الغرب والإسلام
القضاء على الخلافة العثمانية في الآستانة (30)
مصطفى إنشاصي
لقد أدرك الغرب أن الخلافة الإسلامية هي الرابطة السياسية التي تربط بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولسانهم وتجعل منهم كياناً سياسياً واحداً على رأسه الخليفة الذي له الكلمة المسموعة في كل شؤون الحياة السياسية وغيرها. والخلافة هي الإطار الذي يحافظ على وحدة المسلمين وترابط الجسد الإسلامي مهما كانت عوامل ضعفه، لقد ظلت الخلافة الإسلامية مع ضعفها القوة التي يخشاها الغرب الصليبي في وطننا والتي تعيق تحقيق أهدافه وغاياته في بلاد المسلمين.
ولما كان الجميع يخشى الإسلام وشعوبه وكان للإسلام كيانه السياسي المتمثل في الخلافة العثمانية وعاصمتها الآستانة والغرب جميعه متفق في عداءه للإسلام والعمل للانقضاض عليه والقضاء على أي وجود له، كان لا بد من التواصي والتناصح حول توجيه هذه الجهود لإدارة الحرب بكفاءة، لذلك بين القسيس ليبسيوس في أحد تقاريره لمرؤسيه كيف عليهم أن يواجهوا كل قواهم للقضاء على الخلافة الإسلامية، بقوله:
"إن نار الكفاح بين الصليبي والهلال لا تتأجج في البلاد النائية في مستعمراتنا في آسيا وإفريقيا بل ستكون في المراكز التي يستمد منها الإسلام منها قوته وينتشر سواء أكان في إفريقيا أم آسيا، وبما ان كل الشعوب الإسلامية تولي وجهها نحو الآستانة عاصمة الخلافة فإن كل الجهود التي نبذلها لا تأتِ بفائدة إذا لم نتوصل إلى القضاء عليها...) لذلك كان يتوجب على الغرب القضاء على الخلافة الإسلامية لينفرط العقد وتتناثر حباته كل واحدة في تجاه مختلف، فالخلافة هي الرباط الذي يشد المسلمين بعضهم ببعض وبريط بينهم برباط العقيدة.
لقد كانت الحروب التي شنتها الدول الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين على دول الخلافة متميزة بطابع ديني قال لورنس براون: "وكذلك شنت الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر والعشرين حرباً عدوانية على الحكومات المسلمة ثم انتزعت منها أرض ضمتها إلى سلطانها هي، ولقد كانت النتائج في أحوال كثيرة غير سارة لبعض الشعوب التي استعبدت، وخصوصاً من المسلمين، ولكن هذه الشعوب لم تصل بعد إلى درجة تشعر أنها مضطهدة أو أنها تعيش في حابورات (أحياء اليهود الجيتو). أما غاية الدول الأجنبية من محاربة الدولة العثمانية فكنت كما يراها المبشرون (لعل الله الرحيم يضرب الأتراك بسيف قدرته الجبار)".
أما لورانس العرب فقد كتب في أحد تقاريره: "علينا أن ندفع بالغرب لانتزاع حقوقه من تركيا بطريق العنف.. لأننا بهذا نقضي على خطر الاسلام وندفع به (الإسلام) لإعلان الحرب على نفسه وبذلك تمزقه ونحرفه من القلب. إذ ينهض في مثل هذا الصراع خليفة في تركيا وخليفة في العالم العربي، ويخوض الخليقتان حرباً دينية وبذلك يُقضي على خطر الخلافة الإسلامية بصورة نهائية..). والخليفة العربي الذي صنعه لورنس ودفعه لقتال الخليفة العثماني والتمكين للمستعمرين الصليبيين في وطننا هو الشريف حسين بن علي، وثورة العربية الكبرى التي كانت سبباً في وقوع الدول العربية في قضبة الاستعمار الغربي، وهزيمة الدولة العثمانية وكل ما وصلنا له الآن.
إن الرغبة الشديدة عند الغرب الصليبي للقضاء على الخلافة الإسلامية من أجل تفتيت الوطن الإسلامي هي التي اضطرته لتوحيد جهود وجمع كلمته، كما يقول وديع تلحوق: صاحب كتاب الصليبية الجديدة في فلسطين: "إن الدول الأوروبية اجتمعت كلها على هدف واحد برغم ما بينهما من تباين آراء وتضارب مصالح وهو القضاء على الإمبراطور العثمانية ،أذاعوا أن الأتراك المسلمين يضطهدون المسيحيين وأن هذه الدولة تقوم على عنصر ديني، وتستهدف استئصال المسيحيين من سائر القارة الأوروبية إذا تسنى لها ذلك، وعلى هذه الصورة امتدت أصابع الاستعمار الغرب إلى صميم الشرق العربي رويداً رويداً. وقد رأينا جيوش الصليبية تعمر سواحل البلاد العربية، وقد حاولت أن تستغل حركة التحرر العربي حتى إذا تم لها الفتح وساعدها سكان البلاد كشرت عن أنيابها، ووقفت تقول للشعوب العربية، أنتم جزء من غنائم والأسلاب، لا شركاء في الظفر والفتح).
وكما أصبح معروفاً إن الحركة الصهيونية والماسونية اليهودية بعد فشل جهودهم مع السلطان عبد الحميد الثاني في الحصول على فلسطين عملوا على خلعة على العرش لأنه كان مقرراً ضمن قرارات المؤتمر الصهيوني الأول السرية: أنه في حال رفض السلطان عبد الحميد الموافقة على وطن قومي لليهود في فلسطين يجب تحطيم الخلافة الإسلامية. وبعد أن ضحى السلطان عبد الحميد بعرشه رافضاً المطلب اليهودي استمر مخطط تدمير الخلافة الإسلامية، وكان خادمهم هذه المرة مصطفى كمال أتاتورك الذي كان عضواً في جمعية الوطن التركية ثم عضوا في جمعية الاتحاد والترقي ثم انضم إلى المحفل الماسوني (فيداتا) وعن حقيقة حركة أتاتورك التي أطاحت بالخلافة 1924 يقول سيتون واتسون: "إن الأدمغة الحقيقة في حركة مصطفى اتاتورك كمال كانت يهودية أو يهودية – مسلمة وهي الدونمة، وقد جاءت مساعداتها المالية من الدونمة الأغنياء ومن يهود سلانيك ومن الرأسماليين العالميين أو شبه العالميين في فيينا أو بودابيست وبرلين وربما في باريس ولندن".
والدليل على ماسونية أتاتورك أن مبعوث تركيا أيامه إلى مؤتمر لوزان الذي عقد في باريس 1923م كان الحاخام (حاييم ناعوم) كبير حاخامي اليهود والذي رفض تعيين أتاتورك له سفيراً لتركيا في أمريكا وفضل أن يكون حاخاماً لليهود في مصر.
لذلك ليس غريباً أن يوافق الوفد التركي على تلك الشروط المجحفة التي أملاها اليهود والغرب الصليبي في مؤتمر لوزان عندما خرجت تركيا مهزومة من الحرب، وقد كان واضع تلك الشروط (كرزون) رئيس الوفد البريطاني وهي:
1- إلغاء الخلافة إلغاء تاماً.
2- طرد الخليفة خارج الحدود.
3- مصادرة أمواله.
4- إعلان علمانية الدولة.
وقد جاء في تفصيلات الشرط الرابع:
أولا: إدخال الحروف اللاتينية بدل العربية.
ثانيا: منع إقامة الأذان باللغة العربية.
ثالثا: وقف تعليم الدين والقرآن في المدارس.
رابعا: تغيير هيكل الحياة البشرية والتقاليد والأعراف كاستخدام القبعة بدل الطربوش، وإدخال سائر العادات الغربية.
وعلق نجاح المؤتمر على تحقيق الشروط، وبالفعل طبق حكام تركيا هذه الشروط ولم تنسحب بريطانيا من تركيا حتى حققت تلك الشروط، وعندما احتجت المعارضة في مجلس العموم البريطاني على كروزن لاعترافه بتركيا أجاب: "إن القضية التركية قد قُضي عليها ولم تقم لها قائمة، لأننا قضيتنا على القوة المعنوية فيها وهي الخلافة الإسلامية". وأخيراً ارتاح الغرب من الخلافة الإسلامية التي كان يعتبرها البريطاني سيرويلم: "سيادة تركيا على الآستانة عار على المدينة يجب محوه".