-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني التوراتي: العلمانية مفهومية دينية؟! (13)
بقي أن نطرح سؤال ونحاول الإجابة عليه:
هذا الغرب الذي هو خليط من العلمانية والأفكار اللا دينية، والعقلية الاستعلائية الاستكبارية الإغريقية، وفلسفة القوة الرومانية، وإخضاعها للآخر جبراً وقهراً، وتعاليم التوراة الشريرة الاستئصالية التي لا تؤمن بحق الآخر في الوجود، ورهبانية النصرانية الزائفة الكاذبة، والعلوم الحديثة التي لا تؤمن بإله وترى أن لا إله والكون مادة، وأن إنسان عصر النهضة والتقدم التكنولوجي هو الإله أو قادر على صنع إلهه الذي يريد ...إلخ من مكونات العقلية الغربية التي هي من صنع الإنسان الغربي، وحده وليس لها من الله إلا القليل النادر إن وجد، هل يمكن أن تكون كل ذلك الخليط دين؟!
للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من:
تعريف الدين في المجتمعات الغربية
يقصد بالدين في مدارس العلوم الاجتماعية وتاريخ الأديان في الغرب، أنه: ظاهرة اجتماعية لها جانبان، هما: جانب نفسي "حالة التدين"، وجانب موضوعي خارجي، وهذا يتضمن العادات والشعائر والمباني والمعابد والروايات المأثورة والمعتقدات والمبادئ التي تدين بها أمة أو شعب أو مجتمع ما. والدين في اللغات الأوروبية (religion)، يرجع إلى أصله اللاتيني الذي يتكون من مقطعين (re) الذي يفيد الإعادة والتكرار، و(ligion) الذي أصله (legere) ومعناها الجمع والربط. فالدين في أصله اللاتيني الذي ترجع إليه اللغات الأوروبية يفيد معنى الربط والجمع المتكرر مرة بعد مرة.
وكأن اللغة اللاتينية تشير إلى أن مهمة الدين تكون في تحقيق الربط والجمع بين أتباعه. وهذا المعنى نجده في تعريفات العلماء الغربيين، الذين يجنحون إلى التركيز على وظيفة الدين أكثر من التركيز على حقيقة الدين ذاته. لأننا إذا ما استثنينا العقلانيين ومفكرو ما بعد الحداثة، يمكننا إجمال المفهوم الغربي للدين: بأنه "وحدة الربط الميتافيزيقية بين الإنسان والعالم". أما الدور الوظيفي للدين في المجتمعات الغربية؛ فإنه كما يقول كاسيرر: "يؤدي وظيفة نظرية وعملية لأنه يحتوي نظرة كونية وأُخرى إنثروبولوجية، فهو يجيب على السؤال عن أصل العالم وعن أصل المجتمع الإنساني".
لذلك يرى مالك بن نبي أن الدين هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن التجارب المتكررة خلال القرون، ويُعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، ولأننا لا نستطيع تناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب، فإن الفكرة الدينية لا تعتبر نسقاً من الأفكار الغيبية فقط، ولا تقتصر على الدين السماوي فقط، بل هي قانون يحكم فكر الإنسان، ويوجه بصره نحو أُفق أوسع، ويروض الطاقة الحيوية للإنسان، ويجعلها مخصصة للحضارة. وعلى ذلك فالإصلاح الديني ضرورة باعتباره نقطة في كل تغيير اجتماعي".
كما يرى أن دور الدين الاجتماعي منحصر في أنه "يقوم بتركيب" يهدف إلى "تشكيل قيم"، تمر في الحالة الطبيعية إلى وضع نفسي زمني، ينطبق على مرحلة معينة للحضارة. وبذلك يصبح دور الدين الاجتماعي منحصراً في أنه يقوم بتشكيل قيم المجتمع وحركته عندما يُعبر عن فكرة جماعية". أي بدون الدين لا يمكن أن يكون هناك ناتج حضاري. فالدين إذن هو "مُرَكَب" القيم الاجتماعية، وهو يقوم بهذا الدور في حالته الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية.
لذلك يجد دارسي تاريخ الأديان في الغرب صعوبة في الفصل بين مفهوم الدين ودوره الاجتماعي، فالدين يقوم بدور الربط بين أفراد المجتمع حول فكرة معينة، أو أفكار، أو اتجاهات، أو أي عقيدة أيديولوجية تجمع بين أفراد أمة من الأمم.
وقد اعتبر أرنولد توينبي أن انتصار العلم على الدين انتصاراً ساحقاً يشكل كارثة على العلم والدين معاً، وأن أخطر كارثة يواجها العالم اليوم هي أن الجماهير - وخصوصاً الغربية - قد استعاضت عن الفراغ الديني بأيديولوجيات لا تفترق عن الأديان البدائية من حيث وثنيتها حيث عبادة الذات وإن تسترت تحت ستار القومية أو الاشتراكية ـ متمثلة في تأليه الدولة أو الحاكم.
لذلك اعتبر يوسف الحوراني: أن الأفكار العلمية المعاصرة هي نوع من معطيات شبه دينية لعقائد جديدة في فهم العالم. معتبراً أن العقائد القومية والاجتماعية والسياسية، التي لا تزال تعيش في عصرنا وتخضع لعلاقات وروابط مثالية أو ميتافيزيقية لا تخرج عن كونها مظهراً جديداً من مظاهر الدين رافق تطور المجتمع من بدئه حتى الآن، والذي لا يخرج عن كونه حساً إنسانياً يتخذ أشكالاً مختلفة تختلف بين زمن وآخر، وبين أمة وأُخرى.
ذلك لم يفت مالك بن نبي وهو يُشرح الحضارة الغربية ويشخص أمراضها، ويبرز خصائصها المُمَيِزة لها، حيث أشار إلى الأفكار اللا دينية التي سادت الغرب بعد ضعف واضمحلال سيطرة وهيمنة الكنيسة والفكر الديني النصراني، معتبراً إياها "مفهومية دينية" في حقيقتها، حيث يرى "أن الفكرة الدينية لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمتها الغيبية ... أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية"، وعندما تُفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللا دينية نفسها، وعلى ذلك فأي مفهومية تطرح نفسها بديلاً عن المفهومية الدينية، هي دين، وهذا ما يحدث في الغرب فالمادية مفهومية دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين.
ولمعرفة الدور الفعال للفكرة الدينية في إنشاء الحضارات، علينا أن نتتبعه من خلال تتبع ذلك "الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبعث الحركة والنشاط" ذلك لأن الفكرة الدينية تشترط سلوك الفرد، فتخلق بذلك في قلوب المجتمع بحكم غائية معينة ـ تتجلى هذه (الغائية) في مفهوم (آخرة) وتتحقق تاريخاً في صورة حضارة، وذلك بمنحها إياها الوعي بهدف معين، تصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى، وهي حينما تمكن لهدف من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى أُخرى، فإنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء المجتمع ودوامه، وذلك بتثبيتها وضمانها لاستمرار الحضارة.
ذلك هو معنى ومفهوم الدين والدور الذي لعبه في تشكيل المجتمعات الغربية وما زال يلعبه إلى اليوم، وتلك كانت الظروف التاريخية التي نشأت فيها العلمانية في الغرب، فيا ترى هل ما صلح للغرب ـ إن صلح أصلاً ـ يصلح لنا، أو أن لكل مجتمع ظروفه التاريخية وخصوصيته العقائدية، وما قد يصلح لمجتمع ما لا يصلح لغيره، والبشر ليسوا نسخة واحدة مستنسخة على الطريقة الغربية ولا على طريقة روشتة البنك الدولي وصندوق النقد؟!
التعديل الأخير تم بواسطة مصطفى إنشاصي ; 01-20-2023 الساعة 06:56 PM
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني التوراتي: العلمانية مفهومية دينية؟! (12)
أختم حديث العلمانية بحوار دار بيني وبين الدكتور أفنان قاسم، والدكتور أفنان نصراني مقدسي، ومناضل فلسطيني يساري الفكر، كاتب ومؤلف وروائي، وعلى الرغم من ظاهر الاختلاف بيننا في الفكر والأيديولوجيا والدين إلا أنه جمعنا احترامنا لعقولنا ونشداننا للحقيقة بغض النظر عن انتمائنا الفكري، وكنا تبادلنا الرأي حول بعض مقالاتي ومنها محاضرتي عن العلمانية التي نشرتها في موقعه المتميز عام 2011:
أحترم وأقدر رأيك ولا أختلف معك في كثير مما جاء فيه، وما تفضلت به في السطرين الأولين هما بالضبط جوهر الدين البروتستانتي الذي جاء ليقدس العمل ويرفع من قيمة المادة والربح، واستفادت منه العلمانية السافرة التي سيطرت على الغرب وجمعت أسوأ ما أنتجه العقل الغربي في تحالف سياسي اقتصادي ديني – وكما قلت حضرتك لاستغلال الإنسان وحلبه سواء في وطننا أو حتى في الغرب نفسه - وما تلك المظاهرات التي يخرج بها الغربيين ضد مخططات دول الثماني وغيرها في العواصم الغربية وآخرها ما حدث في وول ستريت بنيويورك إلا دليل على أن النظام الرأسمالي الذي نتج عن تلك التطورات في الغرب يهدف لاستعباد الإنسان أينما وجد!
وإن كان البروتستانت قلة بالنسبة للمذاهب الأخرى إلا أنهم هم الذين تبنوا الأفكار الدينية اليهودية، وهم الذين فتحوا المجال لسيطرة اليهود على اقتصادات العالم بالاشتراك مع الرأسماليين الغربيين وأن يصبح دينهم المال، وذلك هو حقيقة الدين اليهودي في جوهره، وما اعتراض اليهود على أن يكون طالوت ملكاً عليهم إلا لأنه (لم يؤتَ سعة من المال)! وذلك التأثير والتحالف بين السياسي والديني في الغرب ضد وطني هو الذي جعل الكنيسة عام 1965 تبرئ اليهود من دم المسيح عليه السلام، علماً أن عقيدة اليهود أن يحمل الأبناء ذنب الآباء؛ والآباء قالوا (دمه علينا وعلى أبنائنا)!
وقد تطورت العلاقة بينهما وأنت أعلم بها إلى أن اعتذر بابا الفاتيكان لليهود عما لحقهم من أذى وعذاب بسبب ذنب آبائهم، واعتبر في أكثر من مناسبة أن الذي يجمع النصارى باليهود تاريخ مشترك، في الوقت الذي رفض فيه الاعتذار للمسلمين عما ارتكبه الغرب في الحروب الصليبية ضدهم، وذلك له أبعاده وأنت لا يفوتك ذلك!
وأنا معك أن كثير من اليهود والنصارى ضد سياسة بلدانهم وذلك ما أخبرنا به الله تعالى: "ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض". لم يقل كلهم ولكن قال بعضهم وذلك البعض هو الشر العالمي الذي يجب علينا جميعاً أن نتحد ضده، وتلك المظاهرات التي تناهضه في الغرب أصدق مثال على وحدة الهدف الذي يجمعنا، لذلك دائماً أقول أن اليهود والنصارى ليسوا كلهم وسواء.
وكما قلت في رد سابق بيننا: أن العلمانية ليست كلها شر، وأن المشكلة فيمن نقلوها لنا، الذين أرادوا استنساخها كما هي عن الغرب دون مراعاة للفوارق البينة في كثير من الأمور بيننا وبين الغرب، وأحدثوا هذا الصراع المصطنع الذي غداه الغرب وعملائه في وطننا حتى يستمر الانقسام والصراع مشتعل بيننا، ولذلك آن أوان أن ينتهِ ذلك من خلال دراسة تاريخ نشأة العلمانية في الغرب، وأننا لسنا الغرب وأن علينا أن نأخذ منها ما يخدم مصلحتنا لا أن نستنسخها كما هي!
نعم إن هذا الصراع والعداء المفتعل والمصطنع الذي تغذيه قوى داخلية وخارجية لا تريد لأبناء الوطن على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومشاربهم الفكرية أن يتحدوا في مواجهة عدوهم المشترك يجب أن ينتهِ، من خلال قبول كل أبناء الوطن ببعض وعدم حجرهم أو محاربتهم لبعض، ويقدموا انتمائها للوطن لا انتماءهم للحزب والفكر لنمنع استفراد جماعة ما أو غض الطرف عن تجاوزاتها وتضمن تداول السلطة والشفافية في إدارة شئون البلاد والحديث يطول. وقد أسعدني رده وأعتز به، لمن يريد أن يتعلم منه:
إيميلك كان جميلاً أخي المدلل مصطفى جعل من قهوة الصباح طعمها أجمل، ... كما قلت هناك أشياء نختلف فيها أو عليها أنا وأنت مثلاً، أجد أن هذا الاختلاف أمراً ليس ضرورياً فقط بل وواجباً ينقذني من الخضوع لفكري على الرغم من استقلال منهجي الفكري - فالفكر ليس المنهج - ودوام هذا المنهج في كل ما أكتب من مقالات أو أبحاث ...
كلمة أخيرة فيما يخص دراستك حول الكنيسة في أوروبا، كل ما قلته علمي ويدل على جهد واضح ونفس موسوعي نفتقده في زمن الانترنت ...
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني التوراتي: العلمانية لا الإسلام سبب تخلفنا؟! (14)
في الحقيقة يهمني مداخلاتكم من أجل صقل الفكرة، فسماع الآراء الأخرى والمشاركات من أصحاب الرأي والمختصين في هذا المجال، وخاصة أن معظم الحضور هم من قسم علم الاجتماع، وأن موضوع محاضرة اليوم يعتبر من صميم تخصصهم، يساعد في تثبيت الفكرة أو تصحيح جزء منها أو الاستفادة من إضافات البعض، والاختلاف في الرأي أمر إيجابي ودليل صحة وتنوع في.
مداخلات وأسئلة جميلة لكن اسمحوا لي قبل الإجابة عليها القول:
آثرت أن أبدأ بداية أكاديمية وأبدأ بتعريف معنى ومفهوم (العلمانية) في اللغات الأوروبية التي نشأ فيها، ولم أقل: قال الشيخ الفلاني كذا، ولا قال العالم الإسلامي كذا، ولا قال المفكر العربي كذا، قلت: قالت الموسوعة الأوروبية الفلانية كذا، ودائرة المعارف الأوروبية كذا، والقاموس الأوروبي كذا ...إلخ! لذلك عليك أنت أن تتوقف مع نفسك وتعيد النظر في فهمك للمصطلح! بدأت بداية أكاديمية لأن المصطلح في الأصل مصطلح غربي ولا أصل له في اللغة العربية، والترجمة العربية ترجمة خاطئة ومضللة، وهي سبب الأزمة التي تعيشها أمتنا ومجتمعنا منذ قرنين من الزمن، ولا أعلم لماذا متغربي وطني يُصرون على الجمود على الترجمة الخاطئة، ويرفضون تقييم وتقويم تجربتهم؟!
العلمانية لا الإسلام سبب تخلفنا
دكتور (...) قولك أن الغرب تقدم عندما فصل بين الدين والدولة وشؤون الحياة وأنه علينا أن نفعل مثلهم حتى نتطور ونتخلص من تخلفنا؛ قول غير صحيح .. لا تندهش! أنت تجاهلت أكثر من ألف عام كان فيها المسلمين في صدارة العالم فكرياً وعلمياً وحضارياً، وأن ذلك كان بفضل تمسكنا بديننا وتنفيذنا لتعاليمه في احترام الإنسان وحقه في التعبير عن رأيه، واستخدام العقل في البحث العلمي والمعرفة، وتحقيق التقدم الإنساني، وتحقيق الاكتشافات العلمية المتعددة، وتحقيق معاني كثير من الآيات القرآنية التي حثت المسلم على العلم والبحث العلمي، وكان يتم ذلك بإشراف ورعاية الدولة وعلى رأسها الخلفاء والأمراء ورجال الحكم، ولم يكون باسم الاشتراكية ولا الرأسمالية ولا الليبرالية ولا العلمانية ولا غيرها من الأفكار التي ينادي بها المتغربون، والتي للأسف لم تزيدنا إلا تخلف ورجعية، وتفاقم نكباتنا يوماً بعد يوم!
ولقد أصاب الدكتور (...) في مداخلته، عندما قال: أن الأنظمة الحاكمة التي هي علمانية وتدعو إلى العلمانية هي التي تحارب العلم والعلماء، وهي سبب تخلفنا وليس الدين. وأضيف هنا: وهي التي تتسبب في هجرة العقول العلمية من أبناء وطننا إلى الغرب ليستفيد منها ويحرمنا من فائدتها!
الغرب تطور بفضل علوم المسلمين وما تنقله عن الحضارة الإسلامية وليس لأنه فصل الدين عن شؤون الحياة! وهناك حقيقة تغيب عن المتغربين، وهي:
عندما انفتح الغرب على علوم المسلمين احترم خصوصيته الوثنية والدينية البشرية لا السماوية وخصوصية تاريخه الاجتماعي، وأخذ علومنا ولم يأخذ عقائدنا وأفكارنا الدينية الخاصة واستطاع تحقيق نهضته العلمية، وذلك ما سبق أن فعله المسلمون عندما ترجموا علوم سابقيهم أخذوا علومهم وفنونهم ولم يأخذوا عقائدهم، لذلك نجحوا في بناء حضارة إنسانية عالمية مازال تأثيرها على الحضارة العالمية إلى اليوم، لكن متغربي وطني دعاة التبعية الفكرية للغرب مثل بعض الفرق الإسلامية التي تأثرت بالفلسفة على الطريقة الإغريقية (المتكلمون) وتسببت في تشويه جانب من تاريخنا بما أحدثته من خلافات، أخذوا عقائد الغرب وليس علومه، ومازالوا يدعوننا للأخذ بقيم الحضارة الغربية خيرها وشرها، حسنها وسيئها ...إلخ، دون أن نحترم خصوصيتنا الدينية وخصوصية تاريخنا الاجتماعي، لذلك تخلفنا وفشلنا ولم نلحق بالغرب أو نحقق أي تقدم علمي يُذكر، ومازلنا للأسف نسمع من الكثيرين بأن الدين هو السبب، وكأن الدين هو الذي يحكم!
محمد علي باشا وكذبة النهضة والدولة الحديثة!
لا أعلم لماذا نُحمل الدين المسئولية ونحن منذ مائتي عام، منذ عهد محمد علي باشا الذي يعتبره أنصار العلمانية والحداثة رائد النهضة والدولة العربية الحديثة في وطننا الذي يحكمنا هم حملة الأفكار العلمانية ودعاة التبعية للغرب وليس الخلفاء ولا العلماء المسلمين! أضف إلى ذلك أن الدول القطرية التي أنشأها الغرب - أنظمة التجزئة - سارت على نهج محمد علي باشا أستاذها ورائدها في الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها. يسأل أحدهم كيف؟! أقول لك كيف:
وصل محمد علي إلى السلطة وكرسي الحكم على نهر من الدماء (مذبحة القلعة)! واستفرد في الحكم من خلال الغدر والخديعة والتخلص من كل حلفائه وأنصاره الذين أتوا به إلى كرسي الحكم! وثبت حكمه وحكم أحفاده من خلال تحويل مصر أرضاً وشعباً إلى عبيد لخدمته وخدمة أسرته! واستمر حكمه وحكم أبنائه وأحفاده لأنه أسس جيشاً عصرياً وحديثاً بعقلية غربية تمدناً ونفسية ذليلة ومستعبدة للحفاظ على حكمه وليس على أمن ومصلحة مصر! لأنه سخر كل ثروات مصر الزراعية والصناعية واقتصادها لخدمة ذلك الجيش الذي يحميه ويحمي أسرته! أليست الأنظمة التي نعاني من استبدادها وظلمها تسير على النهج نفسه؟!
نهضة محمد علي المزعومة بدأت قبل نهضة اليابان ولنقل أنهما بدأتا متزامنتان؛ هل سأل أحدكم نفسه: لماذا اليابان نهضت وحققت تقدماً علمياً أكثر من الغرب نفسه في بعض المجالات ونحن تخلفنا ومازلنا نزداد تخلف؟! أجيبكم: لأن البعثات التعليمية التي أرسلتها اليابان لتتعلم في الغرب أخذت علوم الغرب التي هي سبب تقدمه العلمي ونهضته ولم تأخذ عقائده وأفكاره وسلوكياته وأنماط حياته كما فعلت بعثات محمد علي باشا وغيره، ولم يتهم أحد منهم بعد عودتهم شعبه بالتخلف وأن عبادة الإمبراطور سبب تخلفهم، وأن العادات كذا أو الأخلاق كذا أو ... عفا عليها الزمن ولم تَعد تصلح للعصر و... كما فعل متغربي وطني!
نعم العلمانية في الغرب حققت نجاحاً وتقدماً بل أحدثت ثورة على صعيد العلم والتكنولوجيا، لكنها أيضاً حققت مزيداً من الانحلال والتفكك والتخلف الاجتماعي والأخلاقي على صعيد الأسرة والمجتمع، وانحدرت وانحطت بمجتمعاتها إلى درك حيواني لم تعهده المجتمعات البدائية والوثنية، وأحدثت عشرات بل مئات من الأزمات النفسية والاجتماعية والأخلاقية والجريمة بأنواعها. العلمانية حولت الغرب إلى حيوان كاسر متغول على كل شيء في الكون ...إلخ!
دكتور (...) العلمانية لم تُصلح الغرب بل دمرته؛ ولنفترض جدلاً أنها صَلحت للغرب فليس بالضرورة أن تصلح لنا، لأن الذي كان يحكم في الغرب في العصور الإغريقية واليونانية والرومانية هي العلمانية، الأباطرة المتألهون وأنصاف الآلهة وممثلو الشعب من السادة والأشراف والنبلاء وقادة الجيش والسياسة والفلاسفة وغيرهم من البشر، والذي حكم في العصور الوسطى هي العلمانية، الكنيسة ورجال الدين التي حكمت باسم الله والتفويض الإلهي للبابا ظل الله على الأرض، والذي يحكم في الغرب هذا العصر هي العلمانية السافرة التي هي نتاج حقد العقلانيين الغربيين على الأديان، ونتيجة قصورهم العقلي وأهوائهم ورغباتهم النفسية.
-
باحث في علم الاجتماع
الغرب العلماني التوراتي: نحن الذين علمنا الغرب؟! (15)
الدكتور (...) تقول أن العلمانية مشتقة من العلم، وأنها لا تناقض الدين الإسلامي بل وتتوافق معه، لأنها استخدام العقل والأخذ بالمنهج العقلي والمنهج العلمي ولا تعادي العلم، وأنها ليست بديلاً عن الدين ولا تعاديه لأنها لا تعترض على تدين الإنسان ما دام الدين علاقة وجدانية بين الإنسان وربه!
نحن واضعوا أصول المنهج العقلي والعلمي
ما تفضلت به يعني أن فكرتي وتعريف العلمانية في بلاد الغربية لم يصل إليكم، كما أنه ليس دليل على صحة ما يذهب إليه المدافعين عن العلمانية! دعني أوضح هذه النقطة أكثر:
تعاريف العلمانية في مصادرها الغربية تقول: أنها تعني اللا دينية، وإلغاء الدين وإخراجه من حياة البشر...إلخ، لم تقل أنها مأخوذة من العِلم بكسر العين، أو من العالم بمعنى العالمية! وفي الإسلام مسألة أن تأخذ بالعلم أو لا تأخذ به ليست مسألة متروكة لاختيار الإنسان المسلم أو الدولة المسلمة، لأن العلم فريضة دينية على كل مسلم ومسلمة، وقد حث الإسلام على العلم والتعلم، ورفع من شأن العلماء وفضلهم، وجعلهم ورثة الأنبياء، والآيات والأحاديث التي تحث على العلم وتجعل منه فريضة على كل مسلم كثيرة ولا مجال لذكرها هنا.
أما أن العلمانية هي استخدام العقل والأخذ بالمنهج العقلي وغير ذلك مما يبرر به أنصار العلمانية دعوتهم لعلمنة مجتمعاتنا! أقول: أننا نحن الذين علمنا الغرب استخدام العقل، والأخذ بالمنهج العقلي، ونحن الذين وضعنا أصول ذلك المنهج على خير ما تكون، وإلا ماذا يعني الاستقراء والاستنباط الذي وضع أصوله المسلمون في علومهم الدينية والعلمية؟! هو منهج عقلي وعلمي، اجتهاد إعمال العقل في فهم النص الديني. وتعلمون أن ابن رشد هو الذي وضع أسس المنهج العقلي في الفلسفة، ولولا جهود العلماء المسلمين في نفض الغبار عن كتب الفلسفة الإغريقية وتبويبها وتنسيقها وشرحها و... ما استطاع الغرب الحديث أن يفهم منها شيء!
وسبق أن قلت في مداخلتي على أحد المحاضرات في الجمعية الفلسفية عند الدكتور (...): أنني كمسلم لست ضد الفلسفة كأسلوب في التفكير أو منهج في معرفة طرائق التفكير، وفي الاستنباط والاستقراء، وفي مساعدتك على توصيل فكرتك للآخر أو فهم الآخر، وتحديد خطواتك للوصل لهدفك بسهولة ...إلخ، لكن ضد الفلسفة عندما تناقش في العلة الأولى للوجود وأسبابها، وإن كان الله موجود أو ليس موجود، أو يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وغيرها من موضوعات الفلسفة التي تتعارض مع عقيدتي كمسلم.
أما قول الأخ (...): أن انظر إلى الغرب بعد أن تخلى عن الدين كيف تقدم وكم الفجوة بيننا وبينه وتتسع كل يوم أكثر، بسبب الإصرار على تدخل الدين في كل شؤون حياتنا!
مازالت الفكرة تُقاوم بشكل متعمد وكأن ما قلته غير مفهوم! تقول: انظر إلى الغرب كيف أصبح بعد فصل الدين عن الدولة؟ وأنا أقول لك: انظر إلى العرب كيف أصبحت أحوالهم وتغيرت حياتهم، وكيف حولهم الإسلام من مجموعة من القبائل المتفرقة والمتنازعة ووحدها وجعل منها أمة واحدة، وبنى لها دولة، وأسس لها حضارة مازلنا نفاخر بها إلى اليوم على العالم، ومازالت تشدنا روابط الإخوة الدينية والقومية إلى بعضنا، وننشد استعادة وحدتنا ونهضتنا مرة أخرى!
وانظر إلى العلمانية بعد حوالي مائتي سنة من محاولة الأخذ بها وفرضها على أمتنا وإلى فشلها في اختراق عقولنا وتغيير مجتمعنا وقيمنا، ومازال مجتمعنا لم يتعلمن، إلى درجة أنه لو قيل للعلماني أنت كافر ولست مسلم فإنه يرفض ذلك بشدة وينكره، وذلك دليل على فشل العلمانية وعدم صلاحيتها لأمتنا! أما بالنسبة للغربي فهو يفاخر بأنه علماني غير مؤمن بالدين! بمعنى أن هناك فرق ومن الخطأ تجاهل ذلك ...
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى