الغرب والإسلام
القدس مركز الهجمة والأقصى قلبها (41)
مصطفى إنشاصي
نواصل حديثنا عن البُعد الإسلامي في الصراع لارتباطه بتنازل (خلع) السلطان عبد الحميد عن الحكم كان خلعاً لفلسطين وانتزاعاً لها نزعاً من قلب الأمة والوطن، كما أنه كان انتزاعاً لروح الأمة والقضاء على نظامها السياسي (إلغاء الخلافة)، وأعقب انتهاء شهر العسل بين القوميين العرب والقوميين الأتراك الذين استغلوهم مرحلياً في التآمر على السلطان عبد الحميد الصراع القومي الذي خططت له بريطانيا، وذلك بأن حققت بريطانيا ما اقترحه لورانس في أحد تقاريره السرية لمرؤوسيه للقضاء على الخلافة: إيجاد خليفة عربي يتصارع مع الخليفة التركي.
وقد كانت البداية الفعلية لتنفيذ المؤامرة الغربية - اليهودية لتجريد الصراع من بعده الديني في الجانب العربي والإسلامي واستبعاد الإسلام عن ميدان المواجهة والمعركة في إغراء شريف مكة (حسين بن علي) بالثورة على الدولة العثمانية التي تمثلت في ما يسمى الثورة العربية الكبرى وخروجها على الدولة العثمانية على أساس قومي عرقي. وقد أجمع الغرب على التنكر لوعده للعرب أثناء الحرب العالمية الأولى بتحقيق الاستقلال لهم عن الدولة العثماني، وارتكب أبشع جريمة في التاريخ الإنساني، وجريمة إخراج شعب من وطنه، وتشريده، وإعطائه لعصابات إجرامية لا تستحقه. هذا الإجماع الغربي الصليبي بين جميع الطوائف والمذاهب الدينية والسياسية النصرانية على عمق خلافاتها وصراعاتها، دفع باحثاً ومفكراً يهودياً صهيونياً إلى وصف "وعد بلفور"، الذي كان أول ثمرات هذا التحالف، وصفاً بالغ الدقة، فقال: "لقد كان (وعد بلفور)، بمعنى بالغ العمق، وثيقة (مسيحية) أو لنقل قول العابر المتعجل. (وثيقة البروتستانتية)".
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت تقوية الاتجاهات القومية والوطنية في وطننا كلما ضعف الحضور الإسلامي للقضية، وهكذا بدأت عملية تغييب مدروسة للبُعد الإسلامي للقضية في الأنظمة القومية العربية التي حكمت أقطار وطننا، وفي توجهات وسياسات جامعة الدول العربية التي تم تأسيسها بموافقة بريطانية عام 1945، لتكون بديلاً عن الجامعة الإسلامية التي كانت لازال هناك كثير من الشخصيات الفكرية والزعامات السياسية والقيادات الجماهيرية والشعبية تنادي بها بعد سقوط الخلافة لتجمع شتات الأمة وتوحد صفها.
اليوم انتهت الحروب الصليبية!
دخل قائد الجيش البريطاني (أللنبي) بتاريخ 11/12/1917 القدس محتلاً لها، حيث ترجل ماشياً إلى قلب المدينة "كأنه يحاول التشبه بما فعله الخليفة العادل عمر بن الخطاب منذ أكثر من ألف سنة"! وعندما أشرف أللنبي على كنيسة القيامة (المسيحية) قال قولته المشهورة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية"! وأسوأ مما قال قاله القائد الفرنسي المتعجرف غورو عند دخوله دمشق محتلً، وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي وهو واضعاً قدمه على قبره وقال: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين"! وأرسل لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا إلى أللنبي مهنئاً له إحراز النصر ومعلناً انتهاء: "الحرب الصليبية الثامنة"! وكتبت جريدة نيويورك هيلارد على صفحتها الأولى بتاريخ 11/12/1917 وهو يوم احتلال القدس بالخط العريض: بريطانيا تنقذ القدس بعد 673 عاما من المسلمين"!
لم يكن أللنبي وحده الذي دخل القدس عام 1918م؛ لكن الذي دخل يومها هو (وعد بلفور المشئوم) مؤتزراً بتحالف الصليبية والصهيونية! وتجلي ذلك التحالف بإلغاء الخلافة عام 1924م، حتى يتمكن من استئصال قلب الأمة، فلسطين، وغرس خنجره المسموم (الدولة اليهودية) فيها. لقد أكد دخول اللنبي القدس وحدة الهدف والغاية عند الغرب على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وعمق الحقد الصليبي على الإسلام، ويتجلى ذلك في موقف ألمانيا القيصرية الصديق الحميم للدولة العثمانية، زعيمة دول المحور وحليفتها في الحرب العالمية الأولى وعدوة بريطانيا زعيمة دول الحلفاء، التي لم تخف فرحتها بسقوط القدس في يد الجيش البريطاني وخروجها من يد حليفتها تركيا!
ولقد "بلغ من تجلي معنى الصليبية أن أجراس الكنائس في برلين قد دقت فرحاً عشية دخول أللنبي القدس ويقول محمد كرد على: إن الكنائس جميعها في القدس بما فيها كنائس الألمان اشتركت في إعلان الابتهاج بذلك اليوم وكان البابا في روما قد دعا أتباعه في العالم بأسره وكثيرون من الألمان والنمساويون في الدول المحاربة مع تركيا أن يقوموا تقديم الشكر لله بمناسبة احتلال القدس وحثهم على ألا يسعى أحد منهم أبدا لإعادتهم إلى تركيا".
كما يتجلى موقف ألمانيا المعادي للإسلام في موقف (أدولف هتلر)، فقد جاء في مذكرات أميل الغوري وهو نصراني غير مسلم كان سكرتير للهيئة العربية العليا لفلسطين التي كان يرأسها مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني رحمه الله، أنه أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما التقى الحاد أمين الحسيني هتلر، اقترح عليه تأليف جيش متطوع من مسلمي شمال أفريقيا للحرب إلى جانب ألمانيا، فقال هتلر: لا، أنا لا أخاف الحلفاء ولا أخاف الشيوعية ولكني أخاف من الإسلام لو انتصر وحكم!
ونعود لمواقف الفاتيكان المعادية للإسلام "وهي التي جعلت بابا الفاتيكان يلقي بثقله عام 1949م خلف الطلب الذي تقدمت به (دولة إسرائيل) لتصبح عضواً في هيئة الأمم المتحدة، وكيف أشار على الدول الكاثوليكية بأن تصورت بالموافقة على الطلب وقال: إنه مقتنع بأن (إسرائيل) ستكون وفيّة بوعدها وتعهدها بأن تكون القدس مدينة مصونة ومفتوحة لأصحاب الديانات الثلاث! وضمنت بذلك دولة العدو ثلثي الأصوات المطلوبة وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 مايو/يار 1949م قرارها بانضمام إسرائيل إلى هيئة الأمم المتحدة وبأغلبية كبيرة..."!
وأظن أن فتوى الفاتيكان عام 1965 التي تبرئ اليهود من دم المسيح لم يجف حبرها بعد وإقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة اليهودية لا تزال جديدة وساخنة وماثلة للعيان.
أما بعد الاحتلال الصهيوني للقدس عام 1967، كتب راندوف تشرشل حفيد السياسي البريطاني تشرشل الذي دفع السياسة البريطانية لإرساء دعائم الكيان اليهودي في فلسطين: "لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم (المسيحيين) واليهود على السواء، إن سرور (المسيحيين) لا يقل عن سرور اليهود، لأن القدس خرجت من أيدي المسلمين ولن تعود إلى أيدي المسلمين في أي مفاوضات مقبلة بين اليهود والمسلمين"!
أما جان بول سارتر الفيلسوف الوجودي الفرنسي الجنسية الذي لا يقيم وزناً للمعتقدات الدينية وقيمها يخرج مظاهرات في باريس قبل حرب عام 1967م لجمع التبرعات للصهاينة حاملاً لافتات كتب عليها (قاتلوا المسلمين) ورافعاً بذلك شعار اليهود في بناء حضارتهم العبرانية! وفد تبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام لتقوية الصهاينة الذين يواصلون رسالة الصليبية الغربية وهي محاربة الإسلام!
وليس أدل على وحدة العداء النصراني للمسلمين مما حدث ما قام به بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في القدس، التي لازالت تعتبر اليهود قتله المسيح عليه السلام، بحسب عقيدتهم من بيع أوقاف العرب والمسلمين في أكبر وأعرق شوارع القدس القديمة لليهود الصهاينة لاستكمال تهويد القدس وهذه الصفقة كشف عنها في مارس الماضي من هذا العام.
فالمشروع الاستعماري الصهيوني المركب وجد فرصة تحققه بعد سقوط الدولة العثمانية حيث بروز العديد من التناقضات الفعلية في المنطقة العربية. "الاستعمار يعزز الوضع الداخلي المتشرذم ويؤسسه ويمنحه فرصة التمرد والتنافر والصراع"!
صدق الشيخ "البشير الإبراهيمي": "وهل يلام العرب بعد هذا – والمسلمون من ورائهم – إذا اعتقدوا أنها حرب صليبية بعض أسلحتها اليهود وأنها ممالأة مكشوفة من الدينين الصالب والمصلوب على الإسلام. وكلمة أللنبي في القدس رنينها مجلجلاً في الآذان وصداها متجاوباً في الأذهان".