-
قل الحق ولو على رقبتك
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:
فارس الخوري كان أستاذي، استفدتُ منه وقدَّرتُ فضله ومدَحْتُه..
ولكنْ كان آخر مسلم في آخر الأرض أقربَ إليَّ منه.
هذا الكلام لم أقلْهُ الآن، ولكنْ صدَعْتُ به على المنبر من نحو ثلاثين سنة..
فاسْتَأْذَنَني الأستاذ أحمد عسّة (وكان يوماً تلميذي) أن ينشره في جريدتِه، فأذِنْتُ له..
فنَشَرَتْه الجريدة بالخط الكبير (المانشيت) بالقلم العريض. وكانت إحدى مراتٍ ثلاث ثارتْ فيها جرائد دمشق كلها عليَّ، وتبَارَتْ في ذمِّي وشَتْمِي، وجرَّب كلُّ ذي قلمٍ قلمَه فيّ.
أما ذنبي الذي لا يُغْتَفر فهو: أني "كفَرْتُ" بدين الوطنية، ودَعَوْتُ إلى الطائفية، وفرَّقْتُ بين المواطنين بسببٍ من اختلافِ الدين..
وهم يهْتُفون كل صباح:
بلادُ العُرْبِ أوطاني ..... منَ الشامِ لبَغْدانِ
ومن نجْدٍ إلى يمَنٍ ..... إلى مصر فتطوانِ
فلا ديـــــــنٌ يُفَرِّقُنا ...
لا يُفَرِّقُنا الدين؟!!
أي أنهم يريدون أن نجْعَلَ الكافرين كالمسلمين، وأن نَدْعُوَ بدعوة الجاهليين..
نَدَعُ كلام ربِّ العالمين: (إنما المؤمنون إخوة) فنُنْكِر أُخوّة الإيمان، ونَتَمَسَّكُ برابطة اللسان، فيكون أبو لَهَبٍ وأبو جهل أقربَ إلينا من بلال وسلمان..
كلَّا ولا كرامة!! قُلتُها من أول حياتي وأقولها الآن...
أما الذي قلتُ عنه هذا الكلام... وهو أستاذُنا فارس الخوري، فقد قابَلْتُه في الطريق، فحاولتُ أن أقول له شيئاً، فسبقني فقال لي (بالحرف الواحد):
لا عليك؛ لقد جهَرْتَ بحكم دينك، وهذا ما أُكْبِرُهُ فيك، وجَعَلْتَني أقربَ النصارى إليكم، وهذا ما أشْكُرُكَ عليه.
وكان ممَّن حضَرْتُ عليه في المدرسة وفي الجامعة أساتِذَة من النصارى، ودَرَسْتُ العبرية في دار العلوم في مصر على الأستاذ اليهودي ولفنسون..
فكنتُ أُقَدِّر علم العالم منهم، لا أُنْكِر فضْلَه ولا أبْخَسه حقَّه، وأَبَرُّ منهم مَنْ لم يقاتِلْنا قومُهُ في الدين ولم يُخْرِجونا من ديارنا وأُقْسِطُ إليهم..
ولكن لا أُجامِل واحداً منهم أو من غيرهم في ديني..
إذا جاء حكم الدين بَطَلَت المجاملات.
كذلك كانت صِلَتي بفارس الخوري؛ صِلَة تلميذٍ يُقَدِّر أستاذَه ويأخُذ من عِلْمِه..
وسَتَرَوْن أن ذلك كلّه لم يَمْنَعْني أن أُعلِن أن الإسلام لا يُجيز انتخاب غير المسلم نائباً في مجلسٍ يُشَرِّع القوانين للمسلمين...
وكان فارس الخوري أحد عباقرة العرب في هذا العصر عِلماً وفِكراً وبياناً...
وكنت أعْجَب منه كيف يكون له هذا الاطِّلاع على الإسلام وهذا العقل ولا يهديه عقله إلى اتّباع دين الحق الذي لا حق في الأديان غيره...
فلما مَرِض وطال مرضه رأيناه كلما عادَه أحدٌ من المسلمين حدّثه عن الإسلام، وكان يُكْثِر أن يطلب من شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار ومن غيره أن يقرأ عليه القرآن..
وأوصى (ونُفّذتْ وصيتُه) أن يُتْلى القرآن في مجلس التعزية به إذا مات..
فكنتُ أحار في تفسير هذا كله!
حتى نشر الأستاذ محمد الفرحاني كتابه عنه (وقد كان مُلازماً له في مرضه ولا يفارقه أبداً) فإذا هو يُؤَكّد أنه مات على دين الإسلام..
فرحمه الله ورحم الفرحاني الذي فرَّحنا بهذا النَّبأ.
من كتاب (الذكريات) الجزء الثاني
-
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى