التعصب عدو الوعيمصطفى إنشاصيالموقف الثاني كان مع الأستاذ الذي يدرسنا مادة (الأدب الإفريقي) لكنه مختلف عن الأول كثيراً فقد كان خلوقاً إيجابياً ليناً يقبل الرأي الآخر ولا تعصب عنصري مقيت لديه.قد كان ضمن المقرر في تلك المادة روايتان أدبيتان، وأثناء المحاضرات أبديت رأي فيهما وحدث نقاش كثير حولهما، وفي الامتحان أجبت على الأسئلة المتعلقة بالروايتين من خلال وجهة نظري أنا وفهمي لهما وموقفي منهما، والروايتان هما: الأولى: موسم الهجرة إلى الشمال وهي رائعة الأديب والروائي السوداني الطيب صالح"موسم الهجرة إلى الشمال" كان الفهم المقرر لها ما درج عليه الرأي الغالب للنقاد حصره معظم النقاد في موقف شخصي أو رواية لسيرة ذاتية أو قطرية لكاتبها، وأنه ابتدأ الرواية بالحديث عن أحداث الاحتلال البريطاني للسودان، والظروف التي حدثت وأحوال السودان والمجتمع السوداني بعد الاحتلال، وعن هجرته إلى بريطانيا وحياته فيها، وأحداث الرواية التي تتحدث عن بريطانيا والحياة فيها وما ورد فيها من مشاهد غلب عليها طابع الجنس و... كلها تناولوها بأسلوب نقد أدبي وفهم لأحداث الرواية في إطار ضيق شخصي وفردي للكاتب. عن نفسي كان لي رأي مختلف فتلك الرواية قرأتها سنوات الدراسة الجامعية تقريباً عام 1980 ودار حولها حوارات ونقاشات جادة بين شباب لهم طابع خاص في الثقافة والوعي والعمل، وبعضهم كان متابعاً لروايات الأدب العالمي، وقد غلب فهمنا لها ونحن نبحث عن فهم عالمي للأحداث وأنها تجاوزت الشخصي والقطري إلى العالمي، أن الرواية خرجت من الإطار الضيق إلى الإطار الأوسع والأشمل، إنها تعبر عن أحداث الصراع بين الإسلام والحضارة الإسلامية والغرب والحضارة الغربية.وأن المشاهد الجنسية فيها التي تتحدث عن علاقته بحبيبته الإنجليزية التي أصبحت زوجته أفضل أسلوب يعبر به عن عمق العلاقة بين الحضارتين، لأن مشاعر الحب والحقد والكراهية والود والبرود و.. في الحب والعشق أعمق في التعبير عن عمق دورات الصراع الحضاري بينهما من العبارات التقليدية. وأن أحداث الرواية تتحدث عن علاقة الحضارة الإسلامية والغربية ومراحلها المختلفة، عداء وصراع دامي، حياد وجمود، سلام وود، وغدر وخيانة. واحتلال وقمع وانتقام و.. انتهى في الرواية مع حبيبته وزوجته الإنجليزية إلى أن قتلها طعناً بالسكين في سريرها في غرفة الزوجية، في إشارة إلى حتمية انتصار الإسلام على الحضارة الغربية مهما طال الزمن وتنوعت وتعددت دورات الصراع، والانتصار ليس في وطننا فقط بل في عقر داره، في الغرب نفسه!الثانية: "حين تبعثرت الأشياء" وكاتبها الأديب النيجيري شنوا أشيني أو أجيبي صدرت الرواية عام 1958، والكاتب يروي فيها قصة قبيلته (اليوربا) في نيجيريا، وهي قبيلة تنصرت أثناء الاحتلال البريطاني لنيجيريا، يحكي فيها كيف أن قبيلته قبل أن تتنصر كانت يعيشون في هدوء وسعادة وبساطة وكانت علاقاتهم الاجتماعية قوية ولا يوجد مشاكل أو صراعات و.. حياة هادئة جميلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لكن بعد أن تنصرت القبيلة انقلبت حياتهم رأساً على عقب، انعدمت السكينة والمحبة والود والسعادة وكل شيء كان جميلاً وتبعثرت القيم والأخلاق والعادات والتقاليد والأعراف وتغيرت النظم بالتحول الذي جاء مع الرجل الأبيض والتحول إلى النصرانية والحياة الغربية، وغلب على الحياة والعلاقات الاجتماعية الطابع المادي، وفتور العلاقة وعدم الأمن والرشوة و... وقد كان متأثراً بميلاده الإفريقي وأخلاق قريته، وتعتبر الرواية مرثية مليئة بالوفاء والحنين والرثاء لموروث قبيلته الذي تبعثر وتغير بتنصرها!وقد كانت الرواية مرشحة عام 1966 لنيل جائزة نوبل في الأدب لكن يبدو أنها لشدة عنصرية وكاتبها لم تحصل على الجائزة وجاءت في المرتبة الثانية! والعنصرية في موقف الكاتب وتحيزه إلى نصرانيته التي بعثرت حياة الاستقرار لقبيلته وغيرت كل جميل فيها بعد اعتناقها النصرانية، تتجلي في تحريضية لقبيلته على القتل والاغتصاب والإبادة والانفصال ... وما ارتكبته ضد المسلمين أثناء تمردها عام 1960 للاستقلال عن نيجيريا وتأسيس دولة بيافرا بمساعدة كيان العدو الصهيوني والغرب، ذلك التمرد الذي فشل!وكأن رأي: أن هذا العنصري الحاقد المحرض على القتل روايته لا تستحق أن يتم تقرير دراستها في جامعة محترمة، ولا أن ترشح لنيل جائزة نوبل للأدب، وتقريرها مادة دراسية دون توجيه النقد لها يدل على نزعة عنصرية عرقية لا تخدم مصلحة الأمة والجامعة المفترض بها في قطر إسلامي، وذكرت الأسباب من خلال أحداث الرواية وتحريضه فيها بني قومه أثناء الحرب على ارتكاب عمليات إبادة جماعية واغتصاب وتشريد وتنكيل بالمسلمين، من منطلق ليس عنصري عرقي لأنهم كلهم أبناء وطن واحد ولون واحد، لكن من منطلق ديني، لأنه أثبت عبوديته وولاءه للرجل الأبيض الذي دمر كل جميل في حياة قبيلته والآن يدمر كل جميل في وطنه نيجيريا بإثارة العداوة والبغضاء بين قبائله وتفكيك وحدته، ولأن الأدب يجب أن يخدم مصلحة الإنسانية والتعايش بين جميع الناس فما بالك بأبناء الوطن الواحد ... وبعد خروجي من الامتحان التقيت مدرس المادة ونحن في طريقنا للمسجد لصلاة الظهر وقد كان بيننا احترام ويعرف رأي في الروايتان من خلال المحاضرات، فقلت له: أظن أنك أصبحت تعرفني جيداً لست مستعد أن أغير قناعاتي حتى وإن كان في ذلك رسوبي أو خفض درجتي. وأردفت أجبت على أسئلة الروايتين بما أنا مقتنع به وليس برأيك!فقال: إن كانت إجاباتك مقنعة وفيها أدلة تؤكد ما ذهبت إليه سأعتبرها إجابة صحيحة وأضع عليها درجة كاملة. وفعلاً حصلت في تلك المادة على درجة كاملة!لا للعنصرية من أي نوع، لا لأصنام العصر أحزاب أو أشخاص، لا لحجب نور العلم والمعرفة، لا لثقافة الجهل، لا لإلغاء العقل والوعي، دعوها فإنها منتنة.