🕌 [ رَمضَانُ في بَيتِ النُّبوة ]
🌙 الَّليلةُ الرّابعة ..
تَكلّم الشَيخُ ؛ فكانَ صَوته الّليلة دافئاً .. مِثل صَوت الماء في غُربة العَطش !
ثمّ قال :
كيفَ بِكُم لو كُنْتُمْ في مَسجد النّبي ï·؛ ؛ وخَرج عليكم بِبردته الشَّريفة من أبوابِ الحُجرات ؟
تِلك لَحظةٌ ؛ تَهيم في سُبُحات النَّعيم ..
لحظةٌ ؛ شَطرها أَلقُ النُّبوة ، وشَطر باقيها ؛ أنفاسُ جِبريل .
تنَحّى تلميذٌ بِوَجهه ؛ وتوَضّأ بدَمع عَينيه !
فقالَ الشَيخ :
يا وَلدي .. الحُبّ هو الجِسر الذي بَيننا وبينَ مُحَمّد ï·؛ ..
فالحُبّ ؛ يُورِثُ السَخاء في الرُوح ..
والمَرء ؛ يَصبو إلى مَن يُجانَس ..
وللقلبِ على القلبِ دَليلٌ حينَ يَلقاه ..
وتِلك هي العَلامَةُ يومَ القِيامة .
فقالَ تِلميذ :
بِرُوحي مَن تذوبُ عليه رُوحي .. كيفَ تَتشابه قُلوبنا مع قَلبه ؟
قالَ الشَيخ :
فانْصُت لي ؛ كَيْ تَغنمَ بالنَّبيِّ الوَصْلا ..
كانَ النَّبي ï·؛ يُطلّ على أصحَابه في بُردته ؛ راسِخاً في النُور لا تَشوبه ظُلمة الظَنّ !
كانَ كُلّه صَفاءً غيرَ ذِي كَدَر ..
امتلَأ قَلبه بالصَّفاء ؛ حتَى اشتَعل نَجماً دَليلاً ..
والوَحي لا يَنهمرُ في قلبٍ ذُهل عَن وَسواسِه ..
فتنَبّه للمَعنى !
كان للنبي ï·؛ قلباً ..
مَحى مِن نَبضه صَدأ النَاس ..
ثمَّ يَمّمَ شَطر الملأ الأَعلى ..
يَمرّ في خَطايا الناس ؛ فيتَسامى عَن أذَاهم ، ويَلُمّ الشَظايا ..
قال اللهُ له { فإنّك بأعيُننا } .. فخلَع على بابِها كُلّ الهُموم ، وصارَ عُمْره لأُمَّته ؛ ظِلاً ظَليلاً !
لا شَيء كانَ قادراً أنْ يتَسوّر قَلبه ..
لا شَيء ؛ إلا الصَّفح والسَلام ..
كانَ يقولُ ؛ ( لا يَبلّغني أحَدُ من أصحابي عَن أحدٍ شَيئاً ، فإنّي أُحبّ أنْ أخرُج إليكم وأنا سليمَ الصَدر ) .
وقدْ قيل .. ما اسَتقصى كريمٌ قَطْ .. وكان النبي ï·؛ كريما
يا ولدي إنَّما يَقتفي مسّ الشَيطان في الناسِ الفارِغون ..
ومَن لا طَلب له إلا عَثرات مَن عثَروا ؛ يظَلُّ أسيرَ الحِيرة !
كانَ النَّبي ï·؛ يَعْبُر بكلِّ عَفوٍ ؛ خطوةً إلى المَلكوت ..
كانَ وحده في العُبور ؛ وكانَ كَثيراً !
نظرَ الشَيخ إلى كلِّ تلميذٍ وقال :
غادِر نفْسَك ؛ تَصِل إليه ..
غادِر ثَارَاتك ..
غادِر ما تُقاتل النَاس عليه مِن فُتات .
وقدْ قال الجُنَيد :
" مَن فتحَ على نفسه بابَ نِيّةٍ طَيّبة ؛ فتَح اللهُ له سَبعين باباً من أبوابِ التَوفيق " .
لمْ يَكُن السَلام في حَياة النَّبي ï·؛ ومضةَ روحٍ عابِرة .. بل كانَ قَرار الحَياة ( الّلهمّ اغْفِر لِقَومي ؛ فإنَّهم لا يَعْلَمون ) !
وقفَ مِن علٍ يُلَقِّن الناسَ النُور ، ويَغسلهم بالكَلِم الأَبيض ؛( اذهَبوا فأنتُم الطُّلقاء ) !
يُحَرّرهم بلا مَن ّ.. إذْ الكُرهُ قَيدٌ ؛ والعَفو حُرية القَلب ..
ومُحمّد ï·؛ لا يَغْلهُ الأَمْس !
يكادُ يَرى في الغَيب له مُتَّكأً .. فَيُهَونِّ على فاطِمة ؛ إذْ يبُكيها ظُلم قُريش ؛ ما مَسّني الضُّر .. ما مَسّني الأذى !
نَبيٌ ..
ما طَرقت الأُمّة أبوابَ قَلبه ؛ إلا ألِفَتها مَفتوحة..
إذْ كان قَلبه حَرمٌ ؛ لا يَسكنه إلا طاهِرُ الحَمام مِن الأَفكارِ والنِّيات والقِيَم !
ما أشَقّ أن يَستَعبِد المَرء ماضِيه ..
أنْ يَستَعْبده أذَى القَطيعة ؛ فيظَلّ في قِيعان الذَّات !
لا تَكن في دِينك ناقصَ المَعنى ..
وأعْلَم .. أنَّ مَن يَضيقُ عن السَلام ؛ ضَريرُ البَصيرةِ ، مَطموس الرُوح ؛ لا يُضيء !
تَعبٌ ..
أن نُضيءَ ما لا يُضاء !
انظر إلى وصْف أصحابِ النَّبي ï·؛ الذين ساروا على هديه .. يقولُ إياسُ بن مُعاوية في ذلك :
" كانَ أفضَلهم .. أسْلَمهم صَدرًا ، وأقلّهم غِيبَة " .
وقال سُفيان بن دينار لأبي بِشر أحد السَلف الصالحين :
" أخْبرني عن أعمال مَن كان قبْلنا ؟
قال : كانوا يَعملون يَسيرًا ؛ ويُؤجَرون كثيرًا ..
قال سُفيان : ولِمَ ذاك ؟
قال أبو بِشر : لِسلامة صُدورهم " .
يا ولدي ..
الصَّفح سِرٌ دافِىء ؛ لا يَبوح بِثَوابه إلا هُناك !
ما الظَنْ ..
ما الريبة ..
ما الوساوس ..
يا ولدي لا يُهَرول ؛ مَن يحمِل في قَلبه حَطبُ جهَنّم !
أولئكَ المُثقَلون .. مِن أينَ لهم أنْ يُدركوا نعيمَ الظُّهور الخِفاف !!
وأعلَم ..
أنّ القُبور كالصُدور ؛ منها مُضيء ، ومِنها المُعتِم ..
وتلك نِهاياتٌ ؛ كانَت لها بدايات !
قالَ تِلميذ :
كأنَّ المَسافة بيننا وبينه ؛ جراح القلوب ..
وتِلك والله ؛ سَفرا طويلاً !
ردَّ الشَيخ :
إنْ أرهَقك البُعد ؛ فَقُل ..
الّلهم عَليك بالمَسافات ؛ فإنّها لا تُعجزك ..
واذكُر أنّ قلّة الصَّفح ؛ سَببٌ لانفراط الأزْمان الفَضيلة !
قال تِلميذ :
كيفَ نُرمّم الصَّفاء .. الصَّفح ..
كيفَ نُرمّم كلَّ هذه الفَوضى القَلبية ؟
أجاب الشَيخ :
إنّ الرُّوح لا تُصاب بعلّةٍ أسوأ ؛ مِن توَهُّم الكَمال ..
لذا .. صَحّح وِردك .. قِفْ بقوله تعالى { ويَعْفُ عَن كثير } .. أو تسأله العفو وتعجز عنه !
{ ويَعْفُ عَن كثير } .. ليُقم بها قَلبك الَّليلة .
واعْلَم ..
أنَّ العَفو ؛ تَرنيمة العائِدين إلى مَقام المُحسنين ..
العَفو ؛ صوتُ النُّفوس التي تسَامت عَن رَجفةِ الإنتقام !
وقُلْ ..
الَّلهم لا هَزيمة أمامَ قُلوبنا ..
نعوذُ بك مِن خَلَلِ الخُطى ..
ونَسألكُ تَمام العَفو !
اصْدُق في سُؤالك ..
فَوالله ما طَلبوا الوُقوف ببابه ؛ حتَى دعَوا .. فأتَاهم المِفتاح !
انتَهى المَجلسُ بصَوتٍ محزونٍ يقول :
واشتَهيتُ بينَ يدي الله ..
لو في عَينيّ عِبرة نَبيٍّ .. وفي صَدري عَفْوٌ مُحَمّديّ !
🔹د.كِفَاح أَبو هَنُّود
🔹