مقال قديم يُعاد نشره في الذكرى 101 لاستشهاد يوسف العظمة.
ثرثرة على الفيسبوك
سامي مروان مبيّض
حالة الفلتان والثرثرة على وسائل التواصل الإجتماعي ما زالت مستمرة في سورية، من دون أي رقيب أو عقاب، وبدأت بالنيل من الأحياء والأموات معاً. كنا نظنها ناتجة إما عن جهل أو خطأ غير مقصود ولكنها تعدت كل ذلك اليوم ووصلت إلى درجة العمل الممنهج والمدروس للنيل من سمعة شخصيات وطنية كبيرة، قدمت لسورية الكثير الكثير ولم تأخذ بالمقابل إلا شرف الإنتماء إلى هذا الوطن.
القائمة تطول، وأخر هذه الخرافات كانت مجموعة من القصص الخيالية عن وزير الحربية يوسف بك العظمة، الذي سقط شهيداً في معركة ميسلون قبل مئة عام يوم 24 تموز 1920. أحدى هذه القصص تؤكد وتجزم...من دون أي دليل طبعاً...أن زوجته التركية "منيرة" كانت بنت جمال باشا الملقب بالسفاح، الحاكم العسكري لولاية سورية خلال الحرب العالمية الأولى. البعض يتداول هذه الرواية للنيل من سمعة يوسف العظمة والتشكيك في وطنيته وربط اسمه بشخصية مكروهة ومنبوذة مثل جمال باشا.
وقد وردتني عشرات الإستفسارات عن مدى صحة هذه القصة، لذلك أجد من واجبي التنويه إلى بعض الأمور.
أولاً: جمال باشا كان له إبنه واحدة فقط لا غير اسمها "كمران،" ولدت في اسطنبول سنة 1908 وتوفيت عام 1962. بذلك، يكون عمرها 12 سنة فقط يوم استشهاد يوسف العظمة سنة 1920. ومن المعروف أن ليوسف العظمة طفلة واحدة اسمها "ليلى" كان عمرها خمس سنوات يوم وفاة أبيها، أي أنها من مواليد عام 1915. معنى ذلك أن الزوجة المزعومة "كمران جمال" أنجبت ليلى وهي في السابعة من عمرها! هل يصدق عاقل هذا الكلام؟
ثانياً: بنت جمال باشا تزوجت من رجل من عائلة "اريل" وانجبت منه ولا علاقة لها بعائلة العظمة لا من قريب أو بعيد.
ثالثاً: زوجة يوسف العظمة التركية "منيرة" كان لها نشاط معروف في المجتمع الدمشقي، فقد شاركت بتأسيس جمعية "نور الفيحاء" لتعليم البنات وفي إنشاء منظمة "النجمة الحمراء" التي سبقت منظمة الهلال الأحمر، المعنية بجرحى الحرب من السوريين والمرتبطة بمنظمة الصليب الأحمر الدولية. وفي عام 1922، وقعت منيرة على معروض مقدم للسلطات الفرنسية، مطالبة بإطلاق سراح الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد رفاق زوجها.
رابعاً: كلّ الحكومات السورية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى منعت أفراد عائلة جمال باشا من زيارة سورية لمجرد أنهم من سلالة هذا الرجل، وهذا التعميم صدر بداية عن رئيس الحكومة الفريق رضا الركابي، الذي كان يوسف العظمة من وزرائه. وظلّ المنع سارياً حتى منتصف الألفية الثانية عندما جاء حفيد جمال باشا إلى دمشق، ضمن وفد إعلامي تركي.
وأما عن الخرافة الثانية عن يوسف العظمة، فهي تتعلق بإبنته "ليلى،" التي قيل أنها توفيت بمرض السل وهي ضريرة وفقيرة في شوارع اسطنبول. وقد كبرت هذه القصة ككرة الثلج، ووصلت إلى مداخلات النواب في البرلمان السوري.
والمعروف أن يوسف العظمة أوصى الملك فيصل بن الحسين برعاية ليلى قبل ذهابه إلى معركة ميسلون، وهي كانت تزور دمشق مع أمها في عطلة المدارس الصيفية، قادمة من اسطنبول. بعد استشهاد الأب عادت ليلى إلى تركيا وعاشت مع عائلة أمها، ولكنها لم تكن فقيرة أو محتاجة أبداً. أملاك الأسرة في حي الشاغور الدمشقي كانت كفيلة لتأمين حياة كريمة لها ولوالدتها، مع راتب أبيها من الدولة السورية.
ففي عام 1947، خصص الرئيس شكري القوتلي ألفي ليرة سورية راتب شهري لليلى العظمة (بموجب المرسوم 288) والفي ليرة معونة (بموجب المرسوم 982). وكل من تبوئ منصب رفيع من آل العظمة في دمشق ظلّ يسأل عن ليلى ويلبي كل حاجاتها، إبتداء من وزير الدفاع نبيه العظمة مروراً بشقيقه الوزير عادل العظمة وصولاً إلى رئيس الوزراء الدكتور بشير العظمة.
وقد توفيت ليلى في سريرها محاطة بأفراد أسرتها، وليس في شوارع اسطنبول.
كانت ليلى سيدة جميلة، مثل أبيها، كبرت وتعلمت في المدرسة الفرنسية وتزوجت من تاجر تركي من عائلة "أشار" له متجر قماش في ساحة تقسيم، وأنجبت منه ولد واحد سنة 1943، وهو الحفيد الوحيد ليوسف العظمة. وقد سميت ليلى نسبة لوالدة يوسف العظمة، المرحومة ليلى الشربجي.
هذه الروايات عن يوسف العظمة مختلقة من الألف إلى الياء، ولا صحة لها بالمطلق. والحقيقة ليست حكراً على أحد وبإمكان أي شخص العودة إلى كتب التاريخ قبل اطلاق التهم المجانية على شهيد ميسلون، ولكن يبدو أن ثرثرة الفيسبوكية دخلت إلى دمائنا ومشيت في عروقنا وصارت أهم من الحقيقة، لتطيح بكل ما هو جميل في تاريخ سورية بالعموم ودمشق بالخصوص.
رحم الله يوسف بك العظمة، لو عرف أن شعبه ثرثار إلى هذا الحد المخيف، لربما فضل البقاء في داره لإشراف على تربيه ليلى بدلاً من الذهاب إلى ميسلون.