وهو يرى أن السلوكيين، إلى جانب قيامهم بوضع نظريات على أسس واهية جداً من الحقيقة، فإنهم يقدّمون نظريات تناقض خبراتنا المباشرة. إنهم ينكرون الحقائق الواضحة، ينكرون أننا نستطيع تشكيل صورة بصرية أو سمعية وما إليها في عقولنا. إن أولئك الذين يمتلكون من بيننا قدرة عظيمة على تكوين الصور البصرية العقلية، أو الذين يستمتعون بالإصغاء العقلي للأعمال الموسيقية المحببة لديهم، يعلمون أن هذه المقالة لا تنطوي على أي جانب من الصحة. حقاً إن النظرية السلوكية عندما يجري تطبيقها على العمليات العقلية البسيطة جداً، تبدو قاصرة إلى درجة تصبح معها غير ذات قيمة!
وبخصوص نظرية التحليل النفسي يعرض سوليفان للعديد من المحاولات التي انشقت
عن فرويد، ويشير بسخرية إلى أن عدد هذه المحاولات من الكثرة بحيث ينافس المسيحية في طوائفها، وكل طائفة من طوائف التحليل النفسي تدعي لنفسها، مثل طوائف المسيحية، نظرة شاملة وواقعية، وتشير إلى قائمة مؤتمرة من العلاقات الروحية والجسمانية لإثبات كفاية تعاليمها وصلاحيتها.. إن أي شكل من أشكال التحليل النفسي لا يمكن اعتباره في وضع مرض كعلم. ولا يمكنه اللجوء إلى النتائج من أجل إثبات النظرية؛ لأن هذه النتائج، أي العلاجات التي يقدمها
(التحليل النفسي)، يمكن بنفس الدرجة تقريباً الحصول عليها من خلال نظريات مختلفة كلية. لذلك لا يمكن الحكم على هذه النظريات من خلال النتائج. ويتبع ذلك أن هذه النظريات يمكن فقط الحكم عليها بالاستناد إلى احتمالاتها الأولية. وهنا نواجه صعوبة تتمثل في أن كل أشكال التحليل النفسي تظهر محتملة بدرجات متساوية تقريباً. وربما وجب التفريق لمصلحة تلك النظريات التي تأخذ بفكرة اللا شعور، وذلك في مقابل تلك التي تنبذ هذه الفكرة. إن مفهوم اللا شعور مفهوم مهم بالتأكيد، لكنه وُجد قبل التحليل بوقت طويل. وهكذا فإن كون التحليل النفسي قد أدخل شيئاً جديداً هو موضع جدل ونقاش.
والنتيجة التي ينتهي إليها (سوليفان) أنه ليس في نظريات علم النفس كافة شيء من شأنه أن يغيّر جدياً في قناعتنا بأن هذا العلم لا يمكن اعتباره علماً حتى الآن. وللمعارف الأخرى أيضاً مثل علم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك، بعض النواحي التي لا تعتبر مرضية من وجهة النظر العلمية. والعلم هو أقوى ما يكون عليه عندما يتناول العالم المادي. أما مقولاته في المواضيع الأخرى فتعتبر نسبياً ضعيفة ومتلجلجة!
وهي نفس النتيجة التي ينتهي إليها الكسيس كاريل في (الإنسان ذلك المجهول) .. إن السيطرة على عينة من العالم المادي لغرض فهمها ممكنة إلى حد ما، أما السيطرة على عينة يدخل فيها الإنسان، والعقل، والحياة، طرفاً، فتكاد تكون مستحيلة. ومن قبل سُئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الروح: معجزة الإنسان، وسرّ العقل، ومفتاح الحياة، فأجاب القرآن الكريم عنه: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). [الاسراء:85]. وهكذا نرى كيف تتساقط رموز العلمانية الملحدة التي تتنكر لله .. والإيمان .. وها هو ذا جان بول سارتر ، زعيم الوجودية الإلحادية، ينتهي إلى المصير نفسه .. على يده هو وباختياره هذه المرة. إنه يقول فيما ترجمه الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " المحاورة الأخيرة بين سارتر ودي بوفوار" ونشرته مجلة الدوحة القطرية في مايو 1982 م: "أنا لا أشعر بأني مجرد ذرّة غبار ظهرت في هذا الكون، وإنما أنا كائن حساس تم التحضير لظهوره، وأُحسن تكوينه، أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إلاّ من خالق" !
ثم ها هو ذا الدكتور أحمد أبو زيد يذكر في مقال له بعنوان: "هل مات دارون حقاً؟"
( نشرته مجلة العربي في تموز 1982 م ) كيف أنه صدر في إنكلترا من شهور قليلة وفي أواخر عام 1981 م كتاب يحمل عنواناً طريفاً هو " التطور من الفضاء : (Evolution From Space) قام بتأليفه عالم الفلك الشهير (سير فريد هويل) وعاونه في ذلك أستاذ هندي يدرّس في جامعة كارديف. ويعترف الأستاذان بصراحة في ذلك الكتاب بأنهما ملحدان، ولا ينتميان لأي دين أو عقيدة، وأنهما يعالجان أمور الفضاء وحركات الكواكب بأسلوب علمي بحت، ومن زاوية عقلانية خالصة لا تحفل ولا تتأثر بأي موقف ديني. ويدور الكتاب حول مسألة احتمال وجود حياة على الكواكب الأخرى، ويتناول بالبحث الدقيق الفكرة التي سادت في بعض الكتابات التطورية عن ظهور الحياة تلقائياً من الأوحال الأولى نتيجة لبعض الظروف والتغيرات البيئية. ومع أن هنالك نظريات معارضة لهذا الاتجاه، وهي نظريات ترى أن احتمال ظهور الحياة من هذه الأوحال أو الطين الأولى لا تزيد عن(1 : 10 : 40.000) أي واحد إلى عشرة أمامها أربعون ألف صفر. مما يعني أنه لا تكاد توجد فرصة لظهور الحياة عن طريق التوالد التلقائي من هذا الطين، وبالتالي فإن الحياة لا يمكن أن تكون نشأت عن طريق الصدفة البحتة، وأنه لابد من وجود عقل مدبّر يفكر ويبدّل لهدف معين. وعلى الرغم من اعتراف المؤلفين الصريح ـ كما قلنا ـ بإلحادهما، فإنهما لا يجدان أمامهما مفراً من أن يكتبا الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان " الله ـ God ".
ولابدّ من الإشارة ها هنا إلى أن المعرفة الإنسانية سواء في ميدان علم النفس أو
الاجتماع ، أو حتى العلوم الصرفة وبخاصة علوم الطبيعة والحياة، عادت عبر العقدين الأخيرين لكي تتصالح مع الإيمان، وهذا يعني بالضرورة تصالحها مع الثوابت والمرتكزات التي تحترم إنسانية الإنسان، وتميّزه، وتفرّده على العالمين.
إن هذا التصالح أو الوفاق لم يؤثر البتة على حرية العالم في الكشف، بل على العكس إنه يجيء بمثابة دفع وتحفيز للمزيد من الكشف عن الحقائق والنواميس التي لن تكون في نهاية الأمر إلاّ تأكيداً لقصديّة الخلق، وإحكام البناء الكوني، وإبداعية الله سبحانه.
لنقف بعض الوقت عند كتاب "العلم في منظوره الجديد" لـ(روبرت أغروس) و(جورج ستانسيو) والذي نُشر في العدد (134) من سلسلة عالم المعرفة في شباط 1989 م. مترجم الكتاب الدكتور كمال خلايلي يلخص فصوله الخصبة بالحديث عن الظروف التي نشأت في ظلها النظرة العلمية القديمة التي تطورت في العصور اللاحقة إلى مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي، ولا يعترف في تفسيره لمختلف الظواهر إلاّ بنوعين هما العلل، وهما الضرورة والصدفة.
إزاء هذه النظرة المادية برزت إلى الوجود في مطلع القرن العشرين نظرة علمية
منافسة، كان من ألمع روّادها آباء الفيزياء الحديثة كـ(آينشتاين) و(هاينزنبرغ) و(بور) وكثيرين غيرهم ممن استحدثوا مفاهيم جديدة كل الجدة أطاحت بالمفاهيم والنظريات الفيزيائية السابقة التي كانت رائجة منذ عصر أرسطو وحتى أواخر القرن التاسع عشر. فقد أثبت آينشتاين مثلاً نسبية الزمان والمكان، بل الحركة. وبيّن الفيزيائي الدانماركي (نيلز بور) أن الذرة ليست أصغر جسيم يمكن تصوّره، كما كان نيوتن يظن، بل إنها هي الأخرى مكونة من نواة يحيط بها عدد لا حصر له من الإلكترونيات. وأجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا على أن الكون بما يحويه من ملايين المجرات ومليارات النجوم والكواكب قد بدأ في لحظة محددة من الزمن يرجع تاريخها إلى ما بين (10 و 20) مليار سنة، فثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المادة ليست أزلية وأن للنجوم آجالاً محددة تولد وتموت كالآدميين، وأن الكون المادي نفسه في تطور وتمدّد مستمرين، بل إن من بين الفيزيائيين الفلكيين المعاصرين من قادته نتائج أبحاثه إلى القول: إن الكون كان مهيأً منذ الانفجار العظيم لتطور مخلوقات عاقلة فيه، وأن الإنسان في مركز الغاية من إبداعه، فرأوا في ذلك كله، وفي الجمال المنتشر في الطبيعة على جميع المستويات، هدفاً وخطة مرسومة، فآمنوا بعقل أزلي الوجود، منتصب وراء هذا الكون، واسع الأرجاء، يديره ويرعى شؤونه.
ثم أعقب هذا الجيل من الفيزيائيين والفلكيين جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب وجراحة الدماغ، من أمثال (شرنغتون) و(أكلس) و(سبري) و(بنفيلد) وقفوا حياتهم كلها على دراسة جسم الإنسان، فانتهت بهم أبحاثهم إلى الإقرار بأن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين: جسد فانٍ وروح لا يعتريها الفناء، وبأن الإدراك الحسّي -وإن كان يتوقف على عمليات فيزيائية وكيميائية- ليس شيئاً مادياً بحدّ ذاته، وخلصوا كذلك إلى ما يفيد بأن العقل والدماغ شيئان مختلفان تمام الاختلاف، وأن الإرادة والأفكار ليستا من صنع المادة، ولا من إفرازاتها، بل هي على العكس من ذلك تؤثر تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاءه في المذهب السلوكي قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، فظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي قوة ثالثة عُرفت فيما بعد باسم "علم النفس الإنساني". ومن أبرز رواد هذه المدرسة (فرانكل) و(ماسلو) و(ماي) الذين يعترفون بأولية العقل وبعدم قابلية حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة، وبكون الإنسان قوة واعية تملك حرية التصرّف والاختيار، ويرفضون من ثم تفسير السلوك البشري كله بلغة الدوافع والغرائز والضرورات البيولوجيّة وردود الفعل الآلية، ويؤمنون عوضاً عن ذلك بما يسمى القيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والنفسية والفكرية.
لا بأس ـ أخيراً ـ أن نقرأ معاً بعض مقاطع الفصل الرابع من الكتاب المذكور، والذي يحمل عنوان "الله": "يبدو أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية (جوزف سلك) "فإن بداية الزمن أمر لا مناص منه". كما يخلص الفلكي (روبرت جاسترو) إلى أن "سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة".
" فهل من إله في كون كهذا ؟ الفيزيائي (إدموند ويتكر) يعتقد ذلك فهو يقول: "ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميّز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم". وينتهي الفيزيائي (إدوارد ميلن) بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة "أما العلّة الأولى للكون في سياق التمدّد فأمر إضافتها متروك للقارئ. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله".
"أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعه ـ بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان ـ حدث وقع في وقت واحد، وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام؛ لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن. فالعدم لا ينتج عنه إلاّ العدم. والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام؛ لأنه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل (12 إلى 20) مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل، فإذا كان العقل هو الشيء الذي وُجد دائماً فلابد أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وأزلي خلق كل الأشياء، وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة (الله).. ".
إن هذا الخط الجديد من العلماء، وبموازاته حشد من فلاسفة العلم من مثل (الفرد نورث) و(ايتهيد وسوليفان) وغيرهم ، أبحروا باتجاه معاكس لمعطيات القرن التاسع عشر، قرن الفصام النكد الذي أقامته الكنيسة والإلحاد بين العلم والدين، ودعوا إلى احترام القيم الإنسانية ليس في ذاتها فحسب، بل لكونها تمثل عوامل تسريع في الكشف العلمي والتحام أكثر حميمية بالعالم والطبيعة والكون.
____________
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا