قراءة واعية لعلاقة الغرب بالإسلام (4)
مصطفى إنشاصي
في الوقت الذي بدأت فيه الحروب الصليبية في الأندلس كانت جبهة شرق آسيا الصغرى والأناضول تلك الجبهة التي لم تعرف الهدوء والاستقرار منذ أن أشرق الإسلام على بلاد الشام، واستمرت مسرحاً للصراع بين المسلمين والروم كان النصر في أغلبها حليفاً للمسلمين دون أن يتمكن أحد الطرفين من حسم الصراع لصالحه. كانت تلك الجبهة تشهد ظهور قوة جديدة على مسرح الأحداث وهي قوة الأتراك السلاجقة الذين بدؤوا رفع قواعد دولتهم والعمل على توحيد الجبهة الإسلامية المقابلة للروم ومواجهة تهديداتهم، وقد جاء الأتراك السلاجقة في وقت وصلت فيه الخلافة العباسية إلى أسوء حالات الضعف، وذلك بسبب سيطرة البويهيين (الشيعة) على مقاليد الحكم فيها وحدهم، وقد وصل بهم الأمر إلى التآمر على الخلافة العباسية ومحاولة القضاء عليها وإلحاقها بالخلافة الفاطمية الشيعية في مصر مما دفع الخليفة العباسي إلى الاستنجاد بالسلاجقة السنيين لمساعدته، وسرعان ما تقدمت جيوشهم للقضاء على البويهيين عام 1055م وإنقاذ الخلافة العباسية، وقد أضفى هذا على السلاجقة مكانة خاصة في نفوس المسلمين وقويت العلاقة بين الخليفة العباسي والسلاجقة.
الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي
وكعادة الدول الناشئة في تلك الفترة بدأ السلاجقة في التوسع وغالباً ما كانت على حساب الدولة البيزنطية والتوغل في أراضيها، وبدون سرد لأحداث الصراع نود أن نقفز بالقارئ إلى عام 1071م عندما حاول الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجين استرداد أرمينيا من أيدي السلاجقة، فخرج على رأس جيش كبير رافضاً عرض ألب أرسلان أمير السلاجقة لعقد هدنة وقال: "لا هدنة إلا بالري". أي في قلب دولة السلاجقة مما أزعج ألب أرسلان الذي لم يجد مفراً من القتال لأنه كان يتفادى الدخول في قتال مع جيوش الدولة البيزنطية، ودارت معركة جنوبي ملاذ كرد (مانزكرت) وكانت المعركة حاسمة بين الطرفين حلت فيها الهزيمة بالروم البيزنطيين وأسر الإمبراطور نفسه. وتكمن أهمية هذه المعركة في أنها "جاءت دليلاً على نهاية دور الدولة البيزنطية في حماية المسيحية من ضغط الإسلام، وفي حراسة الباب الشرقي لأوروبا من غزو الآسيويين... وبعبارة أخرى فإن موقعة مانزكرت تبرر – في نظر كثير من المؤرخين- ما حدث سنة 1095م من دعوة للحروب الصليبية في الغرب الأوروبي على أساس الدعوة إنما جاءت كرد فعل للكارثة التي حلت بالدولة البيزنطية سنة 1071م". كما أن السلاجقة قد فرضوا الجزية على إمبراطور الروم كمحاولة لإذلاله مما دفعه لإرسال رسالة إلى البابا يطلب فيها العون لحرب المسلمين ويحذره من اقتحام المسلمين لعواصم أوروبا الغربية.
ومنذ تلك الهزيمة والأباطرة البيزنطيين لم يتوقفوا عن طلب العون من البابا في روما ضد خطر المسلمين الذي يتهدد المسيحية، ويعدوهم بإزالة الخلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية.
وقد استمر طلب العون البيزنطي من روما إلى أن جاء البابا " أربانيوس الثاني" الذي أبدى قدرا من المرونة في معاملته للوفود التي كان يرسلها الإمبراطور البيزنطي "الكسيوس كومنين" لطلب العون ضد المسلمين، وقد كان هذا البابا "يفكر في مشروع لطرد المسلمين من آسيا بنفس الجهد والعزيمة التي يجري بها طردهم من أسبانيا". وقد أحاط مشروعه هذا بالسرية التامة، إلى أن أرسل الإمبراطور البيزنطي وفداً يطلب العون من الغرب ضد المسلمين "منتهزا فرصة عقد مجمع ديني برئاسة البابا في "إبياكنزا " بشمال إيطاليا في مارس عام 1095م... وقد نجح مبعوثو الإمبراطور في إقناع البابا بأن السلاجقة لا يهددون الدولة البيزنطية وحدودها وإنما يهددون المسيحية جمعاء، وأن قوتهم أخذت في الضعف والانحلال بحيث تكفي ضربة واحدة قوية للإجهاز عليهم ...).
وقد اقتنع البابا بضرورة مساعدة البيزنطيين وأعلن ذلك في خطبته التي ألقاها في المجمع الذي عقد عام 1095م، في مدينة "لكيرمونت" بفرنسا، وقد شهد هذا الخطاب (300) من رجال الدين، كما حضره ملوك وأمراء أوربا المتناحرين، ويجمل المؤرخ ستيفن رنسمان ما جاء في خطابه قائلاً: "استهل أوربان الثاني خطابه بأخطار سامعيه بضرورة المساعدة لإخوانهم في الشرق، لأن الترك المسلمين مضوا زحفهم في جوف البلاد المسيحية، وأخذوا يسيئون معاملة السكان، وأكد خطابه ما لبيت المقدس من قداسة خاصة، ووصف ما يعانيه الحجاج أثناء سفرهم من العذاب والمتاعب".
ومما جاء فيها: "أنتم فرسان أقوياء ولكنكم تتناطحون وتتنابذون فيما بينكم ... ولكن تعالوا وحاربوا الكفار (المسلمين)... يامن تنابذتم اتحدوا... يا من كنتم لصوصاً كونوا اليوم جنوداً... تقدموا إلى بيت المقدس... انتزعوا الأرض الطاهرة واحفظوها لأنفسكم فهي تدر سمنا وعسلاً، إنكم إذا انتصرتم على عدوكم ورثتم ممالك الأرض!". وقد منح الذين يشاركون في هذه الحروب من النصارى علمانيين كانوا أم مؤمنين غفراناً تاماً من الذنوب والخطايا ما تقدم منها وما تأخر، ووعد الذين يموتون فيها جنات الخلد وأعفاهم من دفع الفوائد فقال: "ومن يلق مصرعه في المعركة، تحلل من ذنوبه، وغفر الله أخطاءه، فالحياة هنا أضحت تعسة كثيرة الشرور بعد أن أضنى الناس أنفسهم في تدمير أجسادهم وأرواحهم وسوف ينعمون هناك بالسعادة والرخاء ويكونون أصدقاء أوفياء لله".
وقد استجاب جمهور الحاضرين لهذا النداء الحاقد على الإسلام والمسلمين "فصاحوا جميعاً صيحة رجل واحد "هذه مشيئة الله..." وجاءت هذه الصيحة إيذاناً لبداية صفحة جديدة في تاريخ الحروب الصليبية قدر لها أن تستمر عدة قرون".