مصطفى إنشاصي
بعد قضاء القوة الإسلامية العثمانية على الأطماع الغربية الصليبية في وطننا وخاصة السواحل الجنوبية بقي الإسلام في ذلك الوقت هو الطرف الأقوى في المعادلة الدولية، وقد بقي موقف الغرب متذبذباً بين القوة والضعف في مواجهة القوة الإسلامية عسكرياً وحضارياً، وقد استمر التهديد الثقافي والحضاري الإسلامي لأوروبا النصرانية الذي حملته الدولة العثمانية الصاعدة في ذلك الوقت إلى زمن بعيد من انتهاء الحروب الصليبية. ذلك أن الفتح الإسلامي العثماني لأوروبا لم يكن فتحاً عسكرياً فقط لكنه كان فتحاً حضارياً، لقد كان العثمانيون يستقبلون استقبال الفاتحين أينما حلوا، وكانت كثير من شعوب أوروبا ترحب بقدومهم، في إيطاليا وفي ألبانيا التي أسلم فيها 300 ألف في حوالي 30 سنة، مما يشهد للعثمانيين بحسن الإسلام والعدل والتسامح.
فقد ذكر السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "... إن المعاملة التي أظهرها الأباطرة العثمانيون للرعايا المسيحيين... على الأقل بعد أن غزو بلاد اليونان بقرنين لتدل على تسامح لم يكن مثله حتى ذلك الوقت معروفاً في أوروبا وأن أصحاب كالفن في المجر وترانسلفانيا وأصحاب مذهب التوحيد من المسيحيين الذين كانوا في ترانسلفانيا طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هانسبورغ المتعصبة ونظر البروتستانت إلى تركيا بعين الرغبة ... كذلك نرى القوازق الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية....".
تلك الانتصارات هزت أوروبا وأقلقت عرش البابوية والملوك والأمراء، وأشاعت الذعر والخوف في قلوب الغرب الصليبي، وزادت من روح الحقد والكراهية ضد الإسلام والدولة العثمانية خاصة، وأصبحت الدولة العثمانية أحد العوامل الرئيسة في كافة التوازنات السياسية الأوروبية، وغدت اسطمبول مقراً لنشاط سياسي دبلوماسي كثيف لكل الدول في ذلك الوقت.
وقد كان لا بد لهذا الفتح العسكري والحضاري الإسلامي العثماني في أوروبا، وفي جميع ساحات المواجهة وميادين القتال، أن يحرك الروح الصليبية في النفوس لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد الوجود النصراني في عقر داره، ما دفع البابا إلى دعوة القوى الصليبية آنذاك للتحالف ضد الخطر الإسلامي، وقد حدثت أكثر من معركة بين العثمانيين المسلمين والغرب الصليبي شاركت فيها قوى صليبية متعددة وبدعوى من البابا، وكانت الحماسة الصليبية في نفوس المقاتلين ضد العثمانيين المسلمين كما كانت في الحروب الصليبية في بلاد الشام، وكان من أشهر تلك المعارك وأخطرها، معركة لبانت البحرية سنة 1571 في عهد السلطان سليم الثاني.
وفي هذه المعركة "واجه الأسطول العثماني تحالفا رهيبا هو العصبة المقدسة التي تنادى إليها البابا بيوس الخامس، وقد تم تكوين العصبة في 25 من مايو/أيار 1571 من البابوية، وأسبانيا، والبندقية، وتوسكانيا، وجنوة، وفلورانس، وسافوي، ومانتو، وبارما، وفرسان القديس يوحنا في جزيرة مالطة".
وقد كان يقود سفن الأسطول الصليبي في تلك المعركة خيرة القادة البحريين في الدول المتحالفة، وقد كانت هذه العركة كارثة على القوة الإسلامية العثمانية، فقد تحطمت غالبية وحدات الأسطول الإسلامي، كما قتل أو غرق عدد كبير من القادة البحريين والبحارة المدربين. مما أثر على قوة الجيوش الإسلامية، وبالتالي على الوجود الإسلامي في أوروبا.
وقد بدأت بعد ذلك مرحلة التوازن الدولي بين الإسلام وأوروبا، وفي الوقت نفسه استمر تهديد الثقافة والحضارة الإسلامية للغرب الصليبي، إلى أن اختل ميزان القوة بين الطرفين إثر فشل الحصار العثماني الثاني لفينا عاصمة النمسا عام 1683م، الذي أعقبه هزيمة الجيوش الإسلامية في منطقة البلقان. وقد علق على هذا الفشل الدكتور بشير موسى نافع: "كان فشل معركة فينا إيذاناً بتوازن جديد للقوى في وسط أوروبا وشرقها، بدأت أوروبا على أثره في إعادة الكرة بعد أن تراجعت لأكثر من قرنين أمام العثمانيين".
أما المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي فقد أعتبره "إيذاناً بتحول الغرب (إلى قوة كاسحة) وصاحبة السلطان في العالم حتى أنه لم يعد أمام الآخرين (المسلمين) خيار، فإما التغريب وإما الهلاك".
لقد كان قضاء القوة الإسلامية العثمانية على الأطماع الغربية الصليبية في وطننا وخاصة السواحل الجنوبية قضاء مؤقتاً، فمنذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع الوجودي بين الإسلام والغرب، بدأ فيها الغرب محاولاته الجادة والقوية لاختراق الأمة وفرض سيطرته وهيمنته الثقافية والفكرية والعسكرية، ومشروعه ونموذجه الحضاري كله عليها. وبسبب فشل السلاطين العثمانيين في تجديد النموذج الحضاري الإسلامي، وبسبب أخذ بعضهم ببعض مظاهر النموذج الحضاري الغربي، بدأ الإسلام يفقد موقعه القيادي الدولي، وبدأت أوروبا تأخذ موقعها طارحة نموذجها الخاص والمختلف بديلاً عن النموذج الإسلامي.