الغرب والإسلام
جغرافية واحدة لا تعرف القسمة (58)
هذه الحلقة الأخيرة من حلقات قراءة في كتاب بيير روسي "مدينة إيزيس وطن العرب الخقيقي"، والحلقة التالية ستكون الأولى من بحثي عن عدم صحة خرافة الشعوب واللغات السامية، ودحض كذبة العبرانيون واللغة العبرية..

جغرافية وطننا ليس العربي فقط بل الإسلامي، كانت تاريخياً وحدة جغرافية مترابطة ومتماسكة ومشتركة عقيدياً وثقافياً ولغوياً وحضارياً ولم تكن تعرف القسمة قبل أن يقسمها الغرب ويسرق كل عطاءها الحضاري وينسبه لنفسه ويجعل من الإغريق بعد أن يفصلهم عن أصولهم العربية أساتذة العالم:
"هذه القوميات المسماة خدعة (بالساميات) والتي هي في الحقيقة عربية ... كيف نظمت سياسياً في المنطقة؟ إننا، لكي نتجنب الخطأ التقليدي الذي يحطم مساحتها الجغرافية، ليدرسها أقساماً منفصلة بينما هي عنصر جسم واحد، عناصر تحيا حياة واحدة ... إن هذه الأرض الشرقية قد عاشت من خلال إيقاع وحيد النغمة لخمس إمبراطوريات: مصرية، بابلية، ورومانية، وبيزنطية وخليفية. إننا سنرى كل واحدة من هذه الإمبراطوريات تنتضد لصالح التالية دون أن تتكيف معها أو تتغير فيها البنى الاجتماعية أو الثقافية، بحيث أنه منذ حكم أول فرعون في الألف الخامس قبل الميلاد حتى سقوط آخر خلافة مروراً بالاسكندر ... كان الأمر استمراراً لا انقطاع فيه قد تكز في الشرق، استمراراً للقوى، استمراراً للفكر، واستمراراً للاقتصاد ... إن الإمبراطوريات الأربعة الشرقية لم تكن لتقتصر على الحكم بين ليبيا والبحر الهندي، بين جسر أوكسن والصومال، لقد مدت نفوذها منذ وقت مبكر تاريخياً على أرض اليونان القارية المشمسة، على صقلية وإيطاليا الغربية قبل أن تبلغ مضيق جبل طارق. ولأن فلسطين وبحر إيجة قد كانا مفتاحي المجموع، كانت البحار الخمسة: المتوسط، والبحر الأسود، والبحر الأحمر، والخليج (الفارسي) والمحيط الهندي البحار الأمهات. أما دجلة والفرات والنيل والرون والدانوب فكانت طرق الشتات... ولقد تشكلت حضارتنا عبر العصور في مثلت يشمل البوسفور والنيل وسوس، عاصمة عيلام، وكانت شعوبها الشعوب المصرية والكنعانية والأناضولية والسورية والبابلية تنتمي للأسرة العربية".
ويشهد على تلك الوحدة في جميع المجالات القطع الأثرية التي تم العثور عليها في كل تلك الجغرافيا الشاسعة: "إن اللقى المكتشفة في كركميش، نقطة تقاطع التأثيرات المصرية ـ المتوسطية والتيارات الهندية البابلية، تتشابه تشابهاً دقيقاً مع اللقى التي عُثر عليها في غزة، وتيماء والحجاز، ومأرب والبحرين، فالسبب إذاً مفهوم في استحالة التمييز بين عدة ثقافات، أو بالأحرى التفتيش عن توزيع جغرافي، لشعوب اسمها موضوع ضمان ... وأن الحضارة الكريتية والقبرصية كانت من وحي مصري ـ كنعاني، وأن ازدهار فينيقيا قد بلغ أوجه في القرن السابع والخامس عشر قبل الميلاد. بينما أسطول صيدا يتحرر من سلطة الفراعنة. إن (اليونان) التاريخية كما تظهر لنا في ضوء أدبها، تولدت مع الفرعون بشماتيك الذي فتح في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، موانئه للبحارة الهيلينيين".
في ذلك الزمن لم يكن سكان تلك الأراضي الشاسعة تلقي بالاً لمن يحكمهم لأن حكمه لن يغير من واقعهم الحياتي من الإله للقانون للغة ... شيء فالجميع متجانس وسواء في ذلك، ويضرب مثالاً بحكم قورش: "وإذا كان قورش وعائلته قد مدوا بسهولة سلطاتهم الملكية على أراضي واسعة، فإن ذلك يبرهن مرة أخرى، كم كان التنظيم الديني، والقانوني، والاجتماعي متجانساً في كل مكان. بحيث أن الشعوب لم تحس أبداً ببدء أسرة جديدة، كحكم غير محتمل في تدخله في شؤونهم. فلتأتهم الأوامر الحكومية من ممفيس أو صور أو بيرسيبوليس، لقد كانوا يعبرون عما في نفوسهم باللغة نفسها، ويعبدون الآلهة نفسها، ويحكمهم موظفون من المقاطعات نفسها".
لذلك يرفض التقسيم الغربي التوراتي للأجناس التي فرقت وحدة العرق لدى أقطار وطننا: "ولا شيء يجبرنا على أن نجعل من الفلسطينيين شعوباً مختلفة من الوجهة القومية عن شعوب مصر أو ميتاني، فهل هم حقاً غرباء إلى هذا الحد؟ وهل هناك فرق صوتي بين (فينيقيين) و (فلسطينيين)؟ ألسنا نحن هنا أيضاً الضحايا الراضين بأفكارنا لمسبقة التوراتية؟". ويلفت الانتباه إلى أنه لا يوجد عرق نقي تماماً وأن كذبة النقاء العرقي ليست تاريخية لكنها حديثة مع حداثة الغرب وتبني الأسطورة التوراتية عن نقاء عرق اليهود: "ولنعترف أن أفكار (النقاء) العرقية قد ولدت في أوروبا مع عصر الأنوار، وعن الادعاء العنصري الذي كان يؤكد أنه عالمي، وكان في الوقت نفسه يحفر حدوداً قاتلة بين الأعراق والديانات المختلفة".
"إن الحدود المرسومة عسكرياً أو سياسياً حسب مقتضيات آراء الأساتذة أو علماء الآثار لا يتجاوز بالضرورة قلوب الناس. وإننا نؤكد من خلال نظرة شاملة، أن الشرق يتعين من خلال ثقافة عربية في مساحة عربية، فإننا لا نخترع شيئاً؛ إننا لا نفعل شيئاً جديداً سوى إحكام العناصر الجغرافية والثقافية الموطدة الواحدة إلى الأخرى، تلك العناصر الموطدة والمغرقة الآن بإرادة تحليل زائد عن الحد. تلك الإرادة نفسها هي المسئولة الأولى عن نفي عالمنا الحقيقي".
حقيقة الكتاب زاخر جداً بالمعلومات القيمة والمهمة حول تاريخ أوروبا العربي وفضلهم على الغرب والعالم وليس ما يزعمه الغرب من فضل لا أساس له ولا دليل عليه على الشرق، ونختر فقرة ختامية نختتم بها قراءتنا للكتاب يؤكد فيها قلة عطاء الغرب الحضاري مقارنة مع العطاء العربي، حيث يقول: "لو وضعنا الشرف والغرب في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، في كفتي ميزان فإن علينا أن نظهر كفة الغرب فارغة تقريباً؛ هذا الغرب الذي تحمله كتلة الكفة الشرقية الساحقة. فلم تكن الرومانية مطوقة من جميع جهاتها بالفتح الآرامي فحسب ولكنها كانت هي نفسها مشربة بالتقاليد العربية الآسيوية بتأثير اينياس جدها المؤسس، وتأثير الديانة والعقلية الأوتروسكية، والحضور الإغريقي – الفلسطيني في كامبانيا وصقلية والبروفنس، وبالتأثير القرطاجي الذي ينفذ حتى الأعمال بدءً من الضفاف التونسية والجزائرية والليبية. فماذا يمكن أن يكون وزن روما في مثل هذا النفوذ؟ لا شيء يذكر، أي مثل تأثير أثينا أما داريوس".