الغرب والإسلام
ازدواجية الهجمة (25)
مصطفى إنشاصي
بعد هزيمة الصليبيين وظهور القوة العثمانية الإسلامية لم يعد أمامهم قدرة للعودة إلى بيت المقدس عن طريق الشرق، فقد كانت القوة العثمانية الإسلامية، كما يقول المستشرق الكندي المعاصر ولفرد كانتون سميث، لا تكتسح الأرض فقط بل كانت تكتسح العقيدة المسيحية ذاتها، ويدخل أهلها في الإسلام بعشرات الألوف كل عام، "وكان التهديد الإسلامي موجهاً بقوة وعنف، وكان ناجحاً مكتسحاً في نصف العالم المسيحي تقريباً، والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيدة التي انتزعت من المسيحيين أناساً دخلوا في الدين الجديد وآمنوا به بعشرات الملايين". ذلك دفع الصليبيين للتفكير في طرق أخرى بعيدة عن أراضي المسلمين والالتفاف حول الوطن الإسلامي.
كما أدى احتدام الصراع الديني بين المسيحيين الكاثوليك والمسلمين في شبه جزيرة أيبيريا في نهاية العصور الوسطى إلى اتجاه البرتغاليين إلى مطاردة المسلمين في ساحل إفريقيا الغربي، وإلى إصرارهم على انتزاع التجارة الشرقية من أيديهم عن طريق كشف طريق بحري مباشر إلى البحار الشرقية ... واستطاع البرتغاليون أن يحققوا غايتهم مستندين إلى قوتهم وجهودهم البحرية من جهة، وإلى جهود استطلاعية أخرى اتسمت بالسرية وتركزت جول جمع المعلومات عن مصادر تجارة الشرق، وطرق هذه التجارة، وأنواع البضائع الشرقية، وإمكانات القوى التي سيحارونها من جهة أخرى.
وقد كان الهدف الرئيس لحركة الكشوف الجغرافية المزعومة التي بدأتها أوروبا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر بحسب العقلية الغربية الصليبية وتوجهاتها الحضارية والعدائية الحاقدة على الإسلام وأهله حلقة من حلقات الصراع الصليبي ضد الإسلام. فقد كانت هذه الكشوف تهدف إلى الالتفاف حول الوطن الإسلامي وحصاره وخنقه بإضعافه اقتصادياً وإضعاف قدراته المادية على الانفاق على المواجهة عسكرياً والقضاء عليه قضاءً مبرماً، من خلال تحويل طريق التجارة بعيداً عن أراضي المسلمين.
وقد كانت التجارة عبر الأراضي الإسلامية تدر مكاسب كبيرة على مصر والبندقية، وكان ذلك من أهم الأسباب التي دفعت البرتغاليين إلى البحث عن طريق آخر يوصلهم إلى تجارة الشرق، وبدأت أولى حملات الكشوف البحرية البرتغالية لسواحل غرب إفريقيا سنة 1418، وقد لجأت البرتغال إلى إضفاء الشرعية الكنسية على التوسعات البرتغالية في أعقاب فتح العثمانيين للقسطنطينية عام 1453 عندما حصلت على براءة البابا نيقولا الخامس في اليوم الخامس من يناير 1454 بأحقية التاج البرتغالي في امتلاك سبتة وغيرها مما يؤكد نوفر الروح الصليبية في توسع البرتغال فضلاً عن الدواع السياسية والاقتصادية الغالبة. وقد تمكن بارتلوميو دياز من الوصول إلى رأس الرجاء الصالح، ثم وصل فاسكودا جاما إلى كلكتا، وأخيراً وصل كبرال بأسطوله الضخم إلى الهند بعد ثلاثة عشر سنة من الوصول إلى رأس الرجاء الصالح. الذي أطلق عليه ملك البرتغال يوحنا الثاني (1481 – 1495) رأس الرجاء الصالح تيمناً بالاكتشاف الجديد في عام 1487.
وقد وضع البرتغاليين مخططاً صليبياً خطيراً للغاية تمثل في دخولهم البحر الأحمر واستيلائهم على جدة ثم الزحف منها إلى مكة المكرمة لهدم الكعبة الشريفة ثم مواصلة الزحف منها على المدينة المنورة لنبش قبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومواصلة الزحف بعد ذلك إلى تبوك وصولاً إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وكان الشريف بركات أمير مكة المكرمة قد ارتاب في ثلاثة أشخاص تسللوا على مكة المكرمة. وكانوا يحومون حول المسجد الحرام متظاهرين بأنهم مسلمون، ويرتدون زي العثمانيين، ويتكلمون العربية والتركية. فأمر بالقبض عليهم. وبالكشف عن أجسامهم اتضح أنهم مسيحيون لأنهم كانوا بغير ختان. وباستجوابهم اتضح أنهم جواسيس برتغاليون بعثت بهم سلطات لشبونة ليعملوا أدلاء للجيش البرتغالي الصليبي عند دخوله مكة، وقد وضعهم في الحديد وبعث بهم إلى السلطان الغوري، وقد وقع ذلك في عام 1510.
وقد سبق تلك العملية أن تمكن الرحالة البرتغالي بيرودى كوفلهام في منتصف سنة 1487 من الوصول إلى مصر عبر البحر المتوسط وأبحر هذا الرحالة إلى مصر حيث تمكن من جمع معلومات عن الحبشة دفعته للتوجه إليها. وكانت رحلته إلى الحبشة _ التي كانت تتبع من الناحية العقائدية الكنيسة الأرثوذكسية اليعقوبية في مصر – بداية سلسلة من رحلات المستكشفين والبعثات الأوروبية الكاثوليكية التي وفدت إليها أثناء القرن السادس عشر، والتي كانت تهدف إلى استقطابها للكاثوليكية. لتطويق العالم الإسلامي وانتزاع التجارة الشرقية التي تشكل مصدر قوته آنذاك. وقد أصبح بيرودى كوفلهام مستشاراً لملك الحبشة قسطنطين الثاني ثم رسوله إلى ملك البرتغال يوحنا الثاني للاتفاق على حملة مشتركة لتحرير القدس، لكن البعثة لم تبتعد كثيراً بسبب نزاع نشب بين حراس البعثة، وبعض الأهالي، وهكذا فشل المشروع.
وكعادة الغرب الصليبي عبر كل مراحل صراعه لا يعلن عن حقيقة أهدافه وغاياته في وطننا فقد "ادعى الأسبان والبرتغاليون أنهم يريدون الاتجار بالتوابل، ولكنهم كانوا يودون قتل المسلمين والتآمر على الإسلام ونشر النصرانية، إذ استطاع البرتغاليون سرقة خرائط البحار والمحيطات والمعلومات اللازمة عن الملاحة بيد من أجاد اللغة العربية من اليهود في بلاد مصر بغية القيام بتلك المهمة ثم انسل أولئك المدبرين إلى بلاد البرتغال. كما دار فاسكو دي جاما حول رأس العواصف (راس الرجاء الصالح) حتى وصل شرقي أفريقيا وسارت سفنه حتى دخلت زنجبار عام 911هـ. والتقى في مالندي مدينة في كينيا اليوم على شاطئ المحيط الهندي بالرحالة المسلم ابن ماجد الذي دله على طريق الهند فوصل إليها ثم رجع وعاد مرة أخرى وضرب كلكتا بالقنابل انتقاماً من المسلمين هناك. وقد أغرق سفينة محملة بالحجاج في خليج عمان أيضاً وعاد إلى كلكتا مرة أخرى وأغرق عدداً من المراكب هناك كانت محملة بالأرز وقطع أنوف تجارها وآذانهم كما دمر البرتغاليون معظم مساجد مدينة كيلوه في شرقي أفريقيا والبالغ عددها 300 مسجدا آنذاك". وعندما أتم رحلته ووصل إلى الهند، قال: "الآن طوقنا رقبة الإسلام، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت"!.
أما ماجلان ورحلاته التي يدرسونها لنا في المدارس أنها من أشهر الرحلات العلمية في التاريخ كان هدفها الاستيلاء على الأراضي الإسلامية وإخضاعها لحكم الصليبيين، فقد كان هذا الصليبي يحمل إلى جانب أطماعه الاقتصادية، والرغبة في احتلال الأرض والوصول إلى مكامن ثروات الشرق، كان يحمل حقده الصليبي، وكراهيته للإسلام، والرغبة في القضاء عليه، والسيطرة على قلبه النابض فلسطين، وإعادة إمارة بيت المقدس. فقد كتب إلى البابا عدة رسائل يطلب فيها الإذن بإعداد (رحلة) إلى الفلبين لإخضاع (الكفار) يقصد المسلمين، لحكم الصليب، وأخيراً أذن له البابا فقام برحلته (العلمية الاستكشافية) ولما حاول رفع الصليب على الأرض الإسلامية قتله المسلمون.
فهو عندما وصل إلى جزر الفلبين "اتفق مع ملك جزيرة سيبو هومايون على دخوله في الديانة الكاثوليكية مقابل أن يجعله ماجلان ملكاً على جميع الجزر تحت التاج الأسباني، لكنه ما أن وصل إلى جزيرة صغيرة قرب سيبو حتى علم أن فيها مسلمين وأن حاكمها مسلم أيضاً فصب جام غضبه عليهم وثار حقده وشن حرباً عليهم بأسلحته الحديثة، لكن الحاكم هناك قام بقتل ماجلان ولا يزال قبره هناك ورفض تسليم جثته للأسبان".
إنها الروح الصليبية التي تحتفظ في وجدانها وعقلها دائماً العداء للإسلام وأهله إضافة لأي هدف مادي آخر، ازدواجية الهدف للغرب الصليبي السيطرة على طرق التجارة والقضاء على الإسلام، التي عبر عنها القائد البرتغالي البوكيرك في خطبة له في رجاله قبل احتلال ملقة قائلاً: "إن أجل خدمة نقدمها بعملنا هذا هي أننا سنرضى الرب بطرد العرب من هذه البلاد وخضد شوكة الإسلام بحيث لا تقوم له قائمة بعد اليوم وأنا على يقين من أننا إذا انتزعنا تجارة البهارات والأفاوية