من باب البريد إلى دبلن
سامي مروان مبيّض*
أنا أجمع الكتب النفيسة والنادرة المتعلقة بتاريخ مدينة دمشق. وكلما اقتنيت مكتبة قديمة، وجدت بين رفوفها نسخة من كتاب #البديري_الحلّاق "حوادث دمشق اليومية"، المطبوع في #القاهرة أيام الوحدة مع مصر. الكتاب غني عن التعريف طبعاً، وهو عبارة عن مذكرات حلّاق دمشقي من القرن الثامن عشر، عاش في حارة التعديل بالقنوات وعمل حلاقاً في باب بريد، حيث سمع أخبار الناس وقام بتدوينها.
تنتهي مذكرات البديري عام 1761، ولا نعرف إن كان ذلك بسبب وفاة المؤلف أو توقفه عن الكتابة. هناك روايتان عن مصير المخطوط من بعده، وكيف وصل إلى يد الشيخ محمد سعيد القاسمي (والد العلامة جمال الدين القاسمي وجد المحامي ظافر القاسمي)، الذي قام بتحقيقه بعد قرابة المئة عام على وفاة البديري. الرواية الأولى تقول إن القاسمي وجد المخطوط في دكان أحد بائعي العطورات، حيث كانت أوراقه تُستخدم للصرّ، فقام بشرائها وأخذها إلى منزله. والرواية الثانية تفيد بأنه حصل عليها من صديقه الشيخ طاهر الجزائري، الذي اقتناها بقيمة 300 قرش من مزاد مخطوطات في #الجامع_الأموي.
كلا الروايتين تفتقدان إلى إثبات، ولكن المؤكد الوحيد هو أن القاسمي قام بتحقيق النص قبل وفاته سنة 1900، وظلّت المسودة طيّ النسيان حتى أيام الوحدة، عندما قام المؤرخ المصري أحمد عزت عبد الكريم بتحقيقها مرة ثانية ونشرها سنة 1959.
ولكن ومنذ سنوات قليلة، صدر بحث بالغ الأهمية للباحثة دانا سجدي، من كلية بوستون الأميركية، فيه تحليل عميق لمذكرات البديري وإشارة إلى أن النسخة المطبوعة (نسخة القاسمي) تختلف عن المخطوط الأصلي الذي وضعه البديري. تقول الدكتورة سجدي في كتابها إن القاسمي أنزل نفسه مكان المؤلف، وأدخل مفردات وعبارات لم تكن موجودة في النص الأصلي، كما أنه غيّر اسم المؤلف، من "ابن بدير" إلى "البديري"، وهو الاسم الشائع اليوم.
وتشير سجدي إلى أن نسخة من مذكرات البديري، أو ابن بدير، موجودة اليوم في مدينة دبلن الإيرلندية. ولكوني فضولي ومهتم بتاريخ مدينتي، تواصلت مع المكتبة المذكورة، وبالفعل وجدت فيها مخطوط البديري تحت الرقم Ar 3551. وقد تبين أن ملكية المخطوط تعود إلى رجل أعمال أمريكي يُدعى ألفرد شستر بيتي، أحد أهم جامعي النفائس العالمية، الذي عاش سنواته الأخيرة في #دبلن وكانت مقتنياته تضم، إضافة لأوراق البديري، مفروشات الملكة #ماري_أنطوانيت ونسخاً نادرة من #القرآن_الكريم. وتبين في سجلات المكتبة أنه اقتنى مخطوط البديري من القاهرة سنة 1928.
تعمقت أكثر بالبحث، وتبين أن هذا الرجل الأمريكي قام بشراء مخطوط البديري من تاجر يهودي يُدعى إبراهيم شلومو يهوذا، صاحب متجر لبيع الكتب القديمة، بالقرب من #جامع_الأزهر في #القاهرة. ولمن لا يعرف يهوذا، فهو كان أكبر جامع مخطوطات في العالم، درس في ستراسبورغ وعاش بين مصر وفلسطين وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد باع الكثير من المخطوطات الإسلامية إلى الجيش الأميركي، إضافة إلى أكثر من 5300 مخطوط إلى #جامعة_برنستون. وقد وصل القاهرة سنة 1906، أي أن المخطوط جاء معه من دمشق في نفس تلك الفترة.
يبقى السؤال: كيف وصل مخطوط حلّاق باب بريد إلى يد إبراهيم يهوذا؟ كيف خرج من دمشق إلى القاهرة؟ هل سُرق أم أن أحد الدمشقيين باعه لليهودي الذي قام بدوره ببيعه إلى الرجل الأمريكي؟ ويبدو من هوامش النص الموجود في إيرلندا أن نسخة دبلن هي نسخة القاسمي المنسوخة عن الأصل، وليست نسخة البديري الموجودة حتى اليوم في مكتبة الأسد، وقد يكون القاسمي نسخ المخطوط بيده عندما قام بتحقيقه، وأعاد الأصل إلى طاهر الجزائري الذي قام بوضعه في المكتبة الظاهرية، قبل سنوات طويلة من نقل معظم محتوياتها إلى مكتبة الأسد.
هذا التسلسل جعلني أفكر بمصير آلاف المخطوطات الدمشقية المبعثرة حول العالم. ومن المخطوطات المفقودة مثلاً، مذكرات أبو سعود الحسيبي، نقيب أشراف دمشق في مطلع القرن العشرين، وأحد الشهود العيان على أحداث عام 1860. المؤرخ اللبناني الراحل كمال صليبي حقق أوراق الحسيبي داخل المكتبة الظاهرية سنة 1968، حيث كانت موجودة تحت الرقم 4668، وجاء بعده المرحوم الدكتور سهيل زكار ليعيد نشرها في كتاب صادر سنة 1982، ولكن أين هو المخطوط الأصلي؟
الجواب ببساطة: غير موجود، لأنه دُمّر يوم انهيار أحد جدران المكتبة العادلية بدمشق قبل أربعة عقود، والله أعلم.
*نشر كاملاً في موقع رصيف 22 يوم 30 حزيران 2020.
#سامي_مروان_مبيض