الغرب وإثارة النعرات الجاهلية (49)
مصطفى إنشاصيلأن فلسطين هي نقطة الارتكاز في التحالف الذي جرى قبل مائة عام بين المشروع اليهودي – الغربي لم يكتفِ بفصلها عن جسد الأمة والوطن وزرع اليهود فيها، ولكنه سعى أيضاً جهده إلى تجريدها من بُعدها العربي وعمقها الإسلامي، والعالمي، من خلال تسميتها (قضية الشرق الأوسط)، وذلك لتزييف حقيقة وطبيعة الصراع الجاري منذ عقود على أرض فلسطين. فقد غدى المصطلح الدارج في الخطابات الرسمية بين الدول، وفي وسائل الإعلام المحلي والعالمي عند ذكر قضية الأمة المركزية – فلسطين - هو (قضية الشرق الأوسط)! فهل هذا المصطلح يُعبر حقيقة عن مضمون وأبعاد الصراع الذي تمثل فلسطين قلبه وميدانه الرئيس ومركزيته؟!
قضية الأمة لا قضية (الشرق الأوسط)
جاء في موسوعة السياسة تحت هذا المصطلح: أنه "مصطلح غربي (استعماري) كثر استخدامه إبان الحرب العالمية الثانية، وهو يشمل منطقة جغرافية تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق والخليج العربي ومصر وتركيا وإيران وتتسع لتشمل أفغانستان وقبرص وليبيا أحيانا.. كما أن للمصطلح دلالة على مركزية أوروبا في العالم وهو (شرق أوسط) لموقعها الجغرافي".كما يحاول أعداء الأمة والوطن الاستفادة من تعدد الأعراق التي تنتمي لها الشعوب التي يشملها مصطلح (الشرق الأوسط) جغرافياً، للفصل بين تلك الشعوب وقضية (الشرق الأوسط)، التي هي في الأصل قضيتهم المركزية. يقول أبا إيبان: "من الحيوي أن نذكر أن (الشرق الأوسط) والعالم العربي ليس شيئين متساويين أو متطابقين. و(الشرق الأوسط) يسكنه حوالي 60 مليون عربي إذا أخذنا اللغة كأساس و75 مليوناً من غير العرب. وهناك (شرق أوسط) غير عربي يمتد من تركيا وإيران عبر (إسرائيل) إلى أثيوبيا، وإذا وسعنا المنطقة لتشمل أفغانستان وباكستان، فإن ذلك سوف يزيد من وضوح صفة اللا عرب الغالبة على المنطقة ... إن (الشرق الأوسط) لم يكن في الماضي ولا في الحاضر ولا يمكن أن يكون في المستقبل ملكاً خالصاً للعرب".يقول أحد المختصين اليهود بالشؤون العربية: "(الشرق الأوسط) ليس سوى موزاييك شعوب وثقافات وأنظمة تحكم شعوباً ومجموعات غير راضية. إذا استطاعت (إسرائيل) الاتصال بهذه المجموعات كافة، المعادية للعروبة والإسلامية، فإنها ستتمكن من تفتيت العالم الإسلامي قطعاً".إذن مصطلح (الشرق الأوسط) مصطلح دخيل وغريب عن تاريخ الأمة والوطن، ولا يعبر عن حقيقة الترابط والنسيج العقائدي والعرقي والاجتماعي والسياسي للمنطقة التي يطلق عليها ذلك المصطلح، وأيا كانت حدود المنطقة التي فرض عليها الغرب مصطلح (الشرق الأوسط)؛ التي تتفاوت حدودها الجغرافية ضيقاً واتساعاً في المفاهيم والمناظير الغربية، بتفاوت مصالح الغرب في وطننا، التي تحكمها ظروف كل مرحلة من مراحل صراعه مع أمتنا للسيطرة والهيمنة على ثرواتنا، وتدمير مقومات قوتنا، ودفاعاتنا، التي نستمدها من عقيدتنا وديننا وتاريخنا. فإن مصطلح (الشرق الأوسط) يقصد به في المفاهيم الغربية وطننا الإسلامي، الذي يشكل فيه الجزء العربي المركز والثقل، ويبقى سكانه العرب هم مادة الإسلام وحملته الأوائل، وبهم يصلح حال الأمة أو يفسد. وبلادهم هي مخزون العالم الإستراتيجي، من الثروات المختلفة، وعلى رأسها البترول والغاز الطبيعي، وهي حلقة الوصل بين قارات العالم القديم، وذات الموقع الجغرافي والإستراتيجي المتقدم، الذي يسيطر على كل شرايين المواصلات العالمية البرية والجوية والبحرية في العالم، هذا الوطن الذي من أجل تفتيته إلى وحدات متعددة ومتنافرة، وفصل شقه الشرقي عن شقه الغربي، تم التحالف بين المشروع اليهودي الصهيوني والمشروع الغربي الصليبي بدايات القرن الماضي، والاتفاق بينهما على زرع كيان العدو الصهيوني في قلب الأمة والوطن، فلسطين.أما مصطلح قضية (الشرق الأوسط)؛ فقد جاء تحت هذا المصطلح في موسوعة السياسة: أنه "ترجمة تعبير غربي يرتبط بتعبير آخر هو (أزمة الشرق الأوسط) يقصد من استخدامه تمويه حقيقة الصراع في المنطقة العربية من جهة، وإجمال عدة مسائل متشابكة في وسائل متشابكة في تعبير واحد من جهة أخرى، فاستخدام تعبير (الشرق الأوسط) يرمي إلى نفي الطابع العربي عن المنطقة، وكلمة قضية في هذا المجال تشير إلى: أ) القضية الفلسطينية.ب) الصراع العربي- الصهيوني.ت) وجود (إسرائيل) والنتائج المترتبة على هذا الوجود والحروب التي سببتها.ث) العامل الدولي.ج) التسويات المطروحة.وتستخدم هذا المصطلح وزارت الخارجية ووكالات الأنباء في الغرب.بناءً على ما تقدم فإن مصطلح (الشرق الأوسط) المقصود به الوطن الإسلامي، وقضية أو (أزمة الشرق الأوسط) المقصود بها فلسطين، وإن استخدام هذه المصطلحات له أهداف وأبعاد خطيرة على حاضر ومستقبل الأمة والوطن، فمصطلح (الشرق الأوسط) يهدف إلى تجريد الوطن من هويته وانتمائه العربي والإسلامي. ومصطلح قضية (الشرق الأوسط) يهدف إلى تجريد قضية الأمة المركزية من هويتها وبعدها العربي والإسلامي، في محاولة لعزل الجماهير الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي.فلسطين سايكس – بيكو، الانتدابية، لا التاريخية!
في العقود الأخيرة خاصة بعد توقيع اتفاق أوسلو كثر استخدام مصطلح (فلسطين تاريخياً)، والبعض يبرر استخدامه مصطلح (فلسطين التاريخية) من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية في حدود تلك الحدود وإبطال مزاعم الرواية الصهيونية! برأي أن ذلك يخدم الرواية الصهيونية ولا يضعفها، ويضيفِ عليها شرعية تاريخية ويضعف الرواية الفلسطينية، ويفصل فلسطين جغرافياً وتاريخياً وعرقياً ودينياً وثقافياً عن عمقها ومحيطها التاريخي العربي قديماً، واﻹسلامي حالياً، ويختزلها من قضية أمة إلى قضية شعب.مصطلح فلسطين تاريخياً كان يطلق على إقليم إداري وليس على أرض ومساحة جغرافية لشعب بعينه، وقد المؤرخ الإغريقي هيرودوت في كتابه "التاريخ" كأحد أقاليم الدولة الفارسية، ويطلق على المنطقة من جنوب دمشق إلى صحراء سيناء، وبقيت مساحة فلسطين كإقليم إداري تضيق وتتسع جغرافياً من فترة ﻷخرى، ومن إمبراطورية لأخرى! كما أن هيرودوت أول من أطلقه على جنوب فلسطين الحالية من يافا إلى غزة نسبة إلى قبيلة أو قبائل بلست التي سكنت ذلك الجزء بعد عودتها إلى موطنها الأصلي الذي هاجرت منه إلى جزيرة كريت فبل قرون طويلة، مع يُرف باسم غزوات قبائل البحر. أما مصطلح (فلسطين التاريخية) الذي يستعمله كثير من الكتاب فهو مصطلح حديث مصطنع يحمل مضامين دينية ومزاعم تاريخية كاذبة مزورة ويخدم أهداف معادية للأمة والوطن، لأنه يشير إلى فلسطين التي رسمت حدودها اتفاقية (سايكس – بيكو) عام 1916، أو فلسطين (الانتدابية) نسبة إلى قرار عصبة الأمم عام 1922 الذي وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. واستخدامه يضفي شرعية عالمية على صحة مزاعم العدو الصهيوني ومطالبه، بأنها تعني:(فلسطين التوراتية)، (أرض الميعاد)، (الأرض الموعودة) لليهود، (وطن اليهود التاريخي)، حدود دولتهم (اليهودية التاريخية) المزعومة، دولة داود وسليمان عليهما السلام، التي يزعمون أنها أول دولة أنشئت في فلسطين وعمرتها وأنشأت فيها أول حضارة في العالم أعطت وعلمت العالم القيم الحضارة والأخلاق اﻹنسانية!وقد اشترط نتنياهو على السلطة عام 2009 - 2010 للعودة لطاولة المفاوضان أن يعترف الفلسطينيين بـ(العلاقة التاريخية) بين (الشعب اليهودي) و(أرضه التاريخية). أي فلسطين سايكس – بيكو!كما أن أكثر رؤساء وزراء العدو الصهيوني زعموا في لقاءات إعلامية متنوعة أن فلسطين والقدس الموحدة عاصمة دولتهم التاريخية منذ إنشاءها قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وهم يقيمون فيها ولم تنقطع صلتهم بها.يعني أنك توافق على قانون القومية اليهودية، أي (دولة يهودية) لا تقبل بغير اليهود داخل حدودها، يعنى من حقها أن تُرحيل كل الفلسطينيين للحفاظ على نقاءها العرقي كما أمرت التوراة.المصطلح ليس فقط يضفي شرعية على المزاعم الصهيونية بل ويعتبر اختراق للعقل الفلسطيني والعربي والمسلم.هل كان هذا الجزء المعروف اليوم باسم فلسطين يوماً جزءً مستقلاً أو منفصلاً جغرافياً أو تاريخياً أو ثقافياً أو حضارياً أو عرقياً عن محيطه الجغرافي والسكاني؟ أم أنه كان جزءً من وحدة كلية تجمع دول المنطقة العربية كلها؟ ما أحوجنا في هذا العصر الذي تفرق فيه (الشعب العربي) ذي الأصل العرقي الواحد إلى قبائل وشعوب، وتمزق وتشتت الوطن الواحد إلى أوطان وكيانات فسيفسائية، أُنشئت على أسس وتقسيمات ونعرات إقليمية؛ من صنع مستشرقي وعلماء الآثار الغربيين من اليهود والنصارى الذين كانوا يضعون المخططات اليهودية - الصليبية لتمزيق الأمة والوطن كأحد أهم أهداف وغايات عمليات تنقيبهم ودراساتهم عن آثار القبائل العربية التي عمرت وسكنت الوطن العربي.سنحاول كتابة تاريخ فلسطين كوحدة متصلة بالهلال الخصيب الذي هو جزء من الجزيرة العربية...