-
قراءة في قصة نوار
كاتب الأطفال جيكر خورشيد
السلسلة الثانية
الحلقة الأولى(01)..
قراءة في رواية (نوّار):
كنت دائما مفتونا بالقصص التي تحدث في الرّيف والطبيعة الخلابة، ولازلت إلى حدّ الآن أميل أكثر إلى هذا النوع من القصص سواء ما كان منها للكبار أو الصّغار، وأحداث قصّة نُوّار فيها ظلال ممتدّة لحياة عشتها أنا نفسي في الرّيف، وعاشها كثير من أبناء جيلي، ولذلك معظم من يقرأها يحسّ بتلك اللغة التي نشأ عليها، والمسميّات التي كانت جزءا من حياة صباه، نُوّار رغم أنّه طفل يتيم إلا أنّه يعيش في قلوب كثير من الأطفال الكبار، ويعبّر عن تاريخ الطفولة البريئة الصادقة التي تقتحم عوالم المجهول في مغامرة لذيذة وتحدٍّ غريب.. !
رواية مغامرة بامتياز تستجيب لخيال الطفل المجنّح وتمضي بعيدا في اكتشاف المجهول، ويعجبني فيها ذلك المزيج بين الحقيقة المعيشة التي نجدها كلّ يوم في حياة الطّفل، وبين الخيالات التي تهواها النّفس وتشغل حيزا مهما من حياة الطّفل عندما يخلو بنفسه، وعندما يُسْلِم جفنيه لنوم عميق، فيرى ما لا يراه الكبار ويحلم أحلاما غير أحلامهم.
صدرت رواية (نُوّار) عن أكاديميا أنترناشيونال، لينان، في ثمان وأربعين صفحة من القطع الصّغير، عام 2020.
رواية من عمق الذكريات:
كثير من المبدعين يقولون أنّ أعظم القصص والروايات هي التي تؤخذ من الحياة وواقع الإنسان، ففي واقعنا من الغرائب والعجائب ما يفوق الخيال، وقصّة نُوّار التي يرويها بنفسه، تمزج بين هذا وذاك، تجعل الواقع أرضية للتّحليق في عوالم الخيال بكلّ حريّة وانطلاق..
نُوّار فتى صغير يتيم الأبوين، يعيش مع جدّه في الرّيف، ورغم صرامة جدّه الذي كان يحبّ أن يلازمه باستمرار إلا أنّه كان يهتبل الفرص بين فينة وأخرى للانضمام إلى رفاقه (أمين وفريد وياسمين وسهام) واللّعب مهم، والتجوال في البساتين، ولذلك يقول في بداية الرّواية:
" وأخيرا استطعت الهرب من جدّي. قلت بفرح."
هؤلاء الأطفال هوايتهم صيد الجراد، بقيادة الفتى البارع (فريد)، والذي كان يتحكّم في المجموعة ويفرض عليها قواعده، ويفرض على المجموعة تقديم جائزة من الفواكه للّذي يتمكن من اصطياد أكبر عدد من الجراد، وبطبيعة الحال، كان هو الفائز دائما، والجائزة تكون فاكهة الموسم، سلّة مشمش أو توت أو عنب أو تين.
وطبعا للحصول على مشمش العمّ شكري مغامرة تستحقّ المجازفة، فكلبه (زعتر) في الانتظار، ولولا أنّ بينه وبين نُوّار صداقة قديمة، لكانت الكارثة، فقد أنقذه ذات ليلة من الجوع عندما غضب عليه الخال شكري، بسبب فرار الحصان وتركه خارج البيت.
ومن مغامرة صيد الجراد ينتقل الأطفال الأصدقاء إلى صيد طيور الشحارير، ولكنّ الذي دعاهم إلى صيدها، نُوّار؛ هو الذي يطبق الفخاخ مخافة أن تصطاد أمًّا وتترك صغارها أيتاما مثلما هو يتيم، بعدها ينتقلون إلى البحث عن الكنز في مغارة والد أمين، التي كان يتخذها حظيرة لبغله وحصانه، وبعد جهد جهيد ينجحون في اكتشاف مكان الكنز ويستخرجونه من المغامرة بمساعدة الجدّ.
ويقترح نُوّار أن تبنى مدرسة متطورة للأطفال من ذلك الكنز، ويشتري الأهالي لأولئك الأطفال الأبطال درَّاجات يذهبون بها إلى المدرسة، وتنتهي القصّة بسعادة تعمّ جميع سكّان القرية.
رواية متعدّدة المغامرات:
الرّواية ابتعدت عن المثالية الزائدة ووصفت الواقع كما هو، وتبدو من تفاصيلها أنّ لها ظلالا من واقع الكاتب، وخلفية تعود إلى طفولته الأولى، وهي مغامرة بأتمّ معنى الكلمة تروي الأحداث بعفويّة، دون محاولة تقديم إرشادات تربوية مباشرة، لكن حملت جملة من القيم التي تٌستشفّ من خلال الأحداث، أو الحوار بين أبطال القصّة.
ومن تلك القيم التي تؤخذ من القصّة بشكل غير مباشر نذكر:
- لفت الانتباه إلى اليتيم وأهمية الاعتناء به ورعايته، ( رعاية الجد لنُّوار، واحترام الأصدقاء لموقف نُوّار من الامتناع عن صيد الشحارير، مخافة اصطياد أمّ لها صغار تتركهم أيتاما).
- أهمية اللعب بالنسبة للطفل، وكيف يوطّد العلاقات بين الأصدقاء وأهاليهم أيضا.
- الرّفق بالحيوانات والعناية بها (مساعدة نُوّار لكلب الخال شكري وإعطائه الطعام).
- أهمية الحوار في تقوية الروابط بين الأهل والأصدقاء (الحوار بين نٌوّار وجدّه، والحوار بين الأصدقاء).
- مساعدة الأهل في أعمال البيت ( نوار يساعد جدّته في جلي الصّحون).
- الاعتذار سلوك جيّد لتجديد الثقة (اعتذار فريد لأصدقائه).
- غرس حبّ الوطن والأرض من خلال تصدير الرواية بمقولة الجدّ الرائعة:
»السّماء في قريتي أكثر اتّساعا، والشمس أجمل إشراقا، والقمر أبهى طلّة، والقمح ألذّ طعما من كلّ قمح الدنيا«
- تقديم بعض المعلومات الثقافية مثل، ذكر قصّة علي بابا واللصوص الأربعين، وقصّة (الكونت دي مونت كريستو) لأليكسندر دوما.
هناك قيمة أخلاقية عرضت لها الرّواية بشكل غير مباشر، وهي سرقات الصّغار، وهي قيمة سلبية يحث كثير من التربويين على معالجتها في المهد قبل أن تستفحل، لكن الحالة التي عرض لها الكاتب هنا، تختلف بعض الاختلاف، إنّها تحدث في وسط شبه عائلي، يعني في بيئة ريفية (قروية)، معظم عائلاتها تعيش في مودة وتآلف وتعيش كأنّها في أسرة واحدة كبيرة، وسرقات الأطفال عندهم لبساتين الفاكهة مثلا؛ كانت لا تؤخذ بجديّة كبيرة، ولا يهوّل من شأنها، بل تعتبر نوعا من اللّهو واللعب الطفولي،لاسيما أنّ الأطفال غالبا ما يكون معهم فرد من عائلة أصحاب البستان الذي أخذت منه الفاكهة، وهم رغم ذلك يشعرون بنوع من الذنب، ولم يشأ الكاتب أن يعرض لعلاج هذه الظاهرة بشكل مباشر، لأنه اعتبرها من قبيل تسجيل حماقات الطفولة ولهوها البريء.
والكاتب هنا لا يريد أن يكون مثاليّا جدا في رسم ملامح روايته، بل أراد أن تكون عبارة عن مغامرة طفولية ساذجة فيها كثير من الواقع وقليل من الخيال المجنّح الذي يميل بأحاسيس الأطفال ومشاعرهم ذات اليمين وذات الشمال.
البناء الفنّي في الرواية:
البيئة والشخصيّات:
القصّة تجري في مجتمع ريفي فلاحي، وهي نوع من الفضاءات المكانية السّاحرة بالنّسبة للطفل القارئ، تجعله ينغمس وسط الطبيعة الجميلة، بكل ما فيها من مساحات خضراء وحيوانات غريبة، وأشخاص بسطاء لا يحملون بين جوانحهم تعقيدات المدينة وعُقَدها، ولذلك تجد شيخا واحدا طاعنا في السّن، له الكلمة الفصل في قضاياهم الكبرى وشؤونهم الطارئة، فلا يردّون قوله، ولا يرفضون أمره، وتسير حياتهم في سلاسة ودعة.
وأبطال القصّة البارزون خمسة، البطل الأساسي (نُوّار) ثمّ جدّه الذي يشرف على تربيته بعد وفاة والديه، وأيضا رفاقه الأربعة أيمن وسهام وياسمين وفريد، بالإضافة إلى أبطال فرعيين، هم الجدّة والخال شكري، وكذلك كلبه (زعتر)، ويبدو نُوّار شخصيّة قويّة وفاعلة رغم اليتم بفقد الأبوين، ولكنّه يبدو أنّه استمدّ شخصيّته من شخصيّة جده، لأننا نكتشف فيما بعد أنّ جده رغم طابعه المرح، وحبّه للمزاح، إلا أنّه كان شيخ القرية وزعيمها وكلامه هو الفصل في شؤونها.
أمّا الشخصيات الأخرى فهم أبطال مساندون، كلٌّ يتميز بطابع خاص ويقوم بدور فاصل في مرحلة من مراحل تعاقب الأحداث، فمرة يجعل الكاتب الأضواء تسلّط على فريد ومهارته في صيد الجراد، وصيد الشحارير أيضا، ثم اكتشاف الجانب الآخر من شخصيته، الذي اعتذر عنه، وهو الخداع، ثم يتوالى الأبطال الآخرون في إظهار مواهبهم كلٌّ في حينه.
الزمن هنا بدا زمنا خاصا بالأطفال، هو زمن جزئي آني، الصباح والمساء والظهيرة والليل، والنهار، ذلك أنّ الزمن عند الطّفل هو أن يعيش لحظته، لا يفكر إلا في اللَّحظة الرّاهنة، وإن أجهد نفسه فهو بين أمس واليوم، يقول نوار:
" بعد يوم حافل بالشقاوة عدنا إلى المنزل.."
ويقول أيضا:
" كلّ يوم وقبل شروق الشمس يخرج أهل قريتي إلى حقولهم وبساتينهم ".
يتبـــع..
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى