التأصيل التوراتي للإرهاب الأمريكي اليهودي (5)
مصطفى إنشاصي
رؤية هرتزل التي تحدثنا عنها في الحلقة الماضية هي رؤية توراتية لنهاية العالم وسيادة اليهود بحسب وعد الرب لهم، ولم تكن من بنات أفكاره، ولا اجتهاد شخصي منه لكنها وعد الرب لـ(شعبه المختار) بتحطيم كل الآلهة الأخرى ويحكم الأرض: "الرب رهيب عليهم فيستأصل جميع الآلهة وله يسجد الناس كل واحد من موضعه جميع جزائر الأمم". نبوءة صفينا 2/11.
ألم يقضي يشوع على كل ملوك الأرض في فلسطين وبلاد الشام، ودانت له الأرض بعد قتله أولئك الملوك جميعاً، وقد ذكر أسمائهم واحداً واحد في سفر يشوع، 12/7 ـ 24: "فكانت جملة عدد الملوك واحد وثلاثين ملكاً". ومسيح اليهود الذي سيأتي آخر الزمان ويكون ملكاً للعالم يمتد سلطانه – كما تذكر التوراة- ليغطي كل الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، وذلك بعد إعادة بناء هيكلهم المزعوم، ليس شخصاً بعينه، ولكنه رمز للسيادة والسلطان لليهود الذي يكون مركزه القدس، حيث جاء في المزمور 68/29: "يقدم الملوك لك الهدايا في أورشليم لأن هيكلك فيها".

مخطط الترحيل القسري لاغتصاب الأرض
وإذا ما علمنا أن الرب رهن تحقيق وعده لليهود بالسيطرة على العالم باغتصابهم فلسطين، وتطهيرها من أهلها بالقوة، واستئصال وإبادة جميع سكانها، لذلك جاءت كل أوامر الرب بالقتل والإبادة الجماعية من أجل اغتصاب الأرض بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه توعدهم أنهم إذا لم يفعلوا ذلك، فإنه سيفعل بهم ما كان سيفعله في أهل فلسطين، من إبادة جماعية واستئصال. ورد في (سفر التثنية: 8/20): (كالأمم التي يبيدها الرب من أمامكم هكذا أنتم أيضاً تبيدون، لأنكم لم تطيعوا أمر الرب إلهكم). ويبين لهم سبب تهديده لهم؟! وذلك خوفاً من أن مَنْ يبقى منهم يصبح (أشواكاً في عيونكم، ومناخس في جنوبكم، ويضايقونكم في الأرض التي أنتم مقيمون فيها). (سفر العدد: 33/55)!
وإذا أضفنا أن الأرض كانت عامرة بأهلها، وأن الصهيونية تهدف إلى استجلاب يهود من أوطانهم الأصلية لتسكنهم مكان السكان الأصليين، أدركنا أن الخطط الصهيونية للترحيل القسري وإفراغ فلسطين من أهلها؛ إنما هي تنفيذاً لتعاليم الرب، وأن القتل إنما كان لإرضاء الرب، حتى لا يُنزل بهم ما كان سينزله بالفلسطينيين. وأن جميع الأعمال الإرهابية والمذابح والمجازر التي ارتكبها ومازال يرتكبها اليهود في فلسطين وجوارها تمت وتتم بوعي ديني، وأنها لم تأتي استجابة للحظة التي حدثت فيها، أو للظروف الطارئة التي تطلبت مثل تلك الجرائم. وأن الشعار (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) الذي أطلقه البريطاني البروتستانتي التوراتي شافتسبري، الذي كان مهووساً بخرافات التوراة، ونبوءات العودة والسيادة العالمية اليهودية هو شعار يهودي توراتي، أساسه إلغاء الآخر وعدم الاعتراف به، والحكم عليه مسبقاً بالموت، وفيه إشارة إلى ضرورة إبادة السكان الأصليين في فلسطين توطئة لتحقيق وعد الرب باغتصاب الأرض.
إذا علمنا ذلك، أدركنا أن عمر خطة طرد سكان فلسطين هي بعمر التوراة، التي كتبت بداياتها أيام السبي البابلي، أما حديثاً فهي بعمر الحركة الصهيونية ذاتها، فقد كان هرتزل رائدا في وضع المخطط والرؤية التوراتية لكيفية التعامل مع سكان فلسطين الأصليين، من أجل تحقيق المخطط اليهودي لإفراغ الأرض من أهلها واغتصابها. فقد كتب في يومياته: (سنسعى لتهجير السكان المعدومين عبر الحدود من خلال تدبير الوظائف لهم في بلاد الانتقال، لكننا سنمنعهم من القيام بأي عمل في بلدنا .. وعمليتا الاستيلاء على الملكية وترحيل الفقراء ينبغي أن تجريا معا بصورة محكمة وحذرة).
كما أنه اقترح طريقة أخرى للتخلص من الفلسطينيين، وذلك باستخدامهم كأرقاء عند المغتصبين اليهود وتسخيرهم للقيام بالمهام الصعبة والخطرة التي لا يجوز أن تزهق أرواح اليهود فيها أو بسببها. فقد كتب في يومياته: (إذا انتقلنا إلى منطقة حيث توجد حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود كالأفاعي الكبيرة مثلاً فسأحاول أن استعمل السكان البدائيين للقضاء على الحيوانات قبل أن أجد لهم عملاً في البلاد التي يعبرون إليها).

وفي كتابه "دولة اليهود" كتب رأي ثانٍ، بعد أن ينتهوا من الأعمال الخطرة وتهيئة الأرض وجعلها صالحة لحياة اليهود، فإنه يجب التخلص منهم بالإبادة الجماعية، وبأسلوب حضاري جداً، باستخدام أساليب ووسائل ومنجزات العصر الحديث في عملية الإبادة العصرية، بأسلوب رمزي: (لا يتم تأسيس دولة الآن بالأسلوب ذاته الذي كان يستعمل قبل ألف سنة، فمن الغباوة العودة بمستوى الحضارة إلى الوراء كما يقترح الكثير من الصهيونيين. فلنفترض على سبيل المثال أننا أجبرنا على أن نخلي بلداً ما من الوحوش، يجب علينا أن لا نقوم بهذا العمل وفقا لأسلوب الأوروبيين في القرن الخامس كأن نحمل الرمح ونذهب كل على حدة للبحث عن الدببة، يجب علينا تأليف حملة صيد كبيرة ومن ثم نجمع الحيوانات - الفلسطينيين الذين بحسب العقيدة اليهودية هم وجميع البشر من غير اليهود حيوانات - ونلقي في وسطها القنابل المميتة). ويمكن اعتبار أفكار وإشارات هرتزل تلك بمثابة الجذور الفكرية للمجازر والمذابح التي سيمارسها اليهود في فلسطين وجوارها بعد ذلك.

هكذا استلهم اليهود من التوراة سياستهم في البطش والعنف، التي تسير على خطى ادعاءات كتبة التوراة بتدمير يوشع بن نون لأريحا في قديم الزمان، وقضائه على جميع سكانها وحتى البهائم فيها، تنفيذاً لأوامر الرب. فالصهيونية تستوحي أفكارها الرئيسية، ومنطلقاتها السياسية والعملية في الحياة من التوراة. وبدون إطالة ولضيق المساحة، وطول الدراسة، نكتفي بهذه الخلفية الدينية اليهودية للفكر الصهيوني، لنعرض للتطبيقات العملية لتلك المعتقدات الدينية التوراتية.