عميد الأدب الشعبي السوري حكمت محسن في ذكرى رحيله
ولد حكمت محسن عام 1910 في أسرة فقيرة، توفي أبوه وهو صغير؛ وبسبب الفقر الشديد والجوع والحرمان لم يتمكن حكمت محسن الذي سكن مع أمّه في عدّة غرف بالأجرة في سوق ساروجة والمهاجرين وقبر عاتكة والقنوات وباب سريجة من متابعة دراسته فترك الدراسة وهو في العاشرة من عمره… عمل إجيراً عند البقّال والخضري والكوى والحلاّق والحدّاد والنّجار والخيّاط فاختلط مع أنماط الناس كافة، ثم استقر على مهنة التّنجيد، وقد أسس أول نقابة للمنجدين في سورية.
لم تتمكن مهنة التنجيد من أن تحدّ من موهبته الفكاهية فما إن سمع أن فرقة أمين عبد الله قادمة من مصر حتى وجد نفسه يحضُر لها عرضاً مسرحياً، وذهب ليقابل صاحبها أملاً بالانضمام إلى فرقته المسرحيّة، كمتطوّع من دون أجر، فوافق الفنّان على طلبه… وكان لما يتجاوز الرابعة عشرة من العمر.
ثم شكَّل حكمت محسن مع لفيف من أصدقائه فرقة تمثيلية، وبدأت بتقديم التمثيليات في بعـض البيوت الدمشـقية الكبيــرة واستقطبت هذه الفرقة جمهوراً كبيراً، ثم انتقل مع فرقته ليقدم عروضه على المسارح… لكن الفرق المنافسة التي تشكلت وقتئذ لم تترك له المجال فكان أعضاؤها يكيلون له الدسائس… فانتقل للعمل في الإذاعة.
في الإذاعة ظهرت قدرته الهائلة على التّعامل مع النّاس وتسليتهم وإسعادهم وتقديم المتعة والفائدة، على الرغم من أثقال المسؤوليّة الإنسانيّة الملقاة على عاتقه، فكان رائد المونولوجات والمسرح، وقدم عدة تمثيليات من تأليفه مثل: ( نهاية سكير – يا مستعجل وقف لقلك- الكرسي المخلوع – مرايا الشام – العصابة – مذكرات حرامي – يا آخذ القرد على ماله – معليش البرغي باظ – معليش تهوي السيارة – أبو رشدي مابيسكت على عوجا… ) على أن أشهر عمل قدمه هو (صندوق الدنيا) الذي لقي إقبالاً واسعاً بعدما سجل لإذاعة الـ (بي بي سي) البريطانية في قبرص ثلاثين حلقة منه.
ازدادت شهرة حكمت محسن فقدم العديد من المسرحيات في إذاعة دمشق وبلغ عدد الحلقات التي شارك فيها أكثر من 800 حلقة، أُعيد في العام 1968 إنتاج مسرحيته (صابر أفندي) التي عرضت في عام 1959 من قبل المسرح القومي بدمشق بتوقيع الفنان عبد اللطيف فتحي عليها للمرة الثانية.
ولم تكن هذه التمثيليات للإضحاك فقط بل قدم حكمت محسن من خلالها تاريخاً للعلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد الشعب آنذاك؛ وعرض السلوكيات الناجمة عن تفاعل الناس مع بعضها، فربط التراث المحلي بالتراث الشعبي العام.
ثم انتقل للعمل في التلفزيون…
وقد حاول حكمت محسن أن يؤسس لمشروع مسرح شعبي لكن النخبة المثقفة آنذاك كانت لا تريد إلا مسرحاً كلاسيكياً فتمت إعاقة مشروع المسرح الشعبي، إلى أن صدر قرار دمج المسرحين معاً عام 1969.
يعتبر حكمت محسن مؤسس الدراما الشعبية في الإذاعة وفي المسرح وفي التلفزيون، كما أنه ابتكر بعض الشخصيات العظيمة الشهيرة التي لازمت المجتمع السوري لعقود طويلة وأثَّرت في الدراما لفترات طويلة بشكل كبير جداً؛ مثل (أبو رشدي، أبو فهمي، أبو صياح، أم كامل، وغيرهم)، كما ساهم في تأسيس المسرح الشعبي عام 1959 قبل أن يندمج مع المسرح القومي بعد عشر سنوات من تأسيسه.
ولقد أثبت أبو رشدي حكمت محسن أنه سيد في التأليف وسيد في التمثيل.
وفي النهاية اختلف حكمت محسن مع إدارة الإذاعة آنذاك التي لم تقدر تلك الموهبة الكبيرة حق قدرها، فوجّهت إليه عقوبة خصم 10% من راتبه بسبب تأخّره خمس دقائق عن الدوام الرسمي، وحين علم حكمت محسن بهذه العقوبة ذهب إلى رئيس الدائرة واستلم كتاب العقوبة، وحين قرأ الكتاب لم يقل شيئاً، ولكنه نظر ملياً إلى رئيس الدائرة ثم التفت خارجاً من المكتب، ومن يومها صمت ولم يعد للكتابة.
كان حكمت محسن قد استأجر داراً في المهاجرين في طلعة الشمسية عام 1965 وسكنها مع ولديه؛ وفي مساء يوم الثلاثاء 19- 11 – 1968 أمضى محسن السهرة مع ولديه بكامل مرحه وفرحه ثم دخل لينام فسمعوا صوت همهمته وأشار إلى فمه أنه لا يستطيع الكلام فأومأ إلى أولاده أن يقتربوا منه فاحتضنهم…
جاءت سيارة الإسعاف ونقلته إلى المشفى حيث توفي هناك بانفجار في الشرايين دون أن ينطق بكلمة واحدة.
ولما علم الناس بالخبر تقاطرت جموع المواطنين على الحي بشكل لم يسبق له مثيل، وتعطل السير وتم تشييعه بموكب رسمي وشعبي.
إعداد : محمد عزوز
من موسوعته ( راحلون / في الذاكرة ) الألف الأولى
"عن الفن السوري"