البروفيسور نائل حنون: اكتشفت مدينتين وقصائد أكدية موزونة قبل ظهور الشعر العربي بألف عام.
عبدالرزّاق الربيعي
يقف نائل حنّون اليوم كواحد من علماء الآثار القليلين الذين يجيدون اللغتين السومريّة والأكديّة، نطقا، وكتابة، وقد قام بترجمة العديد من النصوص المكتوبة بالأكديّة، من بينها«ملحمة جلجامش»، و«موت جلجامش». يحمل نائل شهادتي ماجستير في الآثار القديمة، والكتابات المسمارية، وشهادة الدكتوراه في اللغة الأكدية وآدابها من جامعة تورونتو في كندا، عمل في المتحف العراقي باحثًا ومنقبًا، وأستاذًا في جامعات القادسية، وواسط، والكوفة (1989-2003) وفي جامعة دمشق (2004-2012)، وكان رئيسًا لشعبة العصور التاريخية في هيئة الموسوعة العربية، ورئيسًا لقسم المتاحف في معهد الآثار، والحضارة في سوريا، شغل موقع عميد كلية الآداب في جامعة القادسية (1995-2001)، وعميد كلية التربية في جامعة واسط (2001-2003)، وقام بأعمال التنقيب الأثري في ستة مواقع أثرية في العراق تمخّضت عن اكتشاف مدينتين قديمتين، وحدّد مواقع عشرات المدن القديمة غير المكتشفة، ومن كتبه الصادرة: عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة (طبعتان: 1978 و1986)، نظام التوثيق الآثاري (1992) المعجم المسماري (2001)، عقائد الحياة والخصب في الحضارة العراقية القديمة (2002)، شريعة حمورابي، ترجمة النص المسماري مع الشروحات اللغوية والتاريخية، خمسة أجزاء (2005)، الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة (طبعتان: 2005 و2018)، ملحمة جلجامش (طبعتان: 2006 و2017)، المدافن، والمعابد في حضارة بلاد الرافدين القديمة (طبعتان: 2006 و2019)، حقيقة السومريين، ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية (2007)، مدن قديمة، ومواقع أثرية (2009)، دراسات في علم الآثار واللغات القديمة، (2010)، نصوص مسمارية تاريخية وأدبية (2015)، اللغتان السومرية والأكدية (2016).
لاحظنا أنك تجمع، في أحاديثك وبحوثك ما بين اللغات، والكتابات القديمة، وبين علم الآثار. ما الذي يمكن أن يضيفه جمع هذين المجالين في الارتقاء بدراسة الحضارات القديمة؟ وكيف تنظر إلى دور لغات حضارة وادي الرافدين القديمة في يومنا هذا؟
– من المفارقات الغريبة أن علم الآثار القديمة هو علم حديث نشأ قبل أقل من قرنين ليكون وسيلة لدراسة الحضارات القديمة في عصورها السابقة لابتكار الكتابة والتالية له، أي في عصور ما قبل التاريخ، والعصور التاريخية. وفي حين أن دراسة عصور ما قبل التاريخ تعتمد كليًا على الدليل المادي المتمثّل بمخلفات الماضي مهما كانت طبيعتها، نجد أن دراسة الحضارات في العصور التاريخية (أي العصور التي عرفت ومورست فيها الكتابة) تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: الآثار المادية، والنصوص الكتابية. إن اقتصار التخصّص على إحدى هاتين الركيزتين يؤدي إلى قصور في دراسة مقوّمات الحضارة، والتعمّق في فهم نتاجها. وفيما يخصّ حضارة وادي الرافدين القديمة، فإن دور اللغة الأكدية فيها له تميّز خاص يقوم على عدة عوامل، فضلًا عن توثيقها لشؤون حياة الأسلاف على تنوعها، ومن هذه العوامل أنها كانت اللغة الرئيسة في هذه الحضارة، ودوِّن بها الجزء الأكبر من نصوصها خلال جميع عصورها طوال ثلاثة آلاف عام، وانتشر استعمال هذه اللغة في الكتابة ليس فقط في بلاد وادي الرافدين فحسب، وإنما في بلاد الشام، والجزيرة العربية، ومصر فضلًا عن المناطق المحيطة بالمشرق العربي من بلاد فارس، وبلاد الأناضول. لقد وحّدت هذه اللغة الأقوام القديمة، إذ استعملها الأكديون، الأموريون/الكنعانيون، الآراميون، والعرب قبل تدوين كلّ من هذه الأقوام الشقيقة لغاتها. وبهذا تقدّم لنا النصوص الأكدية مفردات عربية كثيرة جدًا قبل تاريخ تدوين اللغة العربية بعشرات القرون، وتوضّح قواعدها اللغوية أصول قواعد العربية، لأنها كتبت وفقًا لقواعد شاملة، وهي اللغة الشقيقة للّغة العربية. بعبارة أخرى أن دراسة اللغة الأكدية وتاريخ مفرداتها تمثّل كشفًا للتاريخ المستتر للّغة العربية، وتمهّد لوضع المعجم التاريخي لها، وهو المعجم الذي طال انتظاره.
في جلسة حوار مفتوح ذكرت أنّ النصوص الأدبية في اللغات القديمة يمكن أن تكشف لنا عن معلومات مهمة ما تزال مجهولة، وتقودنا إلى تحقيق اكتشافات جديدة، في حين أن عماد النصّ الأدبي الخيال، كيف يمكن اعتماد تلك المعلومات؟
– وُجدتْ نصوص أكدية تصنف بكونها من أدب الرحلات، ويمكن تخيّل كم من أسماء المدن القديمة المندثرة، ومجهولة الموقع ترد في هذه النصوص مع إمكانية تقديم الدليل على مواقعها، وبقاياها في الوقت الحاضر. نص واحد من هذه النصوص قدّم لنا مثل هذه المعلومات عن أكثر من ستين مدينة على مسار رحلة امتد من جنوب العراق إلى منطقة الفرات الأعلى في سوريا. ولقد أمكننا تتبع مراحل هذه الرحلة، ومطابقة كلّ مدينة مذكورة فيها مع موقع أثري على مسار الرحلة. ثم إنّ هناك النص الأدبي السومري المعروف بعنوان «موت جلجامش»، وهو نص ليس من ضمن ملحمة جلجامش الأكدية المشهورة، الذي أعطانا معلومات مفصلة ودقيقة عن موضع ضريح جلجامش في قاع مجرى مندرس لنهر الفرات كان يخترق مدينة أوروك (الوركاء) المعروفة والتي كان جلجامش ملكًا عليها في الواقع. لقد اقترحتُ، قبل نحو ستة أعوام، على جهة معنية الاستفادة من هذا الدليل للكشف عن الضريح. لم أجد تقبّلًا للمقترح بحجّة أنّ النصّ الأدبي لا يعوّل عليه لتحقيق اكتشاف أثري. حينها سحبتُ الاقتراح لأني وجدت القوم على غير معرفة بأن علم الآثار تأسّس أصلًا على قيام المستكشف الألماني هنريك شيلمان بالبحث عن مدينة طروادة التي قرأ عنها في إلياذة هوميروس، على الرغم من وجود اعتقاد في حينه بأنها ليست مدينة حقيقية وإنما من نسج الخيال. وكان أن قاد بحثه إلى البدء في أول أعمال تنقيب أثري في الموقع الذي توقع شيلمان أنه يضم بقايا تلك المدينة. كان هذا في عام 1870م، وأدى بالفعل إلى اكتشاف يعدّ حتى اليوم من أعظم وأولى المكتشفات الأثرية في التاريخ.
المعروف أن الاسم القديم لعُمان هو «مجان»، بصفتك مختصًا بالآثار واللغات القديمة ما الذي يعنيه لك هذا الاسم؟
– منذ نحو قرن ونصف عرف من خلال النصوص المسمارية اسم بلاد بصيغة مَجان Magan (تلفظ الجيم معطشة باللفظة القاهرية) في النصوص السومرية ومَكَّان Makkan في النصوص الأكدية. وأطلق على البلاد نفسها اسم مَكّاش Makkaš في النصوص العيلامية ومَكا Makā في النصوص الفارسية القديمة. كانت مَجان إحدى ثلاثة بلدان أشير إليها في النصوص المسمارية في وادي الرافدين على أنها تقع على امتداد «البحر الأسفل»، أي الخليج العربي وبحر العرب. البلدان الآخران كانا دلمون وميلوخّا. إن دلمون تتطابق حاليًا مع البحرين، ولعلها كانت تشمل أيضًا الشاطئ الشرقي لشبه الجزيرة العربية. أما مَجان وميلوخّا فيظهران في النصوص الأدبية السومرية على أنهما بلدان بعيدان، وكلاهما كان مصدرًا لأنواع متعدّدة من البضائع النفيسة. وتؤكد نصوص مسمارية أخرى أهمية منتجات هذين البلدين لحضارة وادي الرافدين القديمة. شملت هذه المنتجات: الأخشاب، النحاس، حجر أسود (قد يكون ديورايت أو ما يشابهه)، وأحجار شبه كريمة من مجان، وخشب أسود (البقس)، عاج، ذهب، فضة، عقيق، ولازورد من ميلوخّا. وهذه الأخيرة كانت تطابق في ذلك الوقت منطقة وادي السند حيث قامت الحضارة الهارابية، على أرض الباكستان الحالية. وكان معظم هذه البضائع، إن لم تكن كلّها، ينقل عن طريق البحر إلى وجهتها الأخيرة في وادي الرافدين. وقد وثقت عملية النقل هذه في نصوص سرجون، ملك أكد (2334-2279 ق.م)، إذ يذكر فيها أن سفنًا من مَجان، ميلوخّا، ودلمون كانت ترسو في ميناء العاصمة الملكية أكد.
يتضح من هذا أنّ علاقات تجارية متطوّرة، وموثّقة كانت تربط ما بين عُمان وبلاد الرافدين قبل نحو أربعة آلاف وأربعمائة عام، بينما الاعتقاد السائد عند الكثير منا أن الطابع الحربي والصراع هو الذي كان سائدًا في العصور القديمة، كيف يكون ذلك؟
– إننا نتحدث عن حضارات متطورة، ورائدة في تاريخ البشرية وليس حياة أقوام بدائية قوامها الصراع بعيدًا عن الخيارات المتوازنة ما بين مقومات الدول وحياة الشعوب ومصالحها في ظل معارف متطورة. في عهد سرجون الأكدي كانت العلاقات تجارية سلمية بين وادي الرافدين ومَجان إلى درجة الترحيب بسفن مَجان في عاصمة الإمبراطورية نفسها. ولكن خلفاء سرجون الأكدي ابتعدوا عن المسار السلمي، وأرادوا ضمان مصالحهم التجارية بالقوة فوجّهوا الحملات الحربية نحو مَجان، وربما كانت بداية هذا الصراع نشوب خلافات تجارية. فنحن نعرف من الوثائق المدونة أن ابن سرجون، مانشتوشو، أرسل حملة حربية إلى الخليج العربي يرجّح أن مقصدها شمل مَجان. أما حفيد سرجون، نَرام- سين (2254 – 2218 ق.م)، فيذكر في نصوصه صراحة أنه شنّ حملة ضد مَجان و«سيطر» على حاكمها مانيئُم. والفعل الأكدي الذي استعمل في النص هنا هو «كمأ» (ك م أ) الذي يضاهي الفعل العربي «قمع»، واستعمال هذا الفعل في النص بدلًا عن الفعل «كشد» (بمعنى غلب) له دلالة على أن نَرام- سين لم يتمكن من إسقاط حاكم مَجان أو احتلال بلاده. ويرد في النص نفسه أن الملك الأكدي استخرج حجر الديورايت (أيسي في النص) من حبال مَجان وجلبه إلى عاصمته (أكد) حيث صنع منه تمثالًا لنفسه. وهذا الحجر (أيسي) قد يكون الديورايت مثلما يترجم عادة، أو حجر الزبرجد الزيتوني، وكلا الحجرين متوافر بكثرة في جبال عُمان.
هل استمر هذا التحول في العلاقات ما بين عُمان القديمة، وبلاد الرافدين طويلًا من غير العودة إلى طبيعتها السلمية الأولى؟
– بعد سقوط سلالة أكد سرعان ما استعادت العلاقة بين وادي الرافدين ومَجان صفتها التجارية السلمية. وأخذ جوديا، حاكم دولة – مدينة لجش في جنوب وادي الرافدين في نحو 1150 ق.م، يستورد حجر الديورايت من مَجان لتنحت منه التماثيل الكثيرة له، وهي التماثيل التي وجد بعضها طريقه إلى متحف اللوفر ومتاحف عالمية أخرى. وحين تأسس حكم سلالة أور الثالثة في مدينة أور على يد أور- نمو (2112-2095 ق.م) وضعت الأسس الصحيحة للتجارة مع مَجان في ظل علاقات سلمية مزدهرة مثلما تدلّ نصوص عصر تلك السلالة. ويظهر في هذه النصوص أحيانًا اسم التاجر لو- أنليلّا الذي كان يدير شؤون التجارة بين أور ومَجان، مثلما كان أيا- ناصر يدير شؤون التجارة بين دِلمون ووادي الرافدين في الألف الثاني قبل الميلاد. وكان لو- أنليلّا يحصل في مَجان على منتجات محلية، وبضمنها النحاس والمغرة، ومنتجات مستوردة من الشرق، مثل الأحجار شبه الكريمة والعاج، ويبعثها إلى العاصمة أور. وفي المقابل كانت شحنات من الجلود، الصوف، الأردية المنسوجة، زيت السمسم ومحاصيل نباتية أخرى ترسل إلى مَجان.
ولكن هل اقتصر دور مَجان في هذه العلاقة على كونها مصدرًا للمواد الخام، أو ناقلًا للبضائع ما بين مصادرها وبين بلاد الرافدين، فقط؟ أم كانت هناك أدلة واضحة وموثقة على دور أكبر من هذا في العلاقة مع «الدولة الكبرى» بمعايير ذلك الزمان؟
– قطعًا لم يكن دور عُمان حينذاك (في الألف الثالث قبل الميلاد) مقتصرًا على ذلك فقط، وإنما كانت تمتلك صناعات تنتج الفخار، والمواد الحجرية والنحاسية. وهنا يأتي الدليل المادي ليسد الثغرة الموجودة في الدليل الكتابي. فقد عثر من خلال أعمال التنقيب الأثري في أرجاء سلطنة عُمان على منتجات هذه الصناعات، وكذلك وجد الدليل على ما كان يصدر منها. فمثلًا عثر في جنوبي العراق على طاستين من حجر الألباستر وطاسة من حجر الكلس وكسرة من طاسة من حجر الطلق الكتلي (ستياتيت) الأسود. تحمل كل واحدة من هذه القطع نقشًا لملك أكد، نَرام- سين، يدل على أنها جلبت من مَجان. الطاسة الأولى عثر عليها قرب موقع مدينة بابل، على شط النيل، والطاستان الثانية والثالثة مجهولتا المعثر، في حين أن كسرة الطاسة الرابعة وجدت في موقع مدينة أور تحت أرضية الغرفة رقم 11 في مبنى معبد «أي- ننماخ»، وهذه الأرضية معاصرة لعهد الملك الكاشي كوريكالزو (في القرن الرابع عشر قبل الميلاد). القطعة الأولى فقدت في نهر دجلة بحسب ما ذكره المستكشف البريطاني الشهير هنري رولنصن في مذكراته. القطعة الثانية ثبت أنها مزورة بشكل مؤكد، وهي محفوظة في المجموعة البابلية في مكتبة جامعة ييل في نيوهيڤن في أميركا تحت الرقم NBC 2527. القطعة الثالثة محفوظة في متحف بمدينة القدس تحت الرقم BLMJ 929. أما القطعة الرابعة فقد استخرجت عن طريق التنقيب الأثري في أور وأعطيت رقم الحفريات U 282+283 وحفظت في متحف الجامعة في فيلادلفيا في أمريكا تحت الرقم CBS 14951+14952.
اشتهرت حضارة بلاد الرافدين القديمة بكثرة نصوصها المدوّنة بالخط المسماري على ألواح الطين، وكذلك باتساع أفق ما وثقته تلك النصوص، فهل كان لعُمان مساحة مناسبة في ذلك الأفق؟
– يبلغ مجموع ما اكتشف حتى الآن من الرقم الطينية التي تحمل النصوص المسمارية لحضارة بلاد الرافدين القديمة قرابة نصف مليون. وهناك مئات الآلاف من النصوص التي لم تكتشف بعد. تلك النصوص وثّقت مختلف جوانب الحياة ومظاهرها. وقد بلغت دقّة التوثيق حدًا اكتشفت معه مذكرة من الملك إلى زوجته الملكة حول تنظيم عملية تجفيف الثوم على سطح جناح المطبخ في القصر الملكي. وبالفعل اكتشفت هذه المذكرة «الطينية» الصغيرة في القصر الملكي في مدينة ماري (تل الحريري، على الحدود العراقية- السورية). وفيما يخصّ عُمان نجد أنه بعد الإشارات السابقة بزمن طويل، وتحديدًا في الألف الأول قبل الميلاد، تعود النصوص المسمارية للحديث عن عُمان، إذ يذكر الملك الآشوري آشور- بانيبال (668- 627 ق.م) في نصوص حولياته أنه توجّه في حملته الحربية الأولى إلى مَجان وميلوخّا. وهنا يحدث ما أربك الباحثين، إذ أن النص لا يتحدث عن مَجان وميلوخّا البلدين المذكورين في نصوص الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، أي عُمان ووادي السند، وإنما عن مصر والحبشة. وهذا الإرباك أدى إلى أن يساء تفسير نصوص الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد على الرغم من وضوح دلالاتها. والتفسير الذي نرجّحه حاليًا أن النصوص الآشورية في الألف الأول قبل الميلاد استعملت، بعد مرور مئات السنين، المصطلحين القديمين للدلالة على مصر، والحبشة وليس على عُمان ووادي السند.
وما الاسم الذي استعملته النصوص الآشورية لعُمان، ووادي السند في هذا الوقت؟
– الجواب يأتي من نصوص آشور- بانيبال نفسها، فقد ورد فيها أن پادي، الذي كان يحكم بلاد قاديي، بعث في عام 640 ق.م هدايا إلى آشور- بانيبال. إن اسم قاديي ذكر بصيغة كاداي أو كاديي المقترن، بحسب الكاتب الروماني ﭙليني بجزء من جنوبي شبه الجزيرة العربية. وفي ضوء ما ورد في نقوش فارسية قديمة من عهد داريوس الأول (521- 486 ق.م) يعد مصطلح قاديي مرادفًا في الأكدية للمصطلح الفارسي القديم مَكا الذي أطلق على مَجان. وهذا ما يشير إلى أن قاديي كان الاسم الذي خلف الاسم القديم «مَكان» في القرن السابع قبل الميلاد. وتعود نصوص آشور- بانيبال لتذكر أن الحاكم ﭙادي كان مقيمًا في عاصمته إزكي (بالمقاطع الأكدية إز- كِ- ي iz- ki- e) في بلاد قاديي. ومن المؤكد تقريبًا أنها نفسها المدينة العُمانية العريقة إزكي الحالية، في محافظة الداخلية شمال- غرب مسقط، والتي بقيت محتفظة باسمها القديم لأكثر من 2600 سنة. ويتوافق هذا مع الكلام المتداول عن إزكي باعتبارها أقدم مدينة في السلطنة.
بعد أن عرفنا هذه المعلومة المهمة عن إزكي ودورها في التاريخ القديم وباسمها الحالي نفسه. سؤالنا الآن عما إذا كنا نعرف مدنًا عُمانية أخرى كانت مزدهرة في العصور القديمة؟
– لا توجد لدينا في الوقت الحاضر معلومات عن المدن الأخرى، ولكن الحصول على مثل هذه المعلومات يتطلّب تنشيط أعمال الاستكشاف، والتنقيب الأثري في أرجاء السلطنة لا سيما أن أعمال التنقيب التي تمّت حتى الآن، من قبل بعض البعثات الأثرية الأجنبية، نجحت إلى حد كبير في الكشف عن مواطن سكنى قديمة، ومواد أثرية فائقة الأهمية، وقد نشرت نتائج هذه الأعمال في الولايات المتحدة، وكذلك في المملكة المتحدة. ولقد آن الأوان لتجري حملة وطنية في سلطنة عُمان لدراسة ما تمخضت عنه أعمال التنقيب تلك ثم وضع خطة لعمليات أثرية لبناء «علم آثار عُمان» لتحقيق اكتشافات جديدة مع تبنّي نشر النتائج المتحقّقة، والمعرفة الأثرية. على أن يمهّد لهذا بسنّ التشريعات التي تكفل حقّ البلاد بتراثها الأثري، وحماية هذا التراث مع تمييزه عن التراث الشعبي الذي له أهميته الكبيرة المتمّمة للتراث الأثري.
وماذا عن الجهود المبذولة في مجال الاستكشافات، والتنقيب الأثري في سلطنة عُمان؟
– ابتدأت أعمال الاستكشاف والتنقيب الأثري المبكرة خلال العصر الحديث في سلطنة عُمان حينما أجرت البعثة الأثرية الأميركية تحرياتها في ظُفار في عامي 1952- 1953م، ونشرت نتائج أعمالها في عام 1982م. وفي عام 1973م قامت بعثة من جامعة هارفرد بأعمال المسح الأثري لمواقع من عصور ما قبل التاريخ في عُمان نشرت نتائجه في عام 1974م.
وقد أدار جوريس زارنز Juris Zarins أعمال بعثة ما وراء الجزيرة العربية الأثرية في ظفار التي استمرت أربع سنوات (1992-1995م). في رأس الحد (الطرف الشرقي من السلطنة)، ورأس الجينز القريب منه، أديرت أعمال التنقيب الأثري في الأعوام 1988 – 1989 و1992 من قبل عالم الآثار جوليان ريد، من المتحف البريطاني. وفي منطقة صُحار ابتدأت التحريات الأثرية في عام 1958 بحفر مجسات سبر في التل الأثري، على بعد 4.5 كم تقريبًا جنوب مدينة صُحار، حيث كشف عن بقايا مدينة من الألف الأول قبل الميلاد. وتواصلت هذه التحريات في عام 1975م والأعوام 1984 – 1986م.
يرجّح بعض الباحثين أن ّعمليات التعدين القديمة اعتمدت على التعرّف على خامات متميزة ظاهرة، لذا عرفت عُمان منذ القدم بأنها مصدر النحاس للحضارات القديمة، هل يوجد ما يعزّز ذلك؟
– لقد استعملت الخامات المعدنية، مثل خام النحاس الأخضر (malachite)، باعتبارها أحجارًا ملونة. إن الدراسات المنهجية عن التعدين القديم قليلة، وأفضل مجمعات تعدين قديمة موثقة هي التي في سلطنة عمان، وفي (تمنع) في فلسطين، و(فينان) في المملكة الأردنية الهاشمية. أما عمليات التعدين القديمة في قبرص، وبلاد الأناضول فلم تدرس بشكل شامل حتى الآن. ويعد أفضل مؤشر على تعدين النحاس في العصور القديمة غالبًا وجود كميات كبيرة من الجفاء المذوب وكسر بوتقات الصهر في مواقع قريبة من مكامن النحاس. والنحاس في عُمان من الودائع الكثيفة جدًا، وهي الآن موثقة بشكل جيد نتيجة لإصدارات عن بعثات أميركية، إيطالية، وألمانية عملت في السلطنة منذ مطلع عصر النهضة المباركة في عهد جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- في سبعينيات القرن العشرين. ويبدو أن فعاليات استخراج النحاس في تاريخ عُمان مرت بعصرين، الأول من نحو 2500 إلى 1700 ق.م، ومركزه الرئيس في ميسَّر بوادي سمد، والثاني خلال العصر الإسلامي ومركزه في الأصيل. ولكن في العصر الأخير كانت العملية -على الأرجح- عبارة عن إعادة عمل في العصر البرونزي، وقد يكون هذا التدوير مفروضًا بسبب التجريف الناجم عن قطع الأخشاب لاستعمالها وقودًا في أفران الصهر مما يتطلب فواصل زمنية طويلة لنمو الأشجار. إن التحليل المختبري لمصنوعات معدنية من وادي الرافدين أظهر بوضوح أن أقدم استيراد للنحاس كان من الهضبة الإيرانية، ولكن في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد تحول الاستيراد ليكون من عُمان. وكان تصدير هذا النحاس إلى وادي الرافدين يتمّ في مراحل مختلفة من التعدين، والتصنيع، فعمليات السحق والصهر وإنتاج أدوات نحاسية/ برونزية كانت تجري في مواقع الاستخراج العُمانية. على سبيل المثال اكتشفت سبائك النحاس في البحرين التي تخلو من خام النحاس، كما أنّ موادَّ مصنّعة وجدت في مواقع جبال عُمان التي يتناثر فيها خَبَث المعدن وسبائك وأفران صهر. وفيما بين جبال عُمان والبحرين وجدت سنادين، وأحجار سحق، ومطارق مشابهة للتجهيزات المستعملة في التعدين في مواقع مثل هيلي وأم النار. وقد بلغت شهرة نحاس عُمان في وادي الرافدين أن مجموعة نصوص مسمارية لابتهالات مدونة على ألواح الطين تصف مَجان بأنها «بيت النحاس». وكشف التنقيب الأثري في «ميسر» ليس فقط عن المراحل المختلفة لسحق النحاس وتنقيته، ولكن أيضًا عن أكبر مجموعة مكتشفة من سبائك النحاس (بشكل الكعكة)، ليس لها مثيل في أي مكان من الشرق الأدنى.