح هذا "البيت" لست أدري..
يُقال إنهم أغلقوه وربما ظل له باب واحد فقط.. بعدما أغلقت أبوابه الأخرى، في إطار سياسة تقليص الملذات في هذه المدينة، أو احتراماً لعشرات المساجد التي نبتت على صدر هذه الصخرة، والتي يرتفع صوتها مجتمعة مرات في اليوم، ليذكّر الناس بمزايا الإيمان والتوبة..
وكنت في تلك اللحظة، كمعظم رجال هذه المدينة، أقف في الحد الفاصل بين شهوة الجسد وعفة الروح. يتجاذبني إلى أسفل النداء السري لتلك الغرف المظلمة الشبقية.. حيث تحلو الخطايا.. ويسمو بي إلى أعلى ذلك النداء الآخر، لتلك المآذن التي افتقدت طويلاً تكبيرها، ورهبة آذانها الذي كان يدعو إلى الصلاة، فيخترق بقوته دهاليز نفسي، ويهزني لأول مرة منذ سنوات.
لقد أصبحت في بضعة أيام رجلاً مزدوجاً كهذه المدينة، وبدأت أعي أن ليس في هذا العالم المسكون بالأضداد من مدن بريئة. ومدن فاجرة.
هنالك مدن منافقة.. وأخرى أقل نفاقاً فقط..
وليس هناك من مدن بوجه واحد.. وحرفة واحدة. وقسنطينة أكثر المدن وجوهاً.. وتناقضاً.
ها هي مدينة تستدرجك إلى الخطيئة. ثم تردعك بالقوة نفسها التي تستدرجك بها.
كل شيء هنا دعوة مكشوفة للجنس.. شيء ما في هذه المدينة يغري بالحب المسروق: قيلولاتها التي لا تنتهي.. صباحاتها الدافئة الكسلى.. وليليها الموحش المفاجئ. طرقاتها المعلّقة بين الصخور.. أنفاقها السرية الموبوءة الرطوبة.. منظر جبل الوحش وما حوله من ممرات متشعّبة.. غابات الغار والبلّوط.. وكل تلك المغارات والأنفاق المختبئة.
ولكن.. عليك أن تكتفي بالتفرج على عادات النفاق المتوارثة هنا من أجيال، وتتحاشى النظر إلى هذه المدينة في عينيها حتى لا تربكها.. وترتبك!
فالجميع هنا يعرفون أن خلف شوارعها الواسعة تختبئ الأزقّة الضيقة الملتوية، وقصص الحب غير الشرعية، واللذة التي تسرق على عجل خلف باب.. وتحت ملاءتها السوداء الوقور، تنام الرغبة المكبوتة من قرون. الرغبة التي تعطي نساءها تلك المشية القسنطينية المنفردة، وتمنح عيونهن تحت (العجار)، ذلك البريق النادر.
تعوّدت النساء هنا منذ قرون، على حمل رغبتهنّ كقنبلة موقوتة، مدفونة في اللاوعي. لا تنطلق من كبتها إلا في الأعراس، عندما تستسلم النساء لوقع البندير، فيبدأن الرقص وكأنهن يستسلمن للحب، بخجل ودلال في البداية. يحركن المحارم يمنة ويسرة على وقع "الزندالي".. فتستيقظ أنوثتهن المخنوقة تحت ثقل ثيابهن وصيغتهن.
يصبحن أجمل في إغرائهن المتوارث.
تهتز الصدور وتتمايل الأرداف، ويدفأ فجأة الجسد الفارغ من الحب.
تشبّ فيه فجأة الحمى التي لم يطفئها رجل. ويتواطأ البندير الذي تسخنه النساء مسبقاً مع الجسد المحموم، فتزيد الضربات فجأة قوة وسرعة. وتنفك ضفائر النساء، وتتطاير خصلات شعرهن، وينطلقن في حلبات الرقص كمخلوقات بدائية تتلوى وجعاً ولذة في حفلة جذب وتهويل، يفقدن خلالها كل علاقة بما حولهن، وكأنهن خرجن فجأة من أجسادهن، من ذاكرتهن وأعمارهن، ولم يعد يمكن أحدا أن يعيدهن إلى هدوئهن السابق.
وكما في طقوس اللذة.. وطقوس العذاب، يدري الجميع أنه لا يجب وقف ضربات البندير، ولا قطع وقعها المتزايد، قبل أن تصل النساء إلى ذروة لا شعورهن ولذتهن، ويقعن على الأرض مغمى عليهن، تمسكهن نساء من خصورهن، وترشهن أخريات بالريحة والعطر الجاهز لهذه المناسبات.. حتى يعدن تدريجياً إلى وعيهن.
هكذا تمارس النساء الحب.. وَهْماً في قسنطينة!
قسنطينة التي أغرتني.. بليلة حب وهمية، وقبلت صفقتها السرية، مقابل شيء من النسيان.
فأين النسيان قسنطينة.. وفي كل منعطف يتربص بي جرح؟
هل الحنين وعكة صحية؟
مريض أنا بك قسنطينة.
كان موعدنا وصفة جرّبتها للشفاء، فقتلتني الوصفة.
تراني تجاوزت معك جرعة الشوق المسموح بها في هذه الحالات؟
لم أشتركِ في صيدلية جاهزة في طريق، لأرفع دعوى على بائع الأقدار الذي وضعك في طريقي.
لقد صنعتك أنا بنفسي، وقست كل تفاصيلك على مقاييسي..
أنت مزيج من تناقضي، من اتّزاني وجنوني، من عبادتي وكفري..
أنت طهارتي وخطيئتي. وكل عقد عمري.
الفرق بينك وبين مدينة أخرى.. لا شيء.
لعلك كنت فقط المدينة التي قتلتني أكثر من مرة لسبب مناقض للأول.. كل مرة.
فأين الحد الفاصل بين جرعة الشفاء وجرعة الموت هذه المرة؟ وفي مواسم الخيبة، تصبح الذاكرة مشروباً مراً يُبتلع دفعة واحدة، بعدما كان حلماً مشتركاً يُحتسى على مهل؟
هنا تبدأ الذاكرة المشتركة، وشوارع يسكنها التاريخ وينفرد بها.
بعضها مشيتها مع سي الطاهر وأخرى مع آخرين.
هنا شارع يحمل اسمه.. وشوارع تذكر عبوره. وها أنذا أتوحد بخطاه وأواصل طريقاً لم نكمله معاً.
تمشي العروبة معي من حيّ إلى آخر. ويملؤني فجأة شعور غامض بالغرور.
لا يمكن أن تنتمي لهذه المدينة، دون أن تحمل عروبتها.
العروبة هنا.. زهو ووجاهة وقرون من التحدّي والعنفوان.
مازالت لحية (ابن باديس) وكلمته تحكم هذه المدينة حتى بعد موته.
مازال يتأملنا في صورته الشهيرة تلك. ملتحياً وقاره، متّكئاً على يده، يفكر في ما أُلنا إليه بعده.
ومازالت صرخته التاريخية تلك بعد نصف قرن. النشيد غير الرسمي الوحيد.. الذي نحفظه جميعاً.
شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسبْ
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذبْ
أو رام إدماجاً له *** رام المحال من الطلبْ
صدقت نبوءتك لنا يا ابن باديس.. لم نمت.
فقط ماتت شهيّتنا للحياة. فماذا نفعل أيها العالم الفاضل؟
لا أحد توقّع لنا الموت يأساً. كيف يموت شعب يتضاعف كل عام؟
يا نشء أنت رجاؤنا *** وبك الصباح قد اقتربْ
ذلك النشء الذي تغنيت به.. لم يعد يترقب الصباح، مذ حجز الجالسون فوقنا.. الشمس أيضاً. إنه يترقب البواخر والطائرات.. ولا يفكر سوى بالهرب.
أمام كل القنصليات الأجنبية تقف طوابير موتانا، تطالب بتأشيرة حياة خارج الوطن.
دار التاريخ وانقلبت الأدوار. أصبحت فرنسا هي التي ترفضنا، وأصبح الحصول على "فيزا" إليها ولو لأيام.. هو "المحال من الطلب"!
لم نمت ظلماً.. متنا قهراً. فوحدها الإهانات تقتل الشعوب.
في زمن ما كنا نردد هذا النشيد في سجن قسنطينة. كان يكفي أن ينطلق من زنزانة واحدة، لتردده زنزانات أخرى، لم يكن مساجينها سياسيين.
كان لكلماته قدرة خارقة على توحيدنا. اكتشفنا مصادفة هناك صوتنا الواحد.
كنا شعباً واحداً ترتعد الجدران لصوته. قبل أن ترتعد أجسادنا تحت التعذيب.
هل بحّ صوتنا اليوم.. أم أصبح هناك صوت يعلو على الجميع. مذ أصبح هذا الوطن لبعضنا فقط؟
***
ولدت كل هذه الأفكار في ذهني وأنا أعبر ذلك الشارع، وألتقي بعد 37 سنة مع جدران سجن كنت يوماً أراها من الداخل.
ولكن هل يصبح السجن شيئاً آخر لمجرد أننا ننظر إليه من الخارج، وهل يمكن للعين أن تلغي الذاكرة اليوم، وهل يمكن لذاكرة أن تلغي أخرى؟
كان سجن "الكديا" جزءاً من ذاكرتي الأولى التي لن تمحوها الأيام.
وها هي الذاكرة تتوقف أمامه وترغم قدميّ على الوقوف، فأدخله من جديد كما دخلته ذات يوم من سنة 1945 مع خمسين ألف سجين ألقيّ عليهم القبض بعد مظاهرات 8 ماي الحزينة الذكر.
وكنت أكثر حظاً، قياساً إلى الذين لم يدخلوه يومها.
خمسة وأربعون ألف شهيد سقطوا في مظاهرة هزّت الشرق الجزائري كله بين قسنطينة وسطيف وقالمة وخرّاطة.
وكانوا أول دفعة رسمية لشهداء الجزائر. جاء استشهادهم سابقاً لحرب التحرير بسنوات.
هل أنساهم؟
أأنسى أولئك الذين دخلوه ولم يخرجوا منه، وظلّت جثثهم في غرف التعذيب؟ وأولئك الذين ماتوا بأكثر من طريقة للموت، رفاقنا الذين اختاروا موتهم وحدهم؟
هنالك إسماعيل شعلال. كان مجرد عامل في البناء. وكانت له مهمة حفظ وثائق "حزب الشعب" وأرشيفه السري. وكان أول من تلقّى زيارة الاستخبارات العامة الذين دقّوا باب غرفته الصغيرة الشاهقة صارخين "البوليس..افتح".
وبدل أن يفتح إسماعيل شعلال الباب.. فتح نافذته الوحيدة. ورمى بنفسه على وادي الرمال، ليموت هو وسرّه في وديان قسنطينة العميقة.
أيمكن اليوم، وحتى بعد نصف قرن، أن أذكر إسماعيل دون دموع، هو الذي مات حتى لا يبوح بأسمائنا تحت التعذيب؟
وهنالك صوت (عبد الكريم بن وطاف) الذي كانت صرخات تعذيبه تصل حتى زنزانتنا، خنجراً يخترق جسدنا أيضاً ويبعث فيه الشحنات الكهربائية نفسها. وصوته يشتم بالفرنسية معذّبيه ويصفهم بالكلاب والنازيّيين والقتلة.. فيأتي متقطّعاً بين صرخة وأخرى.
"criminels.. assassins.. salauds.. nazis"
فيرد عليه صوتنا بالأناشيد الحماسية والهتاف.
ويصمت صوت بن وطاف.
وهنالك (بلال حسين) أقرب صديق إلى سي الطاهر، أحد رجال التاريخ المجهولين، وأحد ضحاياه.
كان بلال نجّاراً. لم يكن رجل علم ولكن على يده تعلّم جيل بأكمل الوطنية. فقد كان محلّه القائم تحت جسر (سيجي راشد) مقرّ الاجتماعات السرية.
أذكر أنه كان يستوقفني وأنا أمرّ بمحلّه متجهاً إلى ثانوية قسنطينة، فيعرض عليّ قراءة جريدة "الأمة" أو منشوراً سرياً.
وكان خلال سنتين يهيؤني سياسياً للانخراط في "حزب الشعب". ويضعني أمام أكثر من امتحان ميداني، كان لا بد لكل عضو أن يمر به قبل أن يؤدي قسم الانخراط في الحزب. ويبدأ نشاطه في إحدى الخلايا التي كان يحددها بلال.
في ذلك المحل الذي لا أثر له اليوم، كان يلتقي القادة السياسيون. ويعطي (مصالح الحاج) تعليماته الأخيرة. وفيه نوقشت الشعارات التي رفعها المتظاهرون، وكُتبت ليلاً على اللافتات لتكون مفاجأة فرنسا.
وعندما انطلقت تلك المظاهرة من فوق جسر (سيدي راشد) كما خطط لها بلال لأسباب تكتيكية، يسهل معها تجمع المتظاهرين ثم تبعثرهم من كل الطرقات المؤدية للجسر. أدهشت القوات الفرنسية بدقتها ونظامها غير المتوقع. وكان بلال أول من أُلقي القبض عليه يومها.. ومن عذّب للعبرة.
ولم يمت بلال حسين كغيره. قضى سنتين في السجن والتعذيب. ترك فيهما جلده على آلات التعذيب.
أذكر أنه ظلّ لعدة أيام عاري الصدر، عاجزاً حتى أن يضع قميصاً على جلده، حتى لا يلتصق بجراحه المفتوحة، بعدما رفض طبيب المستشفى تحمل مسؤولية علاجه.
ثم خرج محكوماً عليه بالنفي والرقابة المشددة. وعاش بلال حسين مناضلاً في المعارك المجهولة، ملاحقاً مطارداً حتى الاستقلال. ولم يمت إلا مؤخراً في عامه الواحد والثمانين في 27 ماي 1988، في الشهر نفسه الذي مات فيه لأول مرة.
مات بائساً، وأعمى، ومحروماً من المال والبنين.
اعترف قبل موته ببضعة أشهر لصديقه الوحيد، أنهم عندما عذّبوه تعمدوا تشويه رجولته، وقضوا عليها إلى الأبد.
وأنه في الواقع مات منذ أربعين سنة..
يوم وفاته، جاء حفنة من أنصاف المسؤولين لمرافقته إلى مثواه الأخير. أولئك الذين لم يسألوه يوماً بماذا كان يعيش، ولا لماذا لا أهل له.
مشوا خلفه خطوات.. ثم عادوا إلى سياراتهم الرسمية، دون أدنى شعور بالذنب.
لم يكن أحد يعرف سره الذي احتفظ به أربعين سنة كاملة، بحياء رجل من جيله ومن طينته.
فهل كان يستحق ذلك السر، كل ذلك الكتمان؟
كان بلال حسين آخر الرجال في زمن الخصيان..
وكان المبصر في زمن عميت فيه البصائر..
فهل أنسى بلال حسين؟
***
ها هوذا سجن (الكديا)..
أتأمله كما نتأمل جدران سجن أول، دخلناه كما ندخل حلماً مزعجاً لم نكن مهيأين له.
مرت سنوات كثيرة، قبل أن أدخل سجناًً آخر، كان جلادوه هذه المرة جزائريين لا غير. ولم يكن له من عنوان معروف، ليعرف طيف (أمّا) طريقه إليّ فيأتيني كما كانت تأتي لزيارتي هنا في الماضي، باكية متضرّعة لكل حارس..
ها هوذا سجن (الكديا).. كم من قصص مؤلمة، وأخرى مدهشة عرفها هذا السجن، الذي تناوب عليه أكثر من ثائر، لأكثر من ثورة.
سنة 1955.. أي عشر سنوات بالضبط بعد أحداث 8 ماي 1945. عاد هذا السجن للصدارة، بدفعة جديدة لسجناء استثنائيين كانت فرنسا تعدّ لهم عقاباً استثنائياً.
في الزنزانة رقم 8.. المعدة لانتظار الموت. كان ثلاثون من قادة الثورة ورجالها الأوائل، ينتظرون موثقين، تنفيذ الحكم بالإعدام عليهم، بينهم مصطفى بن بولعيد والطاهر الزبيري ومحمد لايفا وإبراهيم الطيب رفيق ديدوش مراد وباجي مختار وآخرون.
كان كل شيء معداً للموت يومها، حتى أن حلاق مساجين الحق العام، أخبر الشهيد القائد مصطفى بولعيد في الصباح، أنهم غسلوا المقصلة بالأمس، وأنه حلم أنهم "نفذوا".
وكانت هذه الكلمة تحمل معنييْن بالنسبة لمصطفى بن بولعيد، الذي كان يعدّ منذ أيام خطة للهرب من (الكديا).. وكان شرع مع رفاقه منذ عدة أيام، في حفر ممر سري تحت الأرض، أوصلهم في المرة الأولى إلى ساحة مغلقة داخل السجن. فأعادوا الحفر من جديد، ليصلوا بعد ذلك إلى خارج السجن.
يوم 10 نوفمبر 1955، بعد صلاة المغرب، وبين الساعة السابعة والثامنة مساءً بالتحديد، كان نصطفى بولعيد ومعه عشرة آخرون من رفاقه، قد هربوا من (الكديا)، وقاموا بأغرب عملية هروب من زنزانة لم يغادرها أحد ذلك اليوم.. سوى إلى المقصلة.
بعد ذلك سقط القائد مصطفى بولعيد وبعض من فرّوا معه، شهداء في معارك أخرى لا تقل شجاعة عن عملية فرارهم، فتصدّروا برحيلهم كتب التاريخ الجزائري، وأهم الشوارع والمنشآت الجزائرية.
بينما نُفِّذ حكم الإعدام، في من ظلّوا بالزنزانة، دون أن يتمكنوا من الهروب.
ولم يبق اليوم من السجناء الأحد عشر الذين هربوا من الكديا، سوى اثنين على قيد الحياة. ومات الرجال الثمانية والعشرون الذين جمعتهم الزنزانة رقم ثمانية يوماً، لقدرٍ كان مقرراً أن يكون.. واحداً.
كلما وقفت أمام الجدران العالية لهذا السجن تبعثرت ذاكرتي، وذهبت لأكثر من وجه، لأكثر من اسم، ولأكثر من جلاد. وشعرت برغبة في فتح أبواب سجون أخرى مازالت مغلقة على أسرارها، دون أن تجد كاتباً واحداً يردّ دين من مرّوا بها.
وقتها كنت أحسد ذلك الرفيق الذي جمعتني به زنزانة هنا لبضعة أسابيع.
كنا آنذاك.. أنا وهو، أصغر معتقلينْ سياسيينْ. وربما كان ياسين يصغرني ببضعة أشهر.
كان عمره ستة عشر عاماً فقط.
ورغم أنهم أطلقوا سراحي لصغر سنّي، فقد رفضوا أن يطلقوا سراح ياسين. وبقي في سجن (الكديا) أربعة عشر شهراً. يحلم بالحرية.. وبامرأة تكبره بعشر سنوات، كانت في السادسة والعشرين من عمرها.. وكان اسمها "نجمة"!
وبينما عدت أنا بعد ستة أشهر من السجن إلى الدراسة، راح ياسين يكتب بعد عدة سنوات رائعته "نجمة".
تلك الرواية الفجيعة، التي ولدت فكرتها الأولى هنا. في ذلك الليل الطويل، وفي مخاض المرارة والخيبة والأحلام الوطنية الكبرى.
أذكر أن ياسين كان مدهشاً دائماً. كان مسكوناً بالرفض وبرغبة في التحريض والمواجهة.
ولذا كان ينقل عدواه من سجين إلى آخر. وكنا نستمع إليه، ونجهل وقتها أننا أمام (لوركا) الجزائر، وأننا نشهد ميلاد شاعر سيكون يوماً، اكبر ما أنجب هذا الوطن من مواهب.
مرت عدة سنوات، قبل أن ألتقي بكاتب ياسين في منفاي الإجباري الآخر بتونس.
اكتشفت بفرح لا يخلو من الدهشة أنه لم يتغير.
مازال يتحدث بذلك الحماس نفسه، وبلغته الهجومية نفسها، معلناً الحرب على كل من يشتمّ فيهم رائحة الخضوع لفرنسا أو لغيرها.
لقد كانت له حساسية ضد الإهانات المهذبة، وضد قابلية البعض للانحناء.. الفطري!
كان يومها يلقي محاضرة في قاعة كبرى بتونس، عندما راح فجأة يهاجم السياسيين العرب، والسلطات التونسية بالتحديد.
ولم يستطع أحد يومها إسكات ياسين.
فقد ظل يخطب ويشتم حتى بعدما قطعوا عليه صوت الميكروفون، وأطفأوا الأضواء ليرغموا الناس على مغادرة القاعة.
يومها دفعت في جلسة تحقيق مع البوليس ثمن حضوري في الصف الأمامي وهتافي على ياسين "تعيش.. آ ياسين..".
لم ينتبه أحد وقتها إلى وجوه من صفّقوا. ولكن بعض من كان يعنيهم الأمر انتبهوا إلى يدي الوحيدة المرفوعة تأييداً.. وإعجاباً.
يومها اكتشفت البعد الآخر لليد الواحدة. فقدر صاحبها أن يكون معارضاً ورافضاً، لأنه في جميع الحالات.. عاجز عن التصفيق!
احتضنته بعدها وقلت: "ياسين.. لو رزقت ولداً سأسميه ياسين.."
وشعرت بشيء من العنفوان والمتعة، كأنني أقول له أجمل ما يمكن أن نقوله لصديق أو لكاتب.
فضحك ياسين وهو يربت على كتفي بيدٍ عصبية كعادته عندما يربكه اعتراف ما.
وقال بالفرنسية: "أنت أيضاً لم تتغير.. مازلت مجنوناً!"
وضحكنا لنفترق لعدة سنوات أخرى.
تراني كنت أريد أن أكون وفيّاً لذاكرتنا المشتركة، أم فقط، كنت أريد أن أعوّض بذلك عن عقدتي تجاه "نجمة"، الرواية التي لن أكتبها، والتي كنت أشعر أنها بطريقة أو بأخرى، كانت قصّتي أيضاً. بأحلامي وخيباتي، بملامح (أمّا) الواقفة على حافة اليأس والجنون، الراكضة بين السجن والأولياء الصالحين، تقدّم الذبائح لسيدي محمد الغراب، والعمولات لحارس السجن اليهودي، الذي كان جارنا.. حتى يأتيني بين الحين والآخر بقفّة الأكل الذي تعدّه لي. (أمّا) التي كدت لا أعرفها عندما غادرت السجن بعد ستة أشهر، والتي أمام انشغال أبي عني وعنها، بتجارته وعشيقاته، أصبحت لا تطلب من الله إلا عودتي لها. وكأنني الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرر وجودها، والشاهد الوحيد على أمومتها وأنوثتها المسلوبة.
نعم كنا في النهاية جيلاً بقصة واحدة، بجنون الأمهات المتطرفات في الحب، بخيانة الآباء المتطرفين في القسوة، وبقصص حب وهمية، وخيبات عاطفية، يصنع منها البعض روائع عالمية في الأدب، ويتحول آخرون على يدها إلى مرضى نفسانيين.
تراني لا أفعل شيئاً بكتابة هذا الكتاب، سوى محاولة الهروب من صنف المرضى إلى صنف المبدعين؟
آه ياسين.. كم تغير العالم منذ ذلك اللقاء.. منذ ذلك الوداع..
أنت الذي أنهيت روايتك قائلاً على لسان ذلك البطل:
"وداعاً أيها الرفاق.. أيّ شباب عجيب ذاك الذي عشناه!."
لم تكن تتوقع وقتها، أن عمرنا سيكون أعجب من سنوات شبابنا بكثير!
غداً سيكون عرسكِ إذن..
وعبثاً أحاول أن أنسى ذلك، وأمشي في شوارع قسنطينة، يسلّمني زقاق إلى آخر.. وذاكرة إلى أخرى.
أما قلتِ إنك لي مادمنا في هذه المدينة؟
أين تكونين الآن إذن؟ في أي شارع.. في أي زقاق من هذه المدينة المتشعّبة الطرقات والأزقة كقلبك، والتي تذكّرني بحضورك وغيابك الدائم، وتشبهك حد الارتباك؟
لستِ لي..
أدري أنهم يعدّونك الآن لليلة حبك القادمة. يعدّون جسدك لرجل آخر ليس أنا. بينما أهيم أنا على جرحي لأنسى الذي يحدث هناك.
مليئاً كان يومك، كيوم عروس، وفارغاً كان يومي، كيوم موظّف متقاعد.
منذ زمان أخذ كلّ واحد منا طريقاً مخالفاً للآخر. وها نحن نعيش بمفّكرتين متناقضتينْ، إحداهما للفرح وأخرى للحزن. فكيف أنسى ذلك؟
كانت كل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها للنسيان، والتي كنت تتربّصين لي فيها.
كلّ المدارس والكتاتيب العتيقة.. كل المآذن.. كلّ "البيوت المغلقة".. كلّ السجون.. كل المقاهي.. كل الحمامات التي كانت تخرج منها النساء أمامي جاهزات للحب، كل الواجهات التي تعرض الصيغة والثياب الجاهزة للعرائس. وحتى.. تلك المقبرة التي ألقيت نفسي في سيارة أجرة، ورحت أبحث فيها عن قبر (أمّا)، وأستعين بسجلات حارسها لأتعرف على أرقام الممرات التي كانت توصل إليها.. أوصلتني إليك لا غير.
(أمّا).. لماذا قادتني قدماي إليها ذلك اليوم بالذات، في ليلة عرسك بالذات؟ أرحت أزورها فقط.. أم رحت أدفن جوارها امرأة أخرى توهمّتها يوماً أمي؟
عند قبرها الرخامي البسيط مثلها، البارد كقدرها.. والكثير الغبار كقلبي، تسمّرت قدماي، وتجمّدت تلك الدموع التي خبأتها لها منذ سنوات الصقيع والخيبة.
ها هي ذي (أمّا).. شبر من التراب، لوحة رخامية تخفي كل ما كنت أملك من كنوز. صدر الأمومة الممتلئ.. رائحتها.. خصلات شعرها المحنّاة.. طلّتها.. ضحكتها.. حزنها.. ووصاياها الدائمة.. "عندك يا خالد يا ابني..".
(أمّأ) عوّضتها بألف امرأة أخرى.. ولم أكبر.
عوّضت صدرها بألف صدر أجمل.. ولم أرتوِ. عوّضت حبها بأكثر من قصة حب.. ولم أشف.
كانت عطراً غير قابل للتكرار. لوحة غير قابلة للتقليد ولا للتزوير.
فلماذا في لحظة جنون تصوّرت أنك امرأة طبق الأصل عنها؟ لماذا رحت أطالبك بأشياء لا تفهمينها، وبدور لن تطاليه؟
هذا الحجر الرخاميّ الذي أقف عنده أرحم بي منك.
لو بكيت الآن أمامه.. لأجهش بدوره بالبكاء.
لو توسّدت حجره البارد، لصعد من تحته ما يكفي من الدفء لمواساتي.
لو ناديته (يا أمّا..) لأجابني ترابه مفجوعاً "واش بيك آ ميمة..؟".
ولكن كنت أخاف حتى على تراب (أمّا) من العذاب، هي التي كانت حياتها مواسم للفجائع لا غير.
كنت أخاف عليها حتى بعد موتها من الألم، وأحاول كلّما زرتها أن اخفي عنها ذراعي المبتورة.
ماذا لو كان للموتى عيون أيضاً؟
ماذا لو كانت المقابر لا تنام.. كم كان يلزمني من الكلام وقتها لأشرح لها كل ما حلّ بي بعدها؟
لم أجهش ساعتها بالبكاء، وأنا أقف أمامها بعد كلّ ذلك العمر.
نحن نبكي دائماً فيما بعد.
مرّرت فقط يدي على ذلك الرخام، وكأنني أحاول أن أنزع عنه غبار السنين وأعتذر له عن كل ذلك الإهمال.
ثم رفعت يدي الوحيدة لأقرأ فاتحة على ذلك القبر..
بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي. وبدت يدي الوحيدة الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب الرحمة بدل أن تعطيها..
فتنهّدت.. وأخفيت يدي.
ألقيتها داخل جيب سترتي.. وألقيت بخطاي خارج مدينة التراب.. والرخام.
***
كان ترقب حسان وزوجته للعرس، واستعداداتهما الدائمة له، للقاء كل الذين سيحضرونه من شخصيات وعائلات كبيرة، يجعلني أستمع لهما أحياناً، وكأنني أستمع إلى أطفال يتحدثون عن "سيرك"، سيحلّ بمدينة لم يزرها سيرك ولا مهرّجون من قبل.
وكنت لذلك أشفق عليهما.. وأعذرهما.
لقد كانت قسنطينة في النهاية، مدينة لا يحدث فيها شيء ما عدا الأعراس. فتركتهما لفرحتهما ينتظران "السيرك عمَّار"، واحتفظت لنفسي بخيبتي.
كان كل شيء استثنائياً في ذلك اليوم. وكنت أعرف مسبقاً برنامجه من أحاديث السهرة.
سيذهب حسان لقضاء حاجاته في الصباح، ثم يصلّي صلاة الظهر في المسجد، وبعدها سيمر بي صحبة (ناصر) لنذهب جميعاً إلى حضور العرس.
أما عتيقة فقد تأخذ الأولاد وتذهب منذ الصباح لترافق العروس إلى الحلاق. ثم تبقى هناك لتقوم مع نساء أخريات بخدمة الضيوف وإعداد الطاولات.
كنت أشعر برغبةٍ في البقاء في سريري في ذلك الصباح، وعدم مغادرته قبل الظهر، ربما بسبب متاعب البارحة، وربما استعداداً للسهر والمتاعب الأخرى التي تنتظرني في ذلك اليوم..
وربما فقط لأنني لم أعد أدري أين يمكنني أن أذهب، بعدما قضيت أسبوعاً وأنا أهيم على وجهي في تلك المدينة التي كانت تتربّص بذاكرتي في كل شارع. وكنتِ تختبئين لي فيها خلف كل منعطف..
وجدت بعد تفكير قصير، أن السرير هو المكان الوحيد الذي يمكن أن أهرب منك إليه. أو على الأقل ألتقي فيه معك بلذّة وليس بألم.
ولكن..
هل سأجرؤ حقاً على استحضارك اليوم.. في هذه اللحظة التي كنت أدري أنك تتجمّلين فيها استعداداً لرجل آخر؟
هل سأجرؤ على استحضارك في هذا الصباح.. وهل سيغفر لك جسدي حقاً في لحظة نزوة كلّ خياناتك السابقة واللاحقة؟ كان ذلك جنوناً في جنون!!
ولكن أليس هذا الذي كنت تريدينه في النهاية، عندما قلت: "سأكون لك في تلك الليلة..".
كنت أشعر برغبة في امتلاكك في ذلك الصباح.
وكأنني أريد أن أسرق منك كل شيء، قبل أن أفتقدك إلى الأبد. فبعد اليوم لن تكوني لي، وستنتهي هذه اللعبة الموجعة الحمقاء التي لم تكن هوايتي قبلك.
موجعاً كان لقائي معك ذلك الصباح.
فيه كثير من الشراسة والمرارة الغامضة.
فيه كثير من الحقد والشهوة الجنونية.
لو كنتِ لي..
آه لو كنتِ لي ذلك الصباح.. في ذلك السرير الكبير الفارغ البارد دونك. في ذلك البيت الشاسع بذكريات الطفولة المبتورة.. وشهوة الشباب المكبوت الذي مر على عجل.
لو كنت لي.. لامتلكتك كما لم أمتلك امرأة هنا. لاعتصرتك بيدي الوحيدة في لحظة جنون. لحوّلتك إلى قطع.. إلى مواد أولية.. إلى بقايا امرأة.. إلى عجينة تصلح لصنع امرأة.. إلى أي شيء غيرك أنت، أي شيء أقلّ غروراً وكبرياءً.. أقلّ ظلماً وجبروتاً منك.
أنا الذي لم أرفع يدي الوحيدة في وجه امرأة، ربما كنت ضربتك ذلك اليوم حدّ الألم، ثم أحببتك حد الأم، ثم جلست إلى جوار جسدك أعتذر له..
أقبّل كل شيء فيك، أمحو بشفتيّ حمرة أطرافك المخضّبة بالحناء، لأوشّمك بشراسة القُبَل، عساك عندما تستيقظين تكتشفينني مرسوماً على جسدك كالوشم، بذلك اللون الأخضر الوحيد الذي لا يرسم إلا على الجسد!
من أين جاءني كلّ ذلك الجنون؟ أكنت أريد أن أنفرد بك وأمتلكك قبله، أم كنت أدري يومها بحدسٍ أو بقرارٍ مسبق أنني أنفق معك آخر رعشات اللذّة، وأنني سأضعك خارج هذا السرير بعد اليوم إلى الأبد؟
لم تكن مشكلتي معك مجرد شهوة. لو كانت لحسمتها يومها بطريقة أو بأخرى.
هنالك أكثر من امرأة هنا يمكن أن يمتلكها رجل دون جهد.
هنالك أكثر من باب نصف مفتوح ينتظر أن يفتحه رجل.
هناك جارات تتقاطع خطواتي بهنّ مراراً في هذه البيوت العربية المشتركة، وأدري رغبتهن السرية في الحب.
تعلمت مع الزمن، أن أفكّ رموز نظرات النساء المحتشمات.. والمبالغات في اللياقة والمفردات المؤدبة.
ولكنني كنت أتجاهل نظرتهن ودعوتهن الصامتة إلى الخطيئة.
لم أعد أدري اليوم.. إن كنت أتصرف كذلك عن مبدأ.. أم عن حماقة وشعور غامض بالغثيان؟
كنت في الواقع أشفق عليهن.. وأحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك المغرورة دون مبرر..
سوى أنهم يمتلكون في البيت دجاجة ممتلئة متشحّمة لم يقربها أحد ربما عن قرف!
أو أخرى شهيّة ومدجّنة حسب التقاليد ولا يتوقع صاحبها أنّ جناحيها القصيرين.. مازالا يمارسان القفز.. فطرياً!
يا لحماقة الديوك!
إذا كانت كل النساء عفيفات هنا، وشرف كل الرجال مصوناً، فمع من يزني هؤلاء إذن؟ وكلهم دون استثناء يتبجّح في المجالس الرجالية بمغامراته؟
أليس كل واحد منهم يضحك على الآخر.. ولا يدري أن هناك من يضحك عليه؟!
كم أكره ذلك الجو الموبوء بالنفاق.. وتلك القذارة المتوارثة.. بنزاهة!
يحدث عندما تتقاطع نظراتي بهنّ، أن أستعيد قولك مرة، عندما أبديت لك دهشتي مما جاء في روايتك الأولى.. ورحت أستجوبك بحثاً عن ذاكرة مشبوهة.
قلتِ:
"لا تبحث كثيراً.. لا يوجد شيء تحت الكلمات. إن امرأة تكتب هي امرأة فوق كل الشبهات.. لأنها شفافة بطبعها. إن الكتابة تطهّر مما يعلق بنا منذ لحظة الولادة.. أبحث عن القذارة حيث لا يوجد الأدب!"
وكانت القذارة المتوارثة أمامي في كل مكان، في عيون معظم النساء الجائعات لأي رجل كان.
في عصبية الرجال الذين يحملون شهوتهم تراكماً قابلاً للانفجار.. أمام أول أنثى.
ولكن كان عليّ أن أقاوم رغبتي الحيوانية ذلك اليوم. وألا أترك تلك المدينة تستدرجني إلى الحضيض.
فهنالك مبادئ لا يمكنني التخلّي عنها مهما حدث. كأن أعاشر امرأة متزوجة، تحت أي مبرر كان.
وربما كان هذا سر حزني الآخر. فقد كنت أدري أن مستحيلاً آخر قد أضيف إلى مستحيلات أخرى يومها، وأنك لن تكوني لي أبداً بعد اليوم.
لم أكن خجولاً من يدي اليمنى ذلك اليوم.
شعرت بشيء من الارتياح، وأنا أكتشف أنني برغم كل ما حلّ بي مازلت أحترم جسدي.
المهم في هذه الحالات، ألا نفقد احترام جسدنا ونحن نمنحه لأول عابر سبيل.
فأين يمكن أن نسكن بعد ذلك إن نحن أهنّاه.. وإن رفض أن ينسى ذلك؟
رميت فجأة بالغطاء، واتّجهت نحو النافذة وأشرعتها وكأنني أفتحها ليخرج طيفك منها إلى الأبد، ويدخل النور إلى تلك الغرفة.
في هذه المدينة المسكونة بالجنّ والسحرة، ماذا لو كنت جنّية تتسلل إليّ مع العتمة، تنام إلى جواري، تقصّ عليّ قصصاً عجيبة، تعدني بألف حلّ سحري لمأساتي.. ثم تختفي مع أول شعاع وتتركني لهواجسي وظنّي؟
هل خرج طيفك حقاً يومها من سريري.. من غرفتي وذاكرتي. وهرب من تلك النافذة؟ لا أدري!
أدري فقط أن قسنطينة، دخلت من تلك النافذة نفسها، التي قلّما فتحتها.
وإذا بالأذان يفاجئني من أكثر من مئذنة في آن واحد، ويسمّرني في مكاني أمام الأقدام المسرعة في كل الاتجاهات.
وكان جسر (سيدي راشد) يبدو بدوره منهمكاً في حركة دائمة كامرأة تستعد لحدثٍ ما.. مأخوذاً بهمومه اليومية، وبحماس نهايات الأسبوع.
وجدت في انشغاله عن حزني ذلك الصباح بالذات شيئاً شبيهاً بالخيانة.. وعدم العرفان بالجميل.
قررت بدوري ألا أجامله.. فأغلقت في وجهه وجهي.. ورَدَدْت النافذة..
وفجأة.. انتابتني رغبة جارفة للرسم. زوبعة شهوة الألوان.. تكاد توازي رغبتي الجنسية السابقة وتساويها عنفاً وتطرّفاً.
لم أعد في حاجة إلى امرأة.. شفيت من جسدي وانتقل الألم إلى أطراف أصابعي..
في النهاية لم يكن السرير مساحة للذّتي ولا لطقوس جنوني. وحدها تلك المساحة البيضاء المشدودة إلى الخشب كانت قادرة على إفراغي من ذاتي.
فيها أريد أن أصبّ الآن لعنتي، أبصق مرارة عمرٍ من الخيبات.
أفرغ ذاكرة انحازت للون الأسود.. مذ انحزت لهذه المدينة الملتحفة _حماقة_ بالسواد منذ قرون، والتي تخفي وجهها _تناقضاً_ تحت مثلث أبيض للإغراء.
سلاماً أيها المثلث المستحيل.. سلاماً أيتها المدينة التي تعيش مغلقة وسط ثالوثها المحرم ( الدين – الجنس – السياسة).
كم تحت عباءتك السوداء.. ابتلعت من رجال. فلم يكن أحد يتوقّع أن تكون لك طقوس مثلث (برمودا) وشهيته للإغراق..
كانت الأفكار الرمادية تتوالد في ذهني في ذلك الصباح. والغيظ يملؤني تدريجياً كلما تقدّمت الساعة واقترب وقت قدوم حسان وناصر لمرافقتي إلى ذلك البيت، لأحضر عرسك.
وكان غيظي وخيبتي قد شلا يدي ومنعاني حتى من أن أحلق ذقني أو أستعد لذلك الفرح المأتم.
كنت أذهب وأجيء فجأة في تلك الغرفة بعصبية مدمن تنقصه رشفة أفيونه.
كيف لم أتوقع أن أشعر بهذه الحاجة المرضيّة اليوم لإمساك فرشاة، وبهذه الرغبة الجارفة للرسم؟ تلك الرغبة التي لا تقاوم، والتي تصبح ألماً في أطراف الأصابع، وتوتراً جسدياً ينتقل من عضو إلى آخر؟
كنت أريد أن أرسم.. وأرسم.. حتى أفرغ من كل شيء. وأقع ميتاً.. أو مغمى عليّ إرهاقاً ونشوة.
من الأرجح أنني هذه المرة لن أرسم جسوراً ولا قناطر. ربما رسمت نساءً بملاءات سوداء.. ومثلثات بيضاء.. وعيون كاذبات، واعدات بفرح ما. فاللون الأسود لون كاذب في معظم الأحيان.. تماماً مثل اللون الأبيض.
وقد لا أرسم شيئاً، وأموت هكذا واقفاً، عاجزاً أمام لوحة بيضاء.
فهل أروع من أن نوقّع مساحة بيضاء ببياض، وننسحب على رؤوس الأصابع، مادمنا لم نوقّع شيئاً في النهاية، ووحدها الأقدار توقّع حياتنا، وتفعل بنا ما تشاء؟
لماذا التحايل على الأشياء إذن.. لماذا المراوغة؟
أما كنتِ لوحتي؟ ما فائدة أن أكون رسمتك ألف مرة، مادام آخر سيضع توقيعه عليك اليوم، سيضع بصماته على جسدك، واسمه جوار أوراقك الثبوتية؟
وماذا تفيد عشرات المساحات التي غطيتها بك، أمام سرير سيحتوي جسدك.. ويخلّد أنوثتك الأبدية؟
أيّ جدوى لما أرسمه.. إذا كان هناك دائماً من سيضع توقيعه نيابة عني كالعادة؟
***
في تلك اللحظة المتقدمة من اليأس، دقّ فجأة الهاتف، وأخرجني للحظة من وحدتي وهواجسي. فرحت أسرع نحو الغرف البعيدة الأخرى، لأردّ عليه.
كان حسان على الخط. سألني دون مقدمات:
- واش راك تعمل..؟
أجبته بشيء من الصدق:
- كنت غافياً شيئاً ما..
قال:
- حسناً إذن.. توقعت أن تكون جاهزاً وتنتظرني منذ مدة. كنت أريد أن أخبرك أنني قد أتأخر بعض الوقت. هنالك مشكل صغير يجب أن أحلّه.
سألته متعجباً:
- أيّ مشكل؟
قال:
- تصور بماذا طلع لي ناصر اليوم؟ إنه لا يريد أن يحضر عرس أخته..
قلت وأنا أزداد فضولاً:
- لماذا؟
قال:
- إنه ضد هذا الزواج.. ولا يريد أن يلتقي بالضيوف ولا بالعريس.. ولا حتى بعمّه!
كدت أقاطعه "معه حق".. ولكنني سألته:
- وأين هو الآن؟
قال:
- لقد تركته في المسجد. قال لي إنه يفضّل أن يقضي يومه هناك بدل أن يقضيه مع هؤلاء "القوّا..."!
ولأول مرة ضحكت من قلبي. ولم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق بصوت عالٍ:
- رائع ناصر.. والله "نستعرف بيه".!
ولكن حسان قاطعني بصوتٍ فيه شيء من العتاب والعجب:
- واش بيك هبلت إنت تاني.. عيب.. شفت واحد ما يروّحش لعرس أختو.. واش يقولوا الناس..
- الناس.. الناس.. يقولوا واش يحبوا.. خلينا يا راجل يرحم والديك..
وقبل أن أقول له شيئاً قال:
- ابق في البيت إذن.. سأمر عليم حال ما انتهي. سنتحدث في هذا الموضع فيما بعد، فأنا أحدثك من مقهى، وحولي كثير من الناس (... على بالك..!).
ثم أضاف:
- ستجد في المطبخ أكلاً أعدّته لك عتيقة..
وضعت السماعة. وعدت إلى غرفتي.
لم أكن في حاجة إلى أكل. كنت فقط أشعر بشيء من الظمأ الصباحي، وبشيء من المرارة التي صار لها فجأة بعد ذلك الهاتف، مذاق السعادة الغامضة.
لقد ملأني موقف ناصر غبطة. شعرت أن هناك شخصاً آخر يشاركني حزني دون علمه، ويقف معي ضدّ هذا الزواج، ولكن على طريقته..
فحلٌ ناصر، جدير بأن يكون ابن سي الطاهر.
لم ألتقِ به بعد. ولكن أتوقع أن يكون (راسو خشين..) مثل أبيه. أن يكون عنيداً ومباشراً مثله.
وإذا كان فعلاً مثله فلن ينجح حسان أبداً في تغيير رأيه.
مازلت أذكر عناد سي الطاهر وقراراته النهائية دائماً، التي لا يمكن لأحد أن يزيحه عنها.
وقتها كنت أجد في تلك المواقف شيئاً من الدكتاتورية، وغرور القائد. ثم مع الزمن، أدركت أنه كان لا بد للثورة في أيامها الأولى من رجالٍ مثل سي الطاهر، بذلك العناد، وتلك الثقة المطلقة بالنفس، حتى يفرضوا رأيهم وسلطتهم على الآخرين، ليس حباً بالجاه والسلطة، إنما للمّ شمل الثورة وعدم ترك مجال للخلافات والاعتبارات الشخصية، وحتى لا تموت تلك الشعلة الأولى وتبعثرها الرياح..
عادت ذكرى سي الطاهر فجأة. في لحظة لم أحجزها له..
وعادت طلّته، موجعة كتلك الرصاصات التي أفرغوها في جسده يوماً، وأودت به قبل أن يشهد استقلال الجزائر بأشهر.
أين هو ليحضر هذا اليوم الاستثنائي الذي سيخلف موعده أيضاَ؟
أكان قدره أن يخلف فرحتين؟
رحل كما جاء، سابقاً لزمنه، وكأنه أدرك أنه لم يخلق للزمن الآتي. كنت أعي بشيء من المرارة، أن كلّ الذين أحبّوكِ لن يحضروا عرسك هذا.
سيتغيب عن فرحك كل الذين كنتِ فرحتهم. سي الطاهر وزياد.. وناصر أيضاً.
لماذا وحدي وقعت عليّ تلك القرعة، وقادتني الأقدار إليك؟
ولماذا استدرجتني حتى هنا، باسم الذاكرة والحنين.. وذلك الحب الجنوني المستحيل، وقلت تلك الجملة التي ملأت جيوب الأحلام وهماً.. "سأكون لك مادمنا في قسنطينة..".
كيف صدّقتك.. وجئت؟
وكنت أدري انك تكذبين، وتهدينني الغيوم البيضاء.. لصيف طويل. ولكن.. من يقاوم مطر الكذب الجميل؟
هنالك أكاذيب نحاول أن نصدّقها حتى نحرج النشرات الجوية. لكن عندما تنهطل الأمطار داخلنا.. من يجفف دمع السماء؟
في الواقع كنتِ امرأة ساديّة، وكنت أعرف ذلك.
أذكر ذلك اليوم الذي قلت لك فيه: "لو خلّف هتلر ابنة في هذا العالم.. لكنتِ ابنته الشرعية!".
ضحكتِ يومها. ضحكت.. ضحكة حاكم جبّار واثق من قوّته. وعلّقت أنا بسذاجة الضحية: "لا أدري ما الذي أوصلني إلى حبك، أنا الهارب من حكم الجبابرة.. أيمكن بعد هذا العمر أن أقع في حبّ امرأة طاغية..!".
ابتسمت فجأة.. ثم قلت بعد شيء من الصمت: "مدهش أنت عندما تتحدث، تفجّر فيّ أكثر من موضوع للكتابة.. سأكتب يوماً هذه الفكرة..".
اكتبيها إذن ذات يوم.. صحيح أنها تصلح لرواية!
في ذلك الصباح، كانت الخمرة ملجئي الوحيد، لأنسى خيبتي معك.
في تلك الغرفة التي يؤثثها سرير فارغ، ونافذة تطل على المآذن والجسور، وطاولة فارغة من لوازم الرسم، لم أجد لي من طوق نجاة سوى بضع أوراق وأقلام فقط، وزجاجة ويسكي أحضرتها لحسان قبل أن يتوب، ومازالت في حقيبتي تنتظر. فأحضرتها ورحت أشرب ذلك الصباح نخب زياد وسي الطاهر.. ونخب قسنطينة.
تذكّرت مسرحية أعجبت بها يوماً. فكتبت أعلى الصفحة، دون كثير من التفكير "كأسك يا قسنطينة".
وضحكت لهذا الدور الذي كان جاهزاً لي في هذه المدينة التي تمنع عنك الخمرة، وتوفر لك كل أسباب شربها.
لم أكن أدري وقتها، أنني كنت أخطّ خلاصة خيبتي كلمتين قد تصلحان عنواناً لهذا الكتاب، الذي ربما ولدت فكرته يومها.
كانت بي رغبة لتحديك وتحدّي هذه المدينة.. وهذا الوطن الكاذب.
رفعت كأسي الملآى بك.. نخب ذاكرتك التي تحترف مثله النسيان. نخب عينيك اللتين خلقتا لتكذبا.
نخب فرح الليلة الجاهز للبكاء.. نخب بكائي العاجز عن الدموع.
أنت التي صالحتني مع الله، وأعدتني يوماً إلى العبادة. ها أنت تخونينني ليلة جمعة.. تحلّين دمي، وتطلقين عليّ رصاص الغدر..
فلماذا لا أسكر اليوم.. من أكثرنا كفراً يا ترى!
في الواقع، لم تكن الخمرة هوايتي. كانت مشروب فرحي وحزني التطرف. ولذا ارتبطت بك وبتقلباتك الجنونية. ففي كل مرة شربت فيها كنت أؤرخ لحدثٍ ما في قصتنا التي لا تنتهي.
وها أنا أفتح على شرفك زجاجتي الأخيرة.. وأرتكب جنوني الأخير. فلا أعتقد أنني قد أسكر بعد اليوم. لأنني سأغسل يدي منك اليوم.. وأشيّعك على طريقتي.
وحده أمر ناصر يعنيني الآن، أخيك الذي يصلي في هذه اللحظة في أحد مساجد هذه المدينة، لينسى مثلي، أنهم سيتناوبون على وليمتك الليلة.. وأن هناك من سيتمتع بك في غفلةٍ منا..
في الواقع.. كنت أسكر نخبه.. لا غير!
إيه ناصر..
أنا.. وأنت.. وهذه المدينة.
مدينة تواطأت معنا في التطرف والجنون. مدينة "سادية" تتلذذ بتعذيب أولادها. حبلت بنا دون جهد. ووضعتنا كما تضع سلحفاة بحرية أولادها عند شاطئ وتمضي دون اكتراث، لتسلمهم لرحمة الأمواج والطيور البحرية..
"إفكروا.. وإلا الله لا يجعلكم تفكِّروا.." يقول "الفكرون" في ذلك المثل الشعبي وهو يتخلى عن أولاده.
وها نحن بلا أفكار.. نبحث عن قدرنا بين الحانات والمساجد.
ها نحن سلحفاة تنام على ظهرها. قلبوها حتى لا تهرب، قلبوها في محاولة انقلاب على المنطق..
فكم يشبه الميلاد الموت في المدن العريقة، حيث نولد ونموت وسط مجرى الهواء والرياح المضادة!
وما أكبر يتم السلاحف في هذه المدينة!
عندما جاء حسان بعد ذلك، وفاجأني جالساً أكتب أمام تلك الطاولة وأمامي زجاجة ويسكي نصف فارغة، كاد يشهق من العجب. وظل ينظر إلي مدهوشاً وكأنني بفتح تلك الزجاجة أخرجت له مارداً، أو جنّاً أطلقته في البيت.
حاولت أن أمازحه فسألته بسخرية:
- لماذا تنظر إليّ هكذا.. ألم ترَ زجاجة كهذه قبل اليوم؟
ولكنه دون أي رغبة في المزاح أخذ الزجاجة من أمامي، وذهب بها إلى المطبخ، وهو يسبّ ويتحدث لنفسه كلاماً لم يكن يصلني.
وعندما عاد قال لي بنبرة فيها شيء من اليأس وبقايا من متاعب ناصر:
- يا أخي واش بيكم.. البلاد متّخذة وأنتما واحد لاتي يصلي.. وواحد لاتي يسكر.. كيفاش نعمل معاكم؟
توقف سمعي عند ذلك التعبير الذي لم أسمعه منذ عدة سنوات "البلاد متّخذة" والذي يعني أن البلاد قائمة قاعدة.. أو تشهد حدثاً استثنائياً، والذي هو في الواقع تعبير جنسي محض.
ابتسمت وأن أكتشف مرة أخرى قدرة هذه المدينة على زجّ الصور الجنسية في كل شيء. وذلك ببراءة مدهشة..
رفعت عيني نحوه وقلت له بشيء من السخرية المرة:
- هذه هي الجزائر يا حسان.. البعض يصلّي.. والبعض يسكر.. والآخرون أثناء ذلك "ياخذوا في البلاد.."!
ولكن حسان لم يبدُ على استعداد للتمادي معي في النقاش.
ربما لأنه بعد ذلك الوقت الذي قضاه في إقناع ناصر لم يعد قادراً على المزيد من المناقشة. فقال وهو يقاطعني:
- سأذهب لأحضر لك القهوة، حتى تفيق وتطير عنك هذه السكرة.. ثم نتحدث. إن الناس ينتظروننا هناك وبعضهم لم يرَك منذ سنوات. يجب ألا تذهب إليهم في هذه الحالة!
عندما عاد بعد لحظات بالقهوة سألته:
- ماذا فعلت مع ناصر؟
قال:
- لقد وعدني أنه سيمر هناك وقت العشاء إرضاءً لخاطري فقط، ولكنه لن يمكث طويلاً. وبرغم ذلك أشك في أن يحضر فعلاً. لا أفهم عناده هذا.. إنه لا يملك سوى أخت واحدة في النهاية.. ولا يمكن ألا يقف في عرسها أمام الناس.
جنون!
كنت أحتسي تلك القهوة حتى يطير سكري، حسب تعبير حسان. ولكن كنت أشعر في الواقع أنني أزداد سكراً أو جنوناً، وأنا أستمع إليه.
كتلك اللحظة التي سألته فيها عن سبب مقاطعة ناصر لهذا العرس، وإذا بالحديث يجرّنا إلى أكثر من موضوع.
قال:
- إنه على خلاف مع عمه. فهو يعتقد أنه استفاد كثيراً من اسم سي الطاهر، وأنه قلّما اهتم بمصير زوجة أخيه وأولاده. وهذا العرس لا هدف له غير أسباب وصوليّة ومطامع سياسية محض.. فهو ضد اختيار عمه لهذا العريس السيئ الصيت سياسياً وأخلاقياً. فالجميع يتحدّث عن العمولات التي يتقاضاها في صفقاته المختلفة.. وعن حساباته في الخارج.. وعن عشيقاته الجزائريات.. والأجنبيات. إضافة إلى كون هذا الزواج زواجه الثاني، وأن له أولاداً يقارب عمرهم عمر عروسه الجديدة..
سألته:
- وهل تجد أنت هذا الزواج طبيعياً؟
قال:
- لا أدري بأي منطق تريد أن أحكم عليه. من المؤكد أنه بمنطق الأشياء عندنا زواج طبيعي. إنه ليس أول زواج من هذا النوع، ولن يكون الأخير.. إن لمعظم الرجال المهمّين هنا أكثر من عشيقة. وكلهم تخلّوا بطريقة أو بأخرى عن زوجاتهم وأولادهم، ليتزوجوا من عروس جديدة أصغر عمراً وأكثر جمالاً وثقافة من الأولى.. إنك لا تستطيع أن تمنع رجلاً عندنا زادوا له نجمة على أكتافه، من أن يزيد امرأة في بيته، أو تمنع رجلاً حصل على منصب جديد لم يحلم به، من أن يبدأ في البحث عن فتاة أحلامه.
وأضاف:
- أنا حاولت فقط أن أقنع ناصر أن عمه لم يقصد بالضرورة القضاء على مستقبل أخته بهذا الزواج. بل إن أي شخص سواه كان سيرحّب بهذه المصاهرة.. ويسعى إليها لاهثاً.. إنها الطريقة الوحيدة ليحل مشكلاته ومشكلات ابنته مرة واحدة، ويوفر عليها كثيراً من المتاعب..
سألته:
- لو كانت لك بنت وخطبها منك هذا الرجل، أكنت زوّجته منها؟
قال:
- طبعاً.. ولم لا؟ إن الزواج حلال.. الحرام هو ما يمارسه بعضهم بطرقٍ عصرية. كأن يرسل أحدهم ابنته أو زوجته.. أو أخته لتحضر له ورقة من إدارة، أو تطلب شقّة أو رخصة لمحل تجاري نيابة عنه، وهو يعلم أن لا أحد هنا يعطيك شيئاً بلا مقابل. لقد خلق البسطاء بأنفسهم عملة أخرى للتداول ويقضون بها حاجاتهم.. هات امرأة.. وخذ ما تشاء!
تمتمت بذهول:
- أحق ما تقول؟
أجاب:
- إنه ما يحدث الآن في أكثر من مدينة.. وفي العاصمة بالذات.. حيث يمكن لأي فتاة تمرّ بمكتب ما في الحزب أن تحصل على شقة أو خدمة أخرى.. والجميع يعرف العنوان طبعاً، ويعرف اسم من يوزّع الشقق والخدمات على النساء والشعارات على الشعب بالتساوي.. يكفي أن ترى منظر الفتيات اللاتي يدخلن هناك لتفهم كل شيء..
سألته:
- ومن أدراك بها؟
قال متذمراً:
- من؟ لقد سمعته بأذني وشاهدته بعيني يوم ذهبت هناك منذ بضعة أشهر لأقابل صديقاً موظّفاً في الحزب.. عساه يساعدني في الخروج من سلك التعليم. تصور.. حتى البواب لم يكلف نفسه مشقة الحديث إليّ.. وعبثاً رحت أشرح له أنني قادم من قسنطينة لهذا الغرض. وحدهن النساء كن جديرات بالعناية هناك.. وعندما أبديت تذمّري "للأخ الفرّاش" أجابني بشيء من العصبية، و"التشناف" أن معظم الزائرات موظفات في الاتحادات الحزبية.. أو مناضلات. وكدت أسأله وأنا أرى إحداهن تمر أمامي "بأي "عضو" ناضلن على التحديد..؟" ولكنني سكتّ.
إيه.. يا ولدي روح.. كل شي أصبح يمر بالنساء اليوم. بالسهرات.. المجالس الخاصة. ولذا لو كنت أملك الخيار لزوّجت ابنتي من واحد يمكنه بهاتف أن يأتيها بكل شيء. على أن أعطيها لواحد مثلي يعيش معها في البؤس كما أعيش أنا.. أو يدخل في هذه الحلقة القذرة.. ويبعثها تدقّ على مئة باب؟
ربما لاحظ وقتها آثار الصدمة المدهشة على ملامحي.. وتلك المرارة التي أسكتتني من الهول، عندما أضاف وكأنه يستدرك ليخفف من خيبتي:
- على كل حال.. لن يحدث هذا. حتى لو عرضت ابنتي على (سي....) فمن المؤكد أنه لن يقبل بها. إنهم لا يتزوجون إلا من بعضهم. ففلان لا يريد إلا بنت فلان، حتى "يبقى زيتنا في دقيقنا.!" ويضمنوا لأنفسهم التنقل من كرسي سلطة إلى آخر، فكيف تريد في هذا الجو أن يستطيع شابٌّ بسيط أن يبني حياته؟ كل البنات يبحثن عن المسؤولين والمديرين والرجال الجاهزين.. وهؤلاء يعرفون ذلك فيزيدون من شروطهم كل مرة.. بينما عدد العوانس يزيد كل يوم.. إنه قانون العرض والطلب.
إذا رأيت الأمور بهذه العين، فإنك حتماً تعذر سي الشريف. المهم أن يستر بنت أخيه، ويضمن لها ولنفسه مستقبلاً سعيداً قدر الإمكان.
أما كون العريس سارقاً وناهباً لأملاك الدولة.. فماذا تريد أن تفعل؟ كلهم سرّاق ومحتالون. هنالك من انفضحت أموره، وهنالك من عرف كيف يحافظ على مظهر محترم.. فقط!
أصبت بذهول وأنا أستمع إليه.
كدت أقول له إنه في النهاية على حق. وربما كان سي الشريف أيضاً على حقّ.. لا أدري.
ولكن كان هناك شيء ما في هذا الزواج، يرفض أن يدخل عقلي وأقتنع به.
================================