[TD="colspan: 3"]
[TR]
[TD="class: ady"][/TD]
[/TD]
[/TR]
[TD="colspan: 3"]
[TR]
[TD="class: ady"][/TD]
[/TD]
[/TR]
قبل أن يأتى وزير الخارجية مايكل پومپيو إلى القاهرة، فى إطار جولة سريعة طاف خلالها بعواصم عدة فى الشرق الأوسط، كان معلوما أنه جاء ليلقى الخطاب المضاد لخطاب أوباما الشهير الذى ألقاه الرئيس الأمريكى السابق فى جامعة القاهرة عام 2009. كان معلوما أن ثمة أزمة داخلية تعانى منها الإدارة الأمريكية مع الكونجرس الذى اكتسحته أغلبية ديمقراطية فى الانتخابات النصفية، رفضت تمويل الجدار الذى يريد الرئيس ترامب أن يبتنيه على الحدود مع المكسيك، وتمسكت بموقفها حينما فرض ترامب على الحكومة إغلاق مستمرٌ حتى الساعة، هو الأطول والأكثر كلفة فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. كان معلوما أن ثمة أزمة ثقة داخلية تطال رئيسا تلاحقه شبهة التخابر مع روسيا لإنجاح حملته الانتخابية، ولا تنفك دائرة الاتهام تضيق من حوله كل يوم مع قرب اكتمال أوراق المحقق الفيدرالى روبرت مولر، وإدانة المقربين من الرئيس الواحد تلو الآخر، وتعالى دعوات عزله على ألسنة نوابٍ وبأقلام الصحافة.. كان كل ذلك معلوما. وكل قراءة لا تعى هذا السياق المتأزم لخطاب ممثل دبلوماسية هذه الإدارة المأزومة ستكون بالضرورة قراءة لا تعى بواعث الخطاب ومحرك أصحابها وسباقهم المستميت مع عامل الوقت.
***
فى لحظةٍ قرر فيها الرئيس الأمريكى سحب قواته من سوريا، ترتبت عليها استقالة وزير الدفاع المدوية، واستمر معها قفز المنسوبين إلى الإدارة من سفينة الإدارة، وبدت فيها أمريكا وكأنها تتخلى عن حلفائها التقليديين، وبدا فيها الانسحاب العسكرى وكأنه إقرار بصحة الرؤية الانسحابية التى اعتنقها أوباما فى الشرق الأوسط، جاء خطاب پومپيو فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة ليؤكد أن ترامب ليس أوباما.
حقيقٌ أن البديهيات لا تستحق برهنة، لكن بالنسبة لرئيس يحمل هوسا نفسيا بمغايرة سلفه والانقلاب عليه، اقتضت تلك اللحظة التى بدا فيها خياره العسكرى متفقا مع رؤية غريمه أن يرسل ممثل دبلوماسيته للطواف بعواصم الشرق، والانخراط فى برهنة البديهى وتفسير أوجه المغايرة. وبهذا الصدد، كتب الدبلوماسى الأمريكى المخضرم أرون ديع¤يد ميلر: «طوال خمسةٍ وعشرين عاما عملتُ خلالها مع ست إدارات رئاسية، سواء جمهورية أو ديمقراطية، لم أرَ قط إدارة مهووسة إلى هذا الحد بتعريف نفسها انطلاقا من مخالفتها لنجاحات وإخفاقات الإدارة التى سبقتها؛ فهى بقدر ما ترى فى إيران عدوها الأكبر فى الخارج، تبدو وكأنها اتخذت من أوباما عدوها الألد فى الداخل».
هكذا جاء خطاب پومپيو مهاجما أوباما دون أن يسميه، إمعانا فى ازدرائه، معتمدا رؤية تعود لافتراض صورة العالم بالأبيض والأسود، على طريقة جورج دبليو بوش، أو على طريقة أسامة بن لادن الذى قسم العالم إلى فسطاطين: أهل الخير وأهل الشر. وهى رؤية لا تتسق مع مساحات اللون الرمادى التى باتت تغطى وجه العالم وتكاثفت فى شرقنا الأوسط بصورة حادة. رؤية جسدها كل حرف فى الخطاب وفاض بها العنوان الذى اختاره پومپيو له: «قوة من أجل الخير: تعزيز وجود أمريكا فى الشرق الأوسط». فهل تتسق هذه الرؤية مع ما عُرف من التاريخ الأمريكى؟ هل جسدت السياسة الأمريكية منذ نشأتها هذه القوة النازعة إلى الخير؟
***
فى دراسة أجراها الباحث جار سميث عام 2006، استنادا إلى دراسة أجراها عام 1993 معهدُ الدراسات التابع للكونجرس (CRS)، اعتمادا على الوثائق المتاحة فى أرشيف مركز الدراسات التاريخية بالبحرية الأمريكية، يقول سميث: «خلال المائتين وثلاثين عاما التى تمثل عمر الولايات المتحدة الأمريكية، هناك فقط 31 سنة كانت فيها القوات الأمريكية غير مشتبكة فى نزاع عسكرى خارج الوطن». بعبارة أخرى، يشغل السلام حيزا لا يتعدى 13% من تاريخ الولايات المتحدة. ووفقا لنفس الدراسة، فإن من بين الـ 192 دولة المنتمية إلى الأمم المتحدة، تعرضت 64 دولة منها إما إلى الهجوم، أو الغزو، أو الاحتلال، أو «التنظيف الأمنى»، أو قلب النظام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
هكذا، يبدو قَدَرُ الإمبراطورية الأمريكية منذ نشأتها وكأنه مرتبطٌ بالبحث المستمر عن عدو خارجى، وتلك خطيئة الإمبراطوريات كما قال أفلاطون. ففى البدء، كان العدو هو بريطانيا، ثم الهنود الحمر، ومن بعدهم المكسيكيون، ثم الإسبان، ثم اليابان، فالألمان، والطليان. ومن بعدهم الكوريون، فالكوبيون، فالع¤يتناميون، ثم كان من بعدهم السوع¤ييت، ثم العراقيون ثم أفغان طالبان، ثم عصابات باشتونستان وباكستان، ثم عصابات داعش التى خرجت من فجاجها السرية مرتدية وجه الوحش الكامن فى الدهاليز المظلمة من ثقافتنا، ومن بعدها اليوم أو معها إيران. هذا هو قدر أمريكا الذى لم تستطع الإفلات منه، أن تجدد صورة العدو باستمرار، لكى تتواصل ممارستها للقوة، ولكى تستمر مصانع السلاح فى الدوران.
***
إن ما يصنعه پومپيو بخطابه اليوم هو عملية إحلال لعدو العرب التاريخى، مستغلا مخاوف حلفاء أمريكا فى المنطقة من مطامع إيران التوسعية، ومعمقا فجاج الطائفية الحافلة بالألغام الحقيقية. إن المعنِى الأول بخطاب پومپيو فى القاهرة ليست مصر وليس العرب، بل هى إسرائيل التى يرسل إليها ترامب فى لحظته المأزومة برسائل تطمينٍ واستغاثة، باعثا الإشارة ببطلان كل ما جاء فى خطاب سلفه من مطالبة بحل الدولتين، وإدانة للمستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة، واعتراف بمعاناة الشعب الفلسطينى فى ظل الاحتلال، وبحق الفلسطينيين المشروع فى الوجود، وفى الكرامة، وفى إقامة دولتهم.
إن كل تلك الأفكار التى حفلت بها أدبيات خطاب أوباما فى أعوام حكمه، حتى وإن بقيت محض أدبيات بلاغية لم ترَ النور وسط قرارات إدارته البراجماتية، سعى خطاب پومپيو إلى نسفها فى خطابه بالقاهرة، بالاكتفاء بالتلميح إلى أن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين سيأتى ثمرة «للضغط» الأمريكى من دون الإفصاح بالطبع عن صور هذا الضغط، والطرف أو الأطراف التى ستتعرض لهذا الضغط، التى بالطبع لن تكون بينها إسرائيل، التى أسهب فى إرسال رسائل التأييد الواضح لها على امتداد خطابه. «لقد وعدنا ووفينا»، هكذا قال. «فقد وعد الرئيس ترامب فى حملته بالاعتراف بمدينة القدس مقرا للحكومة الإسرائيلية، وعاصمة لدولتها. وفى مايو الماضى، نقلنا السفارة الأمريكية إلى هناك».
أحسبُ أن صفقة القرن كامنةٌ فى هذه العبارة، وماثلةٌ فى هذا الخطاب. وهى لا تتمثل بالضرورة فى «تبادل أراضٍ» بقدر ما تتلخص فى «تبديل رؤى». على الأقل فى المراحل الأولى منها.
***
هذا هو خطاب پومپيو الذى يرتد إلى رؤية أمريكا القوية قائدة العالم التى يؤمن بها ترامب ولا يستطيع التعبير عنها بحصيلته اللغوية الرثة، بل هى الرؤية التى يناقضها فى بعض الأحيان للتماشى مع مواءمات مصالحه، بالتصريح مثلا بأن أمريكا يجب ألا تلعب دور الشرطى فى العالم والاهتمام بشئونها الخاصة. وهى رؤية تتناقض فى واقع الأمر مع نوايا رئيس زئبقى أدرك بحاسته التجارية ضرورة الانسحاب من مصيدة الشرق الأوسط من دون أن يبدو مشابها لرؤية سلفه وغريمه اللدود، ومن دون أن يبدو مخيبا لآمال إسرائيل التى أغضبها إعلانه الانسحاب من سوريا. لكن فيما وراء الخطاب، تبقى دبلوماسية الإدارة الأمريكية الحالية عرجاء. فبعد عامين كاملين فى السلطة، ما زالت تلك الإدارة تفتقر لوجود سفراء فى ستة من البلدان التى طاف بها وزير الخارجية الأمريكى وفى ثلاثةٍ غيرها من بلدان الشرق الأوسط. ومازال نصف أعضاء الوفد المرافق لسيادته لا يحصلون على رواتبهم بسبب غلق الحكومة والأزمة المستفحلة مع الكونجرس. وما زالت التحقيقات الفيدرالية تضيق الخناق على الرئيس.
وكلها إشارات تدعو الحكام العرب إلى التريث وإلى عدم المسارعة إلى القبول بما لا ترضى عنه الشعوب.
http://www.shorouknews.com/columns/v...6-d193368529fb