الغرب والإسلام
مخططات الهجمة الحديثة للقضاء على الإسلام (29)
مصطفى إنشاصي
لقد تركت الحملة الفرنسية آثارها الهائلة على جسد الأمة المنهمك ومازلنا نعاني منها حتى اليوم، وقد تمثلت تلك الآثار في أنها كانت حرب شاملة على الوطن على ثلاث محاور*:
الأول: الاحتلال لأراضي الوطن والعمل على إسقاط الخلافة وهو ما عُرف في تاريخ الصراع في القرن التاسع عشر باسم "المسألة الشرقية".
الثاني: التغريب وتدمير المؤسسات الإسلامية القائمة سواء كانت بقايا موروثة من أجهزة الدولة العثمانية أو جمعيات ومعاهد إسلامية أهلية.
الثالث: الاحتواء لحركات التحرر القومي، والتجزئة وإقامة (زرع) إسرائيل في قلب الوطن.
هذه المحاور التي حكمت صراعنا مع المشروع الغربي حتى اليوم ومازلنا نعاني منها لم تكن منفصلة عن بعضها أو محددة المراحل لكنها متداخلة مما يفضح ضعف ردنا الفكري والثقافي عليها، ذلك لأن السياسي ومنذ زمن بعيد احتل الموقع الأعلى ولم يعد الفكر دوراً وهذه هو جوهر المشكلة في وقتنا، وسوف نتحدث عن هذه المحاور الثلاثة من غير تحديد لمراحل زمنية:


المحور الأول: الاحتلال وإسقاط النظام السياسي الخلافة
بعد الحملة الفرنسية شاع استخدام مصطلح المسألة الشرقية للدلالة على الصراع بين الدول الأوروبية الاستعمارية والدولة الإسلامية العثمانية، وقد اشتد التنافس بين تلك الدول للسيطرة على أملاك الدولة العثمانية وقد خاضت الدولة العثمانية حروباً ضروساً على كل الجبهات العسكرية وقد كانت الجبهة الروسية منذ بدايات القرن 19 أشد تلك الجبهات وقد كان للحروب التي خاضتها الدولة العثمانية مع روسيا وأفريقيا أشد الأثر على إضعاف قدرتها على المقاومة ودفع الهجمة الغربية على وطننا، وقد توالت الخسائر منذ مطلع القرن التاسع عشر وبدأت الدولة العثمانية تفقد مواقعها في أوروبا وآسيا وإفريقيا، بدء من حرب القرم الأولى في عشرينيات القرن التاسع عشر وفقدها اليونان وغيرها من الممتلكات الأوروبية، وتحطم أسطولها في معركة نفارين عام 1827 بعد أن خاص معركة ضد تحالف ثلاثة دول هي بريطانيا وفرنسا وروسيا، وحرب القرم الثانية في خمسينات القرن نفسه، انتهاء بحرب البلقان في العقد الثاني من القرن العشرين إلى فقدانها ولاياتها الإسلامية والعربية في آسيا وإفريقيا، حيث استولت بريطانيا في القرن التاسع عشر على الهند والخليج العربي وبحر العرب وعدن ومصر والسودان وقبرص وسواحل البحر الأحمر وغيرها، واستولت فرنسا على الجزائر وتونس، وإسبانيا على المغرب، وإيطاليا على ليبيا، وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى كان الوطن الإسلامي كله تحت سيطرة الاستعمار المباشرة عسكرياً ما عدا السعودية وتركيا وإيران.


معاهدات الامتيازات الأجنبية الوجه الآخر للهجمة
للذين يجزئون أبعاد الهجمة الغربية ضد الأمة والوطن سبق القول أن معارك الغرب دائماً ذات أهداف متعددة يجمعها في النهاية هدف رئيس، وهو: تدمير الإسلام! ففي القرن التاسع عشر كان الصراع يدور بين الدول الغربية الكبرى من أجل السيطرة الاقتصادية، وقد اتخذ نظام السيطرة الغربية في القرن التاسع عشر وجه آخر غير السيطرة العسكرية، وقد سبق القول أن الحرب الصليبية ضد الأمة والوطن كانت ذات هدف مزدوج، السيطرة على طريق التجارة وإضعاف قوة الاقتصادية للأمة والوطن، وتدمير الإسلام، وفي القرن 19 كان الصراع يدور بين الدول الاستعمارية الأوروبية الكبرى من أجل السيطرة الاقتصادية، وقد كانت معاهدات الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدولة العثمانية للدول الأوروبية هي الباب الذي ولجت منه الدول (الاستعمارية) لتحقيق أغراضها في الدولة العثمانية، ومنع قيامها بتنفيذ أي إصلاحات اقتصادية واستنباط موارد مالية جديدة لمواجهة نفقات الإدارة والحكم. مع أن هذه الامتيازات لم تكن امتيازات بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها كانت "المعاهدات المتضمنة للمبادئ القانونية لإقامة المستأمنين* من رعايا الدول الأجنبية في ممتلكات الدولة العثمانية، ولممارسة نشاطهم التجاري المشروع فيها، وتقرير حق رعايا الدولة العثمانية المقيمين في أراضي تلك الدول في سريان هذه المبادئ عليهم".
لكن مع ضعف الدولة العثمانية بدأت الدول الأوروبية تتدخل في شئونها معتمدة على تفسير تلك المعاهدات تفسيراً تعسفياً يخدم مصالحها، وأصبح رعايا تلك الدول وكأنهم يشكلون دولة داخل الدولة العثمانية، وقد حاولت الدولة العثمانية إلغاء تلك الامتيازات ولكن تلك الدول لم تقبل، وقد كانت تلك الامتيازات ضربة مميتة لاستقلال الدولة الاقتصادي. وذلك دلالة على أن الدولة العثمانية في الواقع فقدت استقلالها الاقتصادي وأن الدول الاستعمارية "فرضت عليها تخفيضاً حاداً في رسومها الجمركية، وتدفقت السلع على أسواق بلادنا لتعود السفن الغربية محملة بمدخرات الأمة وبالذهب والفضة ومع نهاية القرن كانت الواردات إلى بلادنا قد تجاوزت الصادرات فانهارت الحرف والصناعات المجلية".
وقد استطاعت الدول الأوروبية في محاولة منها للتغلغل الاقتصادي في وطننا وفرض التبعية الاقتصادية على الأمة من فرض امتيازات إضافية مكنتها من إتمام سيطرتها الاقتصادية وتحقيق التبعية الاقتصادية للأمة بالغرب المحتل، فقد "منحت الحكومة العثمانية عام 1867م الأجانب حق ابتياع الممتلكات**، وكذلك قامت الامتيازات بتوفير السبل الملائمة لعبور توظيفات مالية ضخمة حالما كانت تتوفر مبالغ كافية من الرساميل الفائضة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، وكانت المصارف في الإمبراطورية العثمانية على العموم هي مصارف أجنبية … ولدى حلول الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي كانت الواردات والصادرات وامتيازات التعدين والموانئ والخطوط الحديدية والمياه والطاقة إلخ، كلها خاضعة لسيطرة أجنبية {وعجزت الدولة} عن تسيد معدل نصف من الفائدة المترتبة على الدين الأجنبي … وبعد عام 1882 تسلمت إدارة الدين العثماني لجنة خاصة عرفت باسم لجنة الدين العثماني وهي هيئة اجتمعت فيها الدول الكبرى فوضعت يدها على واردات احتكارات مغرية مثل التبغ والملح بالإضافة إلى غيرها من مصادر الدخل.
لقد سبقت السيطرة الاقتصادية السيطرة السياسية وكان التقسيم الاقتصادي للدولة العثمانية الذي تم إنجازه بين العامين 1904و1906، مقدمة للتقسيم السياسي للوطن عشية الحرب العالمية الأولى، فهذا التقسيم أرسى القواعد للاتفاقيات السرية زمن الحرب بشأن تقسيم الإمبراطورية العثمانية وبالتالي من أجل اقتسام (الشرق الأوسط) في أعقاب الحرب مع بعض التعديلات.


• المستأمنون مصطلح فقهي إسلامي يعني منح الأمن والأمان لذوي الجنسيات غير الإسلامية الذين يدخلون أراضي الدولة الإسلامية للعمل أو الزيارة الدينية أو السياحة وغيرها.
** أليس ما جرى القرن التاسع عشر هو نفسه ما يجري منذ نهايات القرن العشرين وهذا القرن من سياسات أوروبية وسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من فرض نظام الخصخصة وبيع ممتلكات القطاع العام للأجانب وتمليك غيرها من المؤسسات مثل المياه والكهرباء والمواصلات العامة، وغيرها للشركات الأجنبية، وعلى صعيد البنوك والاستثمارات وتوظيف الأموال والاشراف على مؤسسات سداد الدين. أليس ذلك وغيره تهيئة لاقتصاد وطننا لفرض نظام السوق عليه وفرض السيطرة الاستعمارية من جديد بطريقة مشروعة ومقبولة من دول المنطقة، تمهيداً لفرض النظام الدولي الجديد (الشرق أوسط الجديد) وما يتحدث في وطننا من حروب إلا جزء من اقتسام الدول الغربية لمناطق النفوذ والثروات وإعادة احتلالنا تحت مسمى الإصلاح أو محاربة ما يزعمونه (الإرهاب) أي الإسلام لمنع أي محاولة لامتلاك ثرواتنا وإعادة توحيد أمتنا والنهوض من جديد؟!