-
الاستبعاد الاجتماعي
الاستبعاد، قد يكون نقيضاً للاستحواذ، ولكنه نقيض قرين، أي يلتصق به التصاقاً شبه وظيفي. فاستبعاد الشيء هو عزله وإهماله وانتقاص قيمته، واعتباره غير موجود بالأصل.
والاستبعاد الاجتماعي قديم قِدم تأسيس المدن، وقد وُجد مع عصر العبيد القديم، ويذكره حمورابي في شرائعه بشكل حثيث فما أن يذكر الإنسان الحر حتى يذكر معه الإنسان غير الحر فمثلاً تقول المادة 209 (من ضرب امرأة فأسقط ما بجوفها فعليه دفع عشرة شواقل من الفضة إذا كانت حرة وخمس شواقل من الفضة إذا كانت أَمة (من العبيد).
أما اليونانيون القدماء فقد قسموا المجتمع الى قسمين فبرأي أرسطو: (هناك نوعان من البشر: منهم الراكدون، المتوحشون الذين يشكلون قطعاناً كبيرة في الممالك الضخمة، أما الآخرون فهم الذين يتجمعون بشكل منسق ومنظم في المدن، الأولون ولدوا ليكونوا أرقاء مستعبدين أما الآخرون فولدوا ليكونوا أسياداً وأحرارا بفضل قدرتهم على التنظيم العالي)*2
وفي العهد الإسلامي، تم تصنيف المهن المحتقرة والخسيسة في رسائل (الجرسيفي)*3 و (ابن عبد الرؤوف) وقبلهما الجاحظ، فقد وضعوا قائمة طويلة من المهن الخسيسة والتي يترتب على المحتسب ومن بعده المجتمع في استبعاد آراء هؤلاء، ومن بين ما ذكروا من أصحاب المهن الخسيسة: المشعوذون والحجامون والماشطات من النساء والمغنون والطبالون وكتاب العرائض وقد استوقفتني تلك المهنة لأرى لماذا صنفت مع المهن الخسيسة فيفسر الجرسيفي ذلك بأن من يمتهن تلك المهنة يجلس على قارعة الطريق فيقف (الزعران) على مقربة منه ليتسمعوا الى قصص النساء اللواتي يكلفنه بكتابة ما يشكون منه فيلاحقوا تلك النساء!
لقبل أكثر من نصف قرن تقريباً، كانت المدينة تقسم الى أحياء وحارات لكل حي أو حارة باب وبواب ومجلس أعيان ينظر في كل مسائل الحي، فإن أراد أحد سكان الحي بيع بيته، فإن مجلس أعيان الحي هو من يقرر كيفية البيع ويحرم عادة دخول قادم جديد غير معروف.. ولو عدنا الى بعض المدن العربية لنجد تلك الأبواب لا زالت ماثلة حتى اليوم إما بأبوابها أو أسمائها ففي الموصل مثلاً: باب الطوب (أي المدفع) وباب (لكش) وباب سنجار الخ، وفي القدس وبغداد ودمشق لا زالت تلك الأبواب أو أسماؤها معروفة.
الاستبعاد ضمن وظيفته السياسية والاجتماعية
فالتعريف الإجرائي للاستبعاد حسب جون هيلز (يُعد الفرد مستبعداً اجتماعيا إذا كان لا يُشارك في الأنشطة السياسية للمجتمع الذي يعيش فيه)*4
ويبين الباحثون مواصفات المستبعَد فيقولون: إن دخله الأسري يقل عن نصف الدخل العام للمواطن في بلده. وأنه ليس مستخدما ولا يعمل لحسابه، ومتعطلا بسبب مرض طويل أو إعاقة أو أي سبب آخر. لا يدلي بصوته في الانتخابات العامة وليس عضوا في منظمة مشاركة في الحملات السياسية (حزب سياسي، أو نقابة عمالية، أو جمعية معينة).
ويصف الباحثون تفاعل المستبعد اجتماعيا فيقولون: إنه لا يصغي إليك، ولا يشجعك ولا يساعدك في الأزمات، ولا ترتاح إليه، ولا يبدي أي تقدير لك.
إن هذا النوع من الناس قد نجده يفوق 50% من المجتمع العربي وفي أي بلد، وقد تبين نسب المقترعين في الانتخابات والاستفتاءات العامة مدى سعة هذه الشريحة في المجتمعات العربية.
ومن المفارق، أن تجار الأصوات الانتخابية قد وجدوا في تلك الشريحة الواسعة منجماً ضخما للأصوات حيث يبنون شبكات السماسرة لشراء أصوات هؤلاء.
الاستبعاد الإرادي
إذا جاز لنا أن نطلق على الصنف السابق من المستبعدين اسم الاستبعاد القهري، حيث يبعد الفرد بفعل قوى خارجية وظروف اقتصادية، فإن هناك صنف يعتبر هو الأخطر بين المستبعدين، فقد يستبعد الفرد نفسه إرادياً، فلا يشارك من حوله أي نشاط، ولا يدرس أبناءه في مدارس المجتمع العامة بل في مدارس وجامعات خاصة ولا يعالج نفسه أو أسرته في مصحات المجتمع، بل يختار مستشفيات خاصة الخ.
إن هذا النوع من المواطنين يتدخل بطرف خفي لاختيار النواب والحكومات من أجل حماية مصالحه، ولكنه لا يشارك فيها مباشرة، ولا يريد أن يجعل المجتمع المحيط به (أقاربه، جيرانه إن وجدوا) يمنون عليه في دعم معين، حتى لا يصبح عرضة لابتزازهم!
إن هذا النوع من المستبعدين إرادياً هو ما فتح شهية الحكومات العربية للخصخصة، فلم تعد الخدمات المدرسية مثلما كانت ولم تعد المصحات كما كانت، كما أن استفحال ظواهر الغلاء وانتشار النزعة الاستهلاكية العالية التي تأكل مدخرات المواطنين (إن وجدت) تذهب لمحاكاة ما تبثه أجهزة الدعاية والإعلام التي تخاطب أصلاً ذوي القدرة الشرائية العالية.
يتبع
هوامش
*1ـ شريعة حمورابي/ عباس عبودي/ جامعة الموصل 1990 صفحة266
*2ـ أرسطو: كتاب السياسة، أنظر الموسوعة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي/ بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر1984 الجزء الأول الصفحات من 98ـ 131
*3ـ الجرسيفي: ضمن ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة. تحقيق: ليفي بروفنسال القاهرة 1955 صفحة 121. وجرسيف: منطقة تقع بين فاس وتلمسان.
*4ـ الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم/ تحرير: جون هيلز وجوليان لوغران و دافيد بياشو/ ترجمة وتقديم: محمد الجوهري.. بالأصل الكتاب صدر عن أكسفورد عام 2002 وصدرت الترجمة العربية بالكويت عام 2007 عن عالم المعرفة. صفحة 70 وما بعدها.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى