لعلها المرة الأولى التي أكتب على صدى "تغريدة"دون أن أورد نصها .. وحساب صاحبها!!ذلك أنها تاهت مني ..بعد قراءتها .. التغريدة قال صاحبها أو صاحبتها ... أن السيرة التي أعجبته أكثر من غيرها هي سيرة "الشاه محمد رضا بهلوي" شاه إيران السابق!!!وهذا الكلام – مع احترام وجهة نظر صاحبه – يستحق أكثر من علامات التعجب الفقيرة هذه.لم أستطع تبين وجه الإعجاب في رجل حكم من سنة 1941 حتى سنة 1979 .. ثم أضاع ملكه .. !!ولعل الخطوة الأولى في إضاعة ملكه .. شعوره بـ"الكمال" .. وهو كما قلتُ في العنوان مؤذن بزوال الدول .. لأنه يقف حاجزا بين قيادة تلك الدولة وتبين أخطائها .. ومن ثم تصحيح تلك الأخطاء .. وإعادة الأمور إلى نصابها .. أول شيء خطر في بالي عند قراءتي تلك التغريدة الشاردة ..قول وزير إيراني سابق مخاطبا الشاه محمد رضا :(ماذا تريد يا سيدي؟ في زمن والدك ما كنا نجرأ على الكذب،أما في زمانك،فلم نعد نجرأ على الصدق)!!إن من يدفع وزراءه للكذب عليه ... يضع لبنة في هدم دولته .. لأنه لا يعرف ما الذي يحصل فيها فعلا .. وسيشعر بالكمال وهو يتلقى سيلا من التقارير الكاذبة .. المطمئنة .. والمخدِّرة في آن واحد.وكما جاء في كتاب"الصبح" :(ولا تستبدّ برأيكَ فإن الاستبداد يُعَمِّي المَراشد،ويُبهم المقاصد ){ ص 421 جـ 10 ( صبح الأعشى ..}.قبل القلقشندي المتوفى سنة 821هـ .. بكثير .. حوالي 845 قبل الميلاد .. ألقى "دوق جَوْن" بين يدي الملك "لي – وانج"خطبة جاء فيها (يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارا في قرض الشعر،والناس أحرارا في تمثيل المسرحيات،والمؤرخون أحرارا في قول الحق،والوزراء أحرارا في إسداء النصح،والفقراء أحرارا في التذمر من الضرائب،والطلاب أحرارا في تعلم العلم جهرة،والعمال أحرارا في مدح مهارتهم وفي السعي في العمل،والشعب حر في أن يتحدث عن كل شيء،والشيوخ أحرارا في تخطئة كل شيء ){ ص 4 جـ 1 (قصة الحضارة) / ول ديورانت / ترجمة : محمد بدران / طبعة الجامعة العربية }.يبدو أن إمبراطور إيران لم تكن لديه الروح الرياضية التي لدى الإمبراطور الصيني "لي – وانج"!!الخطوة الثانية في زوال عرش"بهلوي"تكمن – ربما – في ذلك الإسراف الذي تعامل به مع مال الدولة .. من الحفل الأسطوري الذي أقامه .. وتوج عبره زوجته الثالثة "فرح ديبا"بلقب :"الشاه بانو"!!وأيضا ..(قام في عام 1971 باحتفال أسطوري ضخم بمناسبة مرور 2500 عام على تأسيس الإمبراطورية الفارسية القديمة على يد سايروس"كورش"خلال الفترة من 12 أكتوبر إلى 16 أكتوبر 1971 دعا فيه رؤساء وملوك العالم والأمراء لزيارة مدينة برسبولس الإيرانية التي أقيم فيها عرض عسكري ضخم شارك فيه الآلاف مرتدين زي الجيش الإخميني ..صُرف على ذلك الاحتفال مائتي مليون دولار)مئتي مليون دولار .. بقيمتها الشرائية في ذلك الزمان!تبذير المال هذا يذكر بتعليق "يوسف بن تاشفين" على تبذير "المعتمد بن عباد"،وذلك حين اقترح مرافقو ابن تاشفين عليه أن يحذو حذو المعتمد الأبهة التي رأوها عند "ابن عباد"فكان رده : (الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل- يعني المعتمد – أنه مضيع لما في يده من الملك،لأن هذه الأموال التي تعينه على هذه الأحوال { يعني الترف – محمود} لابد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدا،فأخذه بالظلم،وأخرجه من هذه الترهات،وهذا من أفحش الاستهتار ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين،متى تستنجد همته في حفظ بلاده وضبطها وحفظ رعيته والتوفر على مصالحها){ (ذكريات مشاهير رجال المغرب) / عبد الله كنون الحسني }الخطوة الثالثة .. تلك الحالة التغريبية التي وضع فيها إيران .. حتى أصبحت الخمور ولحوم الخنازير – في بلد مسلم – مما يتحسر عليه "التغريبيون"بعد زوال حكم الشاه محمد رضا .. فقد كتبت الأستاذة آذر نفيسي : (كنا جالسين في غرفة طعامه نأكل بنهم شطائر الـ"هام"{ في الهامش : الهام شرائح من اللحم تؤخذ من فخذ الخنزير} بالجبنة حينما أطلقنا عليها معا "كروك سير" { في الهامش : كروك سير : حلويات راقية تقدم بعد وجبة طعام فاخرة.} لابد وأن كلانا قد التقط التعبير ذاته في عيني الآخر بطريقة أو أخرى،ذلك التعبير عن المتعة العابرة،ذلك التعبير عن المتعة الخالصة الآثمة،مما حدا بنا أن نغرق في الضحك في اللحظة ذاتها.رفعتُ له كأس الماء وقلت : "من كان يصدق أن وجبة بسيطة كهذه يمكنها أن تبدو لنا وكأنها وليمة ملكية؟"فقال : "لابد أن نشكر الجمهورية الإسلامية لأنها جعلتنا نعيد اكتشاف كل تلك الأشياء التي كنا نعتبرها أمورا عادية،بل ونتحسر عليها...){ ص 98 (أن تقرأ لوليتا في طهران ) / آذر نفيسي / ترجمة : ريم قيس كبة / منشورات الجمل / د.ط / د.ت"نسخة إلكترونية"}الانحلال الأخلاقي .. يذكر بما جاء في مقدمة تحقيق كتاب"الإشارة في تدبير الإمارة" للحضرمي،حيث نقل محقق الكتاب عن كتاب"البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب"لـ"ابن عذارى" عند الحديث عن"بني زيري"وسقوط دولتهم :(وجرت بين ذلك أمور وخطوب لا يحسن ذكرها،لشناعتها،إذ الدول إذا أدبرت كل ما يجري فيها يقبح ذكره.){ ص 13 (الإشارة في تدبير الإمارة) / محمد بن الحسن المرادي الحضرمي / تحقيق : أ.د/ علي سامي النشار }.لا أشك أن تلك الأمور التي لا يحسن ذكرها .. تتعلق بالأخلاق .. وهذا يذكر بمقولة للرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش – رحم الله والديّ ورحمه – وهي عبارة لافتة :(تدخل الشعوب التاريخ أغنياء في الأخلاق وفقراء ماديا،وعندما يخرجون من التاريخ،فإن الوضع عادة يكون معكوسا. وهذا ما يثبته التاريخ عن معظم الشعوب الهامة. الفرس القدماء،والرومان،واليونان،والعرب،والشعوب الغربية الحالية){ (هروبي إلى الحرية)}وبعد .. ما النتيجة الطبيعية لتحويل بلد مسلم إلى صورة من الغرب .. خمور .. ولحم خنزير .. إلخ.لعل الأمر لا يتجاوز القانون الثالث لـ"نيوتن" :"لكل فعل رد فعل،يساويه في الشدة،ويعاكسه في الاتجاه"ذلك الانحلال الذي نشره الشاه "محمد رضا بهلوي" .. هو الفعل الذي كانت ردة الفعل المساوية له في الشدة،والمعاكسة له في الاتجاه .. ذلك الفعل هو "حكم الملالي" .. والذي قاده آية الله الخميني .. والذي .. في لحظة ودون أية دراسة وإعطاء فرصة للمجتمع لتغيير سلكوه والتأقلم مع الوضع الجديد... أو يعود إلى ما يتماشى مع ثقافته ودينه .. بل كانت ردة الفعل المعاكسة .. عنيفة .. حد التطرف أحيانا .. فعلى سبيل المثال بدلا من يدعو نظام الملالي إلىعودة الحجاب الساتر الشرعي .. وضعوا مقاييس دقيقة .. فمثلا حددوا لـ "الربوش" أن يصل إلى منتصف "ربلة الساق" - كما يقول السفير الفرنسي السابق في إيران فرانسوا نيكول،في كتابه"الوردة والعمامة" - وويل لمن لم تلتزم بذلك.ختاما .. بعد قضاء الله – سبحانه وتعالى – وقدره .. الذي إذا نزل عميت الأبصار .. لعل الشاه "محمد رضا بهلوي" .. كان ضحية شعوره بالكمال ... والشعور بالكمال .. كما يبدو .. مؤذن بسقوط الدول.أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني