الاستحواذ والاستبعاد الاجتماعي وأثرهما على تردي الأداء السياسي العربي
لا تتوقف تساؤلات المتسائلين عن سر تأخر العرب عن اللحاق بغيرهم من الأمم في تسيير أمور دولهم، ويحاجج البعض في تساؤلاتهم مستندين الى منطق النظرية العلمية، التي من أهم ركائزها عنصر العمومية والتي تقضي بأن أي جهد علمي أو معرفي أو تقني سيصبح مُتاحاً لكل أبناء البشرية، فإن كان الأمر كذلك يتساءل المتسائلون: ألم يطلع العرب على تجارب أجدادهم، أو تجارب الآخرين القدماء والمعاصرين؟ وإن كان الجواب أنهم اطلعوا من خلال ما يُكتب ويُبث بوسائل الإعلام، فلماذا لم يستنبطوا وسائل تنظيمية تخلصهم مما هم فيه من سلبية وانعدام الوزن على الصعيد العالمي؟
وفي هذه المحاولة في تسليط الضوء على خصوصية العربي الاجتماعية وتأثره بالعامل الصحراوي، سنجتهد في تتبع بعض التفاسير التي تساعدنا في قراءة المشهد، وكيفية معالجة آثاره.
الصحراء في الكتابات العربية القديمة والحديثة
أصاب المفكر العربي منيف الرزاز عندما أضاف عنصر الصحراء كعامل مهم من عوامل التشابه والتقارب في صورة المجتمع العربي من محيطه الى خليجه، فليس هناك مدينة عربية تبعد عن الصحراء أكثر من مائة كيلومتر، وبغض النظر عن الأصل العرقي (عرب، أمازيغ، أكراد الخ)، فالوضع ينسحب عليهم كاملاً، أي التأثر بقرب الصحراء...*1
وفي الكتب التي تبحث في تاريخ العرب قبل الإسلام، تشير الدلالات أن مصطلح عربي لم يكن آت لوصف العرق العربي أينما وُجد، بل كان يُقصد فيه العنصر الذي لم يلتزم بنظام المدن والحواضر. ففي كتابات الآشوريين وُجد أن ملكهم هاجم مملكة الصفويين وهي مملكة تقع في الوقت الحاضر في الجزء الشرقي من المملكة الأردنية الهاشمية وكانت عاصمتها (أم الجمال والصفاوي أي h5). فيقول: هاجمت مملكتهم وقتلت ملكهم (جندب) وقتلت ألفاً من جنودهم وألفين من عربهم! وكان ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد.*2
ويوقع (شمر يرعش) في نهاية كتاباته فيقول: أنا شمر يرعش ملك سبأ وحمير وحضرموت ومعين وعربهم!*3
والقرآن الكريم يذكر (عربي) اثنا عشر مرة: إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون* وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق* ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين* بلسان عربي مبين* قرانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون الخ*4
والقرآن الكريم هنا يذكر اللسان أو اللغة التي لم يلحقها (التلحين) والتأثر بغيرها من اللغات، وقد اتبع المدونون العرب الذين خشوا على اللغة العربية من الضياع عندما توسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام من الشعوب ذو اللغات المختلفة، فانشغل الخليل بن أحمد الفراهيدي والهيثم بن نصر بن سيار وغيرهم في وضع القواميس والمعاجم التي تحفظ العربية، فذهبوا الى صحراء عُمان وغيرها من المناطق الصحراوية التي لم يحتك بها الأجانب ليضعوا أول معاجمهم*5
ونحن في الأيام الحالية نستخدم لفظ تعريب في التدليل على تنقية الشيء فنقول: عرب المُنتج للفراخ (الكتاكيت) أي استبعد ما هو غير ملائم للتربية (الضعيف والمشوه الخ). ونجد في نفس الوقت بلدات في فلسطين وسوريا تدل على مسألة النقاء، فعرابة وعروب وغيرها تدل على مهنة من تغربل القمح وتنقيه.
لكن، أشار القرآن للأعراب لصفاتهم السلوكية فيذكرهم عشر مرات في القرآن الكريم ستة منها نزلت في سورة التوبة، والأربع الأخرى في سور الأحزاب والفتح والحجرات، وفي أغلب تلك الآيات صفات ليست بالحميدة...*6
ولكن الأعراب ـ وعلى مر التاريخ ـ لم ينقطعوا في ضخ موجات هجرتهم الى المدن والحواضر، ففي كل مدينة عربية معاصرة يوجد من الأعراب الذين اندمجوا كلياً بواقع المدينة ومنهم من يأتي بقواعده الخلقية والسلوكية ويحتفظ بها داخل المدينة، ومنهم من يؤثر في سلوك الحاكم خصوصاً إذا عرفنا أن معظم قيادات الجيوش وحراس الحكام منهم..
بين الأعراب وسكان المدن
أول من أشار الى سلوك الأعراب وأثرهم في الحياة المدنية هو العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، فوصفهم بكرههم أو معاداتهم للحضارة (العمران)، وتوسع في شرح أثرهم بالعصبيات ودورها في زعزعة الحكم.
ولكن أحدث من تكلم عنهم من زاوية علم الاجتماع الحديث هو العلامة علي الوردي، الذي تنبأ له رئيس جامعة تكساس وهو يمنحه شهادة الدكتوراه عام 1950 بأنه سيكون أهم عالم اجتماع في العالم الثالث..
لقد أشار علي الوردي الى قضية في منتهى الأهمية عندما قال: (ونجد أن العراق الذي كان مهد الحضارات يقع على حافة منبع فياض من منابع البداوة، وهو منبع الجزيرة العربية. فكان العراق منذ بداية تاريخه حتى العصر الراهن يتلقى الموجات البدوية الواحدة تلو الأخرى، فكان بعض تلك الموجات يأتيه عن طريق الفتح العسكري، والبعض الآخر منها يأتيه عن طريق التسلل التدريجي. وكلا هذين النوعين من الموجات لا بد أن يؤثر في المجتمع العراقي، قليلاً أو كثيراً، فتنتشر فيه القيم البدوية وتحاول التغلغل في مختلف فئاته وطبقاته*7
ولو حاولنا في الوقت الحاضر أن نُسقط ما قاله الوردي على بقية أنحاء الوطن العربي، فإننا سنجد الحالة متشابهة من المغرب الى مصر الى كافة البلدان العربية.. وبعد التحولات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي عمت البلدان العربية، بعد نصف قرن من تأليف الوردي لكتابه، سنجد موجات الهجرة من الريف والبوادي الى المدن العربية، ودور المهاجرين هؤلاء في تشكيلات الأمن العام والجيش، واستخدام أعدادهم في التصويت (في اللعبة الانتخابية) سنعرف عندها مدى هذا التأثير في إحداث ارتباك كبير في سيرورة التعاطي السياسي والديمقراطي في البلدان العربي وسر عدم الوصول الى صيغ حديثة تتلاءم مع ما يجري في بقية أنحاء العالم..
وإذا تتبعنا تلك الظاهرة من بداياتها، فإننا سنجد تغليب التأثير الصحراوي على التأثير العقائدي سواء كانت العقيدة دينية أو فكرية مدنية معاصرة.
يتبع
هوامش
*1ـ الدكتور منيف الرزاز/ الأعمال الفكرية والسياسية/ مؤسسة منيف الرزاز للدراسات القومية1986
*2ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ جواد علي/ دار العلم للملايين
*3ـ المصدر السابق
*4ـ الآيات بالتتابع: سورة يوسف 2؛ الرعد 37؛ النحل 103؛ طه113؛ الشعراء 195؛ الزمر 28
*5ـ محمد عابد الجابري مجموعة العقل العربي ثلاثة أجزاء/ مركز دراسات الوحدة العربية
*6ـ القرآن الكريم التوبة آيات 90، 97،98، 99، 101،120؛ الأحزاب20، الفتح 11،16؛ الحجرات 14
*7ـ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي/ علي الوردي/ بغداد: مطبعة العاني 1965 ص11