الجامعة الإسلامية في فكر السلطان عبد الحميد
يتجلى إدراك البُعد الإسلامي في الصراع من خلال موقف الغرب من جهود السلطان السلطان عبد الحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين الفعليين، الذي تولى الحكم في ظل ظروف صعبة كانت تحيط بدولة الخلافة، ومؤامرات شرسة في الداخل والخارج كانت تُحاك ضد الدولة العثمانية، ومشروع صهيوني ناشئ يريد قلب الأمة والوطن ، فلسطين، وطناً قومياً لليهود (دولة يهودية)، وتساقط أقطار الوطن الإسلامي الواحدة تلو الأخرى تحت الاحتلالات الغربية، الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، تلاه الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839، وفي عهده الاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881، والاحتلال البريطاني لمصر 1882. ومن أجل وقف ذلك التراجع في قوة المسلمين والحفاظ على الوحدة السياسية للمسلمين، واستعادة نهضة الأمة، والحفاظ على تماسك ووحدة ما تبقَ من أقطارهم ومنع وقوعها تحت الاحتلال الغربي، أطلق فكرته (الجامعة الإسلامية) التي كانت الصرخة الأخيرة للحفاظ على وحدة المسلمين سياسياً وجغرافياً ولتحرير ما احتل من بلادهم. فقد كان السلطان عبد الحميد مؤمناً بفكرة (الجامعة الإسلامية)، وفي المقابل كان الغرب الصليبي في ظل تلك الظروف الصعبة التي كانت تمر بها دولة الخلافة الإسلامية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر يشعر ويمني نفسه باقتراب زمن اقتسامه لممتلكات دولة الخلافة وانتزاع فلسطين من السيادة الإسلامية، ويعمل جهده منع أي حدث ممكن أن يؤخر تحقيقه لأطماعه في وطننا وتنفيذ مخططاته ضد الأمة والوطن. وقد كان السعي الحثيث من آخر الخلفاء العثمانيين الفعليين، السلطان عبد الحميد الثاني، لإعادة توحيد الأمة الإسلامية، واستعادة قوتها ومجدها، وبعث الروح القوية في نظامها السياسي، من خلال الدعوة إلى فكرة "الجامعة الإسلامية" التي لو قدّر لها النجاح لانحصر الغرب داخل حدوده مرة أخرى كما حدث سابقاً، وما كان أفلح اليهود في اغتصاب فلسطين، هو ما أثار الغرب ضد السلطان عبد الحميد وأرعبه كثيراً منه، وخشي من نجاح فكرة الجامعة الإسلامية ومن عودة الروح والتماسك للأمة من جديد. فقد أدرك الغرب ما لم يدركه كثير من المتغربين والمسلمين العاديين، وحتى دعاة العلم والثقافة أن الإسلام في المفهوم السياسي الصحيح يمثل الوطن للمسلم، وذلك ما عبر عنه المستشرق الفرنسي (هانوتو) مستشار وزارة (الاستعمار) الفرنسية بقوله: "إن شعور المسلمين مبهم من حيث الجامعة السياسية أو الرابطة الوطنية فالوطن عندهم هو الإسلام، وهم يقولون: إن السلطة مستمدة من الألوهية فلا يجوز أن يتولاها إلا المسلمين"![1] إن هذا المفهوم الغربي للإسلام هو الذي دفع الغرب للثورة ضد دعوة السلطان عبد الحميد الثاني وجمال الدين الأفغاني وغيرهما للجامعة الإسلامية في القرن التاسع عشر وعمل على تشويهها. فقد وصفها أحد المستشرقين الفرنسيين: "كانت حركة الجامعة الإسلامية، هي الغول المرعب في ذلك العصر، على نفس الطريقة وفي نفس الزمن الذي انتشر الرعب فيهما من الخطر الأصفر وكانت هذه الكلمة ـ حركة الجامعة الإسلامية ـ نفسها توحي بالتطلع الإسلامي للسيطرة وبأيديولوجيا عدوانية، وبمؤامرة على نطاق عالمي"![2]. كما يقول (لوثروب): كانت دعوة السلطان عبد الحميد للجامعة الإسلامية بمثابة "استصراخ الأمم الإسلامية في كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي لتمد يد العون إليه وشد أزره بالالتفاف حوله، قاصداً قذف الرعب في روع الدول الغربية التي خالها تتآمر فيما بينها وتتخذ الوسائل للقضاء على المملكة العثمانية"، وقد بلغ أمر هذه الدعوة غايته؛ وهي تكتيل المسلمين وجمع كلمتهم وتهيؤهم للجهاد، حتى كان السلطان يفاوض الدول الكبرى ويساومها، بل ويهددها أحياناً، مُلوّحا بسلاح الجهاد"! ونود التأكيد من البداية أن السلطان عبد الحميد كان يتابع تحركات اليهود ومخططاتهم من قبل توليه السلطنة أيام كان مقيماً في ألمانيا قبل توليه الخلافة، وكانت الفكرة الصهيونية أيامها في بداياتها، وكان يكتب عنها بعض المفكرين الصهاينة في الصحف الألمانية وقد كان متابعاً لتلك الكتابات، ما جعله يدرك أكثر من غيره أبعاد مخطط اليهود في فلسطين وخطره على الأمة والوطن، لذلك فإن موقفه من الصهيونية لم يكن طارئاً ولكن كان موقفاً نابعاً من عقيدة صلبة عنده وغيرة على دينه مقدساته". قد كان هذا موقف السلطان عبد الحميد الثاني الثابت من الأطماع اليهودية في فلسطين نابع من إيمانه الديني، وخوفه على الأمة والوطن، "ونستطيع القول باطمئنان بأن عبد الحميد الثاني بنفسه هو الذي وضع حجر الزاوية لسياسة مواجهة الحركة الصهيونية حيث كان مصراً على منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بأي ثمن، بالإضافة إلى أنه طلب من وزرائه أن يدرسوا ويحيطوا بعناية بكافة جوانب المسألة في اجتماعاتهم، وأن يخرجوا بسياسات محددة ومتكاملة في الوقت نفسه لكي يواجهوا بها الظاهرة الصهيونية على الصعيد المحلي والعالمي"[3]. فقد كتب في مذكراته ما يؤكد حقيقة إدراكه لأبعاد المشروع الصهيوني في فلسطين وأن ذلك الإدراك هو الذي منعه من الموافقة عليه وأن المسلمين أحق من اليهود بفلسطين: "إن الزعيم الصهيوني هرتزل لم يقنعني بأفكاره، وقد يكون قوله: (ستحل المشكلة اليهودية يوم يقوى فيه اليهودي على قيادة "محراثه" صحيحاً في رأيه، إنه يسعى لتأمين أرض لإخوانه اليهود، لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافياً لحل جميع المشاكل ... لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين بل يريدون أموراً أخرى مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين، إنني أدرك أطماعهم جيداً لكن اليهود سطحيين في ظنهم أنني سأقبل بمحاولاتهم. وكما أنني أقدر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي فإني أعادي أمانيهم وأطماعهم في فلسطين"[4]. وذلك لأنه كان يعلم أهداف الحركة الصهيونية ومقاصدها منذ نشأتها وبدأ يعارض مخططاتها، وكثيراً ما كان يردد: "إن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين لأنني لازلت أكبر أعدائهم"[5]. ذلك الإدراك المبكر من السلطان عبد الحميد الثاني كان يشاركه فيه كثير من العلماء والمفكرين والزعماء والقيادات العربية والإسلامية، وكذلك الجماهير الفلسطينية بفطرتها على بساطتها وتواضع تعليمها وثقافتها. ويتجلى موقف السلطان عبد الحميد الثاني الإسلامي في رفضه الضغوط الغربية وعرض هرتزل لتوطين اليهود في فلسطين مع شدة الإغراءات، ويخص القدس إدراكاً منه لجوهر المشروع الصهيوني في وطننا، فقد كتب: "لماذا نترك القدس... إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان وستبقى كذلك. فهي من مدننا المقدسة، وتقع في أرض إسلامية، لا بد أن تظل القدس لنا"[6]. وكما كان السلطان عبد الحميد مدركاً لخطر المشروع الصهيوني على فلسطين والأمة فإنه كان مدركاً أيضاً لأهمية أن يبقى العنصر العربي في فلسطين متفوقاً على اليهود، فقد كتب في مذكراته يقول: "... ولكن لدينا عدد كافٍ من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، وبهذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم". وهذا الموقف عند السلطان عبد الحميد موقف ثابت ونابع عن وعي وإدراك للأهداف اليهودية، فنحن نجده أيضاً يكتب في مذكراته: "من المناسب أن نقوم باستغلال الأراضي الخالية في الإمبراطورية، وهذا يعني من جانب آخر، أنه كان علينا أن ننهج إتباع سياسة تهجير خاصة، ولكننا لا نجد أن هجرة اليهود مناسبة لأن غايتنا هي استيطان عناصر تنتمي إلى دين أسلافنا وتقاليدنا، حتى لا يستطيعوا الهيمنة على زمام الأمور في الدولة".
[1] يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397هـ ،ص53.
[2] مجلة الثقلين، السنة الأولى، العدد الثالث، مرجع سابق، ص182.
[3] الملتقى، مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والتوثيق الإسلامي، العدد الأول –رجب 1403هـ.
[4] المرجع السابق، ص12. نقلاً عن، أثر الأقليات اليهودية، مرجع سابق، ص98.
[5] مذكرات السلطان عبد الحميد، محمد حرب، ص11.
[6]مذكراتي السياسية، مرجع سابق، ص11 -12.