الغرب والإسلامأهمية فلسطين الجغرافية والاستراتيجية (11)مصطفى إنشاصيومن أهم دروس التي أكدتها أحداث الصراع العسكري؛ الأهمية الكبرى لموقع فلسطين الجغرافي والاستراتيجي في إحكام قبضة الصليبيين على المنطقة، فقد أدرك الصليبيون أهمية مملكة بيت المقدس ودورها في منع قيام أي وحدة قوية بين شرق الوطن الإسلامي وغربه، والدرس نفسه أدركه المسلمون وهم يحاولون القضاء على مملكة بيت المقدس والوجود الصليبي في وطننا، من استحالة القضاء عليهم دون تحقيق الوحدة الأرضية جغرافياً بين بلاد الشام ومصر.الدرس الثاني: أهمية فلسطين لكسر الهيمنة الحضارية للإسلاملقد استمرت الحروب الصليبية ما يقارب المائتي عام دارت فيها معارك كثيرة وكانت الحرب سجالاً بين الطرفين، ولأن الصليبيين كان تركيزهم منصباً على إحكام سيطرتهم على فلسطين وبيت المقدس التي ستحفظ بدورها الكيانات الصليبية الأخرى، فقد تبين لهم من خلال معارك الصراع وأحداثه حقيقة مهمة، ظلت تحكم معاركهم مع المسلمين طوال المائة سنة الأخيرة من الحروب الصليبية، في محاولة منهم لكسر الهيمنة الحضارية للإسلام في وطننا والعالم أجمع، وتحول دون وحدة هذا الوطن. وهذه الحقيقة هي:"أنه لا سبيل للعرب والمسلمين كي يلفظوا الكيانات الصليبية التي زرعتها أوروبا في فلسطين والشام إلا بتوحيد المشرق مع مصر والمغرب حتى يتم الالتفاف حول هذه الكيانات الصليبية فيضيق عليها الخناق فلا تجد سوى البحر المتوسط طريقاً جاءت عبره من أوروبا وعبره إلى أوروبا تعود، كما أنه لا سبيل أمام الصليبيين كي يثبتوا كياناتهم في الشام وفلسطين إلا بمنع قيام هذه الوحدة العربية وبأي شكل من الأشكال".ففلسطين هي الجسر الأراضي وهمزة الوصل التي تصل مشرق الوطن الإسلامي بغربه، وإن اقتطاعها وفصلها عن بقية الوطن يحول دون وحدته واتصاله يبعضه اتصالاً طبيعياً، فيمنع قيام الوحدة الحقيقية القوية، التي هي ضرورة لإحكام الخناق حول الإمارات الصليبية.ويتضح وعي هذا الدرس جيداً عند كلا الطرفين في الحملة الصليبية الخامسة (1218 – 1221) التي دعا لها البابا أنوسنت الثالث رغبة منه في إبقاء الفكرة الصليبية حية، وتقرر أن تكون مصر هدفها والاستيلاء على دمياط عام 1219، وقد عرض عليهم الملك الكامل تسليم مدينة بيت المقدس بدلاً من مدينة دمياط، أملاً منهم في وصول فردريك الثاني إلى السواحل المصرية بقوات ألمانية تشاركهم في الزحف جنوبا إلى القاهرة.وقد كان الملك الكامل يريد إنهاء الصراع سلمياً بينه وبين الصليبيين وقدم لهم عرضاً مغرياً للسلام، تمثل في "منحهم بيت المقدس ويطلق أسراهم ويعيد الصليب الذهبي الذي كان صلاح الدين قد أنزله من فوق قبة الصخرة عقب استردادها، وكان الملك الكامل يظن أن القدس هي هدف الصليبيين فإذا ردها إليهم انتهى الصراع ولكنهم رفضوا العرض وأعلنوا أنهم يريدون سوريا ومصر وكانت هزيمتهم في دمياط نهاية الحروب الصليبية الخامسة 1218-1221". وعند وصول الملك فردريك وهو أول صليبي فاهم للإسلام، "عقد معاهدة (1229) مع الملك الكامل سلطان مصر، معاهدة لمدة عشرة سنوات، مع النزول للصليبيين عن الناصرة وبيت لحم وبيت المقدس وغيرها، فضلاً عن ممر بين بيت المقدس والساحل لضمان حرية وصول المسيحيين إلى بيت المقدس عارض بطريق بيت المقدس جميع خطوات الإمبراطور فردريك. وطلبوا إلى جانب بيت المقدس حصني الكرك والشوبك، الموجودين بين خليج العقبة وجنوب فلسطين مقابل خروجهم من دمياط، فأدرك أنهم لا يريدون بيت المقدس فقط وأنهم يريدون مصر وسوريا أيضاً فرفض أن يتنازل عنهما، لأنه كان يقدم من التنازلات ما لا يؤثر على الاستراتيجية الإسلامية التي تهدف إلى وحدة الشرق والغرب، والإحاطة بالإمارات الصليبية من كل الجهات البرية لتجبرها على العودة من حيث أتت عبر المتوسط.. وتوقفت المفاوضات ودخل الملك الكامل الحرب ضد الصليبيين وانتصر عليهم.وهكذا أضاع الصليبيون من أيديهم فرصة إحياء مملكة بيت المقدس واسترداد القدس مقابل الجلاء عن دمياط واضطروا إلى الجلاء والعودة بخفي حنين، ومثلهم العدو الصهيوني اليوم الذي كم من مشاريع التسوية الظالمة لنا تعُرضت عليه منذ عام 1948 لكنه يرفضها، وسيبقى يرفض لأن تلك الكيانات الطارئة التي لا تعِ سنن الله في خلقه، سنن التاريخ، تحمل بذور زوالها في جيناتها وجينات عقائدها ومشاريعها الظالمة، ومصيرها القضاء المبرم التام ورحيلهم كما رحلت إمبراطوريات كبرى كثيرة!أهمية حصني الشوبك والكرك لتأمين دولة بيت المقدسقد فطن المسلمون في عهد صلاح الدين لأهميتهما وخطورتهما في آن واحد، وذلك عندما ثبت للمسلمين أن حصن لا الكرك يتحكم في قطع الطريق بين مصر والشام والحجاز فقط بل ويشكل خطورة أكبر على مكة والمدينة المنورة، إذا ما أراد الصليبيون الوصول إليهما وذلك عبر خليج العقبة والبحر الأحمر، وكذلك يهددوا منهما سواحل مصر الشرقية على البحر الأحمر، إلى جانب أن حياة الحجاج المسلمين تصبح تحت رحمتهم، وكذلك القوافل التجارية الإسلامية بين شرق الوطن وغربه. وقد ظهرت هذه الحقيقة جلية عندما قام أرناط الصليبي صاحب حصن الكرك بالاستيلاء على ميناء طايله على البحر الأحمر، "وبناء عدة سفن حملت أجزاؤها مفككة إلى خليج العقبة حيث ركبت هناك وشحنها بالمقاتلين، واتجه على رأسها لمهاجمة الموانئ الإسلامية في البحر الأحمر. ولم يكتف أرناط بالعدوان على الموانئ المصرية مثل عيذاب بل نقل نشاطه إلى شاطئ الحجاز حتى أن المقريزي يذكر أن الصليبيين أضحوا على مسيرة يوم واحد من المدينة المنورة).وقد استطاع العادل أخو صلاح الدين تدمير تلك السفن والقضاء عليها وفر أرناط بصعوبة وعاد إلى حصن الكرك وعندما عاد أرناط لمهاجمة قوافل المسلمين أثناء رحلاتها بين مصر والشام منتهكاً الهدنة التي وقعها الصليبيون مع صلاح الدين قرر صلاح الدين إعلان حرب وحسم الموقف وتحرير بيت المقدس. وعندما اكتملت استعداداته كان أول عمل عسكري له أن خرج من دمشق وقصد الكرك أولاً "ونازلها وقطع أشجارها ثم قصد الشوبك وفعل بها مثل ذلك ثم اتجه بعد ذلك على بانياس – قرب طبرية – لمراقبة الموقف". وذلك حتى يؤمن الوحدة الأرضية بين مصر والشام دون تهديد من أي قوة معادية حتى يستطيع تحقيق النصر وهو مطمئن أنه قد أخذ كل الاستعدادات.وإن كان صلاح الدين قد اتجه إلى الكرك والشوبك لتأمين الجسر الأرضي الواصل بين شطري دولته في مصر والشام وطهرهما من الصليبيين قبل معركة حطين والانتصار فيها، فإنه بعد الانتصار وقبل أن يتوجه إلى بيت المقدس توجه على الساحل الفلسطيني خاصة والشام عامة ليطهره من الوجود الصليبي، وقد نجح إلى حد كبير في الاستيلاء على الموانئ الإستراتيجية، وذلك حتى يحقق سرعة الاتصال البحري وسهولته بين بيت المقدس والشام ويحرم الصليبيين من أي مساعدة يمكن أن تصلهم عبر المتوسط. وكان ذلك إدراكاً من صلاح الدين من خلال المعارك والتجارب العسكرية الماضية مع الصليبيين لأهمية فلسطين وتأمين حدودها الشرقية "الأردن" وساحلها حتى يقطع على الصليبيين إمكانية الاستمرار في هذا الوطن إنها العبقرية العسكرية الفذة، والتخطيط الإستراتيجي الواعي، وتعلم الدرس والعبرة من تجارب الماضي.وهكذا حفظ الخلف الدرس عن السلف، فجاء رفض الملك الكامل لطلب الصليبيين وهو في وضع لا يسمح له بالرفض والمساومة إدراكاً منه إلى أن هدف الصليبيين كان أبعد من عرضه وأنه يستهدف تدمير الإسلام والقضاء على المسلمين وليس استعادة بيت المقدس فقط، فرفض التنازل عن حصني الكرك والشوبك لأهميتهما في الحفاظ على وحدة الجبهة الإسلامية في مصر والشام، إضافة لكل ما سبق ذكره عن أهميتهما، وقد أضاع رفض الصليبيون عر الملك الكامل من أيديهم فرصة إحياء مملكة بيت المقدس واسترداد القدس مقابل الجلاء عن دمياط واضطروا إلى الجلاء والعودة بخفي حنين، فقد كان البابا يستهدف توسيع رقعة الإمبراطورية البابوية على حساب الإسلام والعمل على كسر شوكته وتفتيت وحدته، يقول المؤرخ الفرنسي رينيه جروسيه في كتابه "حصيلة التاريخ": "أن الحروب الصليبية أدت إلى أول توسع استعماري للغرب المسيحي في الشرق العربي على حساب الإسلام".أهمية فلسطين لتمزيق الأمة وكسر هيمنتها الحضارية لم يغفل عنها لويس التاسع في وثيقته أو وصيته التي وضعها بعد خروجه من الأسر في دار ابن لقمان بالمنصورة، فقد أوصى: بالعمل على قيام دولة غربية في المنطقة الغربية تمتد حتى تصل إلى الغرب.