ما لا تعرفه عن الهُكسـوس! (1-4)
مما يؤسف أننا مازلنا نقرأ مقالات، أو نشاهد فيديوهات تتضمن معلومات بعيدة عن الصحة، حول كثير من الأقوام القديمة، أو المعتقدات التي يقرأها علماء الآثار قراءة غير دقيقة، وكل له دوافعه أو مبررات قراءته، من علماء توراتيين زيفوا الحقائق ولوا عنقها للتوافق قصراً مع خرافات التوراة، إلى علماء متعصبين عرقياً وقومياً، إلى تلامذة مستشرقين غايتهم بث الفرقة والعداء والتأصيل للنزعات العنصرية الاستعلائية ...! فما دام السياسة والفكر لا جديد فيه، سأحول تناول بعض تلك المعلومات لتصحيح بعض أخطاءها! الهكسوس من القبائل العربية التي سكنت وطننا منذ القرن الثالث قبل الميلاد ولها جذور عربية أصيلة؛ إلا أن الباحثون وعلماء الآثار الغربيين والمؤرخون اختلفوا حول أصولهم العرقية، وأُسلوب معاملتهم لمحكوميهم، وقد ساءت صورتهم عند كثير من الكتاب والقراء، كما عمد بعض علماء الآثار والمؤرخين إلى تشويه تاريخها وأنسابها العربية لأسباب مختلفة، منها ما يعود إلى تأثر أولئك العلماء بروايات التوراة اليهودية المحرفة عنهم، ومنها ما يعود إلى بعض الكتابات المصرية الجنوبية التي كتبها فراعنة مصر الذين رفضوا الاعتراف بحق الهكسوس في الحكم، أو الذين خرجوا عليهم لطمعهم في الحكم، وقاتلوا من أجل استرداد حكم مصر منهم، وغيرها من الأسباب، من تلك القبائل العربية الأصل التي نسبها البعض من الغربيين إلى جنس غير عربي، وتبعهم بعض المؤرخين وعلماء الآثار العرب، الهكسوس، والفلسطينيين. فقد زعم بعض المؤرخين أن الهكسوس من الجنس الآري أو الهندو آريين (الهند - وأوروبي)، وزعم آخرون أنهم الكاسيين أو الكاشيين الذين ذكروا في مصادر بلاد النهرين، وثالث زعم أنهم الذين عرفتهم مصادر آسيا الصغرى باسم الخاتيين والحيثيين، ورابع ادعى أنهم عُرفوا لدى سكان شواطئ الفرات العليا والمناطق السورية الشمالية الشرقية باسم الحوريين أو الخوريين، وعند فريق خامس من علماء الآثار والمؤرخين أن بعض المصادر الإغريقية أسمتهم الآخيين، وأخيراً عرفتهم المصدر المصرية باسم حقاو خاسوت الذي تحرف إلى هكسوس. والذي يدقق في تلك الأسماء على تباعد الأقوام التي حملتها جغرافياً عن المواطن التي هاجر منها الهكسوس، ونزلوا واستقروا فيها سواء قبل حكمهم مصر أو بعد انتهاء حكمهم في مصر وخروجهم منها، يجد أن تلك الأقوام التي غطت مساحتها الجغرافية ما بين بلاد النهرين وآسيا الصغرى إلى بلاد الشام ومصر، وتنوعت أجناسها وتباعدت عرقياً عن بعضها، بعيدة جداً عن أن تكون كما زعم المؤرخون أنهم هم أنفسهم الهكسوس، ولكن اختلفت الأسماء التي أطلقت عليهم من منطقة إلى أخرى، لأن ذلك غير منطقي ولم يستدل القائلين بذلك على أي دليل أثري يؤكد صحة مزاعمهم تأكيداً شبه قطعي أو بما لا يرقى إليه أي شبه أو نوع من الشك في عدم صحته. ونحن هنا سنحاول جهدنا تصحيح تلك الصورة الخاطئة التي علقت في أذهان بعض الكتاب والمثقفين عنهم. الهُكسوس هم مجموعة من القبائل العربية التي انتقلت من فلسطين وبلاد الشام إلى مصر على فترات متباعدة، بدأت من قبل تاريخ الأسرة الوسطى في مصر، التي بدأ حكمها نهايات القرن الثالث قبل الميلاد، وقد استطاعت تلك القبائل حكم مصر حقبة من الزمن نحو مائة وخمسون عاماً. وقد اختلف المؤرخون وعلماء الآثار حول أصولهم العرقية، وأُسلوب معاملتهم لمحكوميهم، ومدى تقدمهم الحضاري، وقد ساءت صورتهم عند كثير من الكتاب والقراء، واعتبروهم همج ومدمرين للحضارة ومستبدين وظالمين، وأنهم كانوا يدمرون كل شيء يجدونه في طريقهم! معنى كلمة "هُكسوس" كما جاء في كتب التاريخ "حكام البلاد الأجنبية"، وأصل الكلمة مشتق من كلمة "هك" ومعناها في اللغة المصرية المقدسة "ملك"، ومن الكلمة المصرية "خاسوت" ومعناها "البلاد الأجنبية". ومما يؤكد ذلك أن تعبير "حقا ـ خاسوت" يطلق منذ عهد السلالة الثانية عشر نحو 2000 ق.م على رؤساء القبائل الآسيوية، الذين كانوا يعيشون في فلسطين وبادية الشام. وكانوا يزورون الولاة المصريين "ولاة بني حسن الأقوياء" ويقدمون لهم الهدايا. ولذلك اتفق الباحثون في تاريخ مصر على أن كلمة "هُكسوس" تعني حكام البلاد الأجنبية[1]. وأول من أطلق هذا الاسم عليهم "مانيتون" المؤرخ المصري الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، الذي اعتبرهم (فينيقيين). كما أن البعض يعتبر الهُكسوس عرباً[2]. وقد بين Albright أن الهُكسوس كانوا ساميين (عرب) وأنهم لم يكونوا من (الحوريين)، أو من الشعوب الهندو أوروبية[3]، ولقد أفرد (جورجي زيدان) فصلاً خاصاً في كتابه "تاريخ العرب" قبل الإسلام للهُكسوس وأورد دلائل عديدة لغوية وغير لغوية على أنهم من الجنس العربي، مع ترجيحه بأنهم من الآراميين الذين خمنا أنهم الخابيرو. وأورد أقوال العلماء المؤيدة لوجهة نظره هذه، ولقد قال (شاروييم) أن علماء الآثار قرروا نتيجة لدرس أشكالهم المرسومة على الآثار القديمة أنهم من الجنس العربي، حيث كان عليهم وشم باللون الأزرق وكانوا يتشحون بجلود الغنم[4]. ولقد قال (درايتون) أحد علماء آثار وتاريخ مصر: أنه يجب ربط هجرة الهُكسوس بحركة هجرة سابقة لها حيث تدفقت هجرات من الشعوب الهندو أوروبية إلى الشرق، فدفعوا (الساميين) في ظهورهم واضطروهم إلى الهجرة نحو بلاد (كنعان) ثم إلى مصر، وإن كان تبعهم شراذم من الآريين والحوريين والحثيين[5]. ونحن نرفض ذلك الربط من (دريتون) الذي درج عليه الكتاب الغربيين المؤيدين للمزاعم اليهودية في فلسطين، في أكثر من حدث تاريخي في تاريخ فلسطين القديم، وذلك ليبرروا به تشريد الفلسطينيين من وطنهم عام 1948، على يد العصابات اليهودية التي اغتصبته وأقامت عليه كيانها اليهودي التوراتي، وبأن الحل كما كان يحدث عبر تاريخ فلسطين كله، بأن يعترف أصحاب الأرض الأصليين الذين هجروا وشردوا من أرضهم (فلسطين) بفعل تدفق العصابات الصهيونية على فلسطين واغتصابها بالقوة، بسياسة الأمر الواقع، وفي الوقت نفسه يقبلوا بالتوطين في بلاد الهجرة والتشرد، أي في مناطق لجوؤهم. كما ذكر (المطران الدبس) في كتابه "تاريخ سورية": "يظهر أن قبائل سورية وبلاد العرب لم تقلق خواطر الملوك الرعاة ولم تزعجهم بحركتها لِما كان لها من نفع ومغنم من قيام دولتهم لأن اشتراك الفريقين في اللغة والدم والوطن القديم، كان ميسراً لمن جاء من سورية وبلاد العرب إلى مصر كسباً للمال والتجارة وأسباب العمل وحسن المعاملة حتى لقد هاجر جمع غفير من سورية وبلاد العرب وخاصة في أيام المحن والمجاعات"[6]. أما عن كيفية حكم الهُكسوس لمصر: يقول (سليم حسن) المؤرخ وعالم الآثار المصري الشهير: لقد احتدم الجدل في الماضي في الوقت الذي اجتاح فيه الهُكسوس الأراضي المصرية، أما تاريخ طردهم من أراضي مصر فهو متفق عليه الآن أنه كان حوالي عام 1580ق.م على يد الفرعون (أحمس الأول) مؤسس الأسرة الثامنة عشر، وأن الهُكسوس قد أصبحوا أصحاب سلطان في أراضي الدلتا حوالي 1730ق.م، وبذلك نرى أنهم كانوا قد حكموا مصر بين مد وجزر نحو قرن ونصف قرن من الزمان. ويضيف قائلاً: وكانت الفكرة السائدة عند عامة المؤرخين إلى بضع سنين مضت أن هؤلاء الغزاة ـ حسب تعبيره ـ قد انقضوا على الديار المصرية فجأة من بلادهم الأصلية واستولوا عليها عنوة، وأن ذلك قد حدث في فترة كانت مصر فيها بلغت من الضعف والوهن حداً بعيداً ... بل في الواقع توجد أسباب عدة تدل على أن أولئك الغزاة كانوا قوة ثقافية في وادي النيل منذ عهد الملك (سوسرت الثاني (1890-1887ق.م) أي في منتصف عهد الدولة الوسطى عندما كانت مصر في أوج عظمتها أو بعبارة أخرى أبان عصرها الذهبي[7]. والفقرة الأخيرة من كلام الدكتور (سليم حسن) تدل على عكس قوله عن الهكسوس "الغزاة"، فهي دليل على أنهم لم يكونوا غزاة أو محتلين أو طارئين على الأراضي المصرية، بل كانوا قبائل عربية هاجرت مثلها مثل غيرها من القبائل العربية التي سبقتهم ولكن لهذا العداء أسبابه كما سيأتي معنا.
[1] أتيين دريوتون، جاك فاندييه، عباس بيومي عربة، مصر، مكتبة النهضة المصرية-القاهرة، ص322، الموسوعة الفلسطينية، هيئة الموسوعة الفلسطينية، دمشق، ص.ب 8084، الطبعة الأولى، 1984، المجلد الرابع، ص545.
[2] المرجع السابق، ص322.
[3] عبد الحميد أبو زايد، مرجع سابق، ص423.
[4] محمد عزة دروزة، ج2، مرجع سابق، ص122.
[5] دريوتون، فاندييه، مرجع سابق، ص322.
[6] محمد عزة دوروزة، ج2، مرجع سابق، ص129.
[7] سليم حسن، مصر القديمة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1948م، الجزء الرابع، ص54.