🕌 [ رَمضَانُ في بَيتِ النُّبوة ]
🌙 الَّليلةُ الثَالثة ..
استَغرقَ الشَيخ بعدَ القِيام في الذِّكر ؛ مثل مَن يَنغمسُ في الشِّفاء .. ثُمَّ رفَع رأسه وقال :
كانَ النَّبي ﷺ إذا ذَكر الله بين أصحابِه ؛ يَمتدُّ نُوره مثل النُّجوم ، حتَى لا تَرى في المَجلس إلا ناجِياً ..
ولا تَرى حَوله قلبًا من الإجابةِ حافِياً !
قَومٌ عَلِموا ..
أنَّ مَن تعرّض للكَريم رَبِح !
لمْ يَكُن النَّبي ﷺ كثير الكَلام .. فقدْ كان يَدّخِرُ صَوته كله لله !
يا وَلدي ..
ما أضيقَ الكلام على القَلب المُمتَلِىء .. ما أَشقّ الكَلام !
كان ذِكره للهِ يَجري مَع أنفاسه .. وقدْ قيل ؛ الصَّوت رَشحُ الرُّوح .. يَنسِمُ عَن مافيه !
ولقدْ كانت رُوح النَّبي ﷺ رُوحاً ؛ شَفّتْ مِن كَثرةِ الوَصل .. حتَى أشتاقَت للعبَق الذي يُثيره الذِّكر ..
للصَّحائف المُنتَشية بالأُجور ..
يَهطِل في فَراغِ المَوازين امتلاءً ثَقيلاً !
كان النَّبي ﷺ كُلَّما ذَكر الله ؛ فارَت أنهارُ الجنَّة ، حَتى تَصُبّ في قَلبه ؛ ويَفيضُ النّعيم ..
تلك سيماهُم كانت في قُلوبهم ؛ ثُمَّ علَتْ على وُجوههم !
تَذْكُر لنا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أنَّ النَّبِيّ ﷺ كان يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أحْيَانِهِ .. فقد كان يعلم ؛ أنَّ الذِّكر هو العِطر الذي يَصعَدُ مِنّا إلى المَلأ الأعلى .
والذِّكر ؛ عِطر المَلائكة !
قال تِلميذ :
أفَنبلُغ ذلك ؟
قال الشَّيخ :
حُبّ الله إذا أضاءَ على سِرّ عبدٍ ؛ أخلاهُ عَن كُلِّ شاغِل ..
وجَعل كُلّ ذِكرٍ سِوى الله عنده ظُلمة .
قال تِلميذ مِن زاويةِ المَجلس :
فكيفَ يكون ذلك ؟
أجابَ الشّيخ :
برعايةِ السِّر عَن الإلتفات ..
إنَّ القلبَ حَرمُ الله ؛ فلا تُسْكِنه سِواه ..
واصْطَفّ لِقَلبكَ ؛ ولا تَستكثر !
قدْ تتَحرّك ألسِنَتُنا بالذِّكر ..
لكن القَلب في أوديةِ الدُنيا يَهيم .
يا وَلدي ..
كيفَ يَصِحّ التَوحيد ؛ لِمَن كُلّما أبصَر شيئاً أَسَرَه ؟!
خَلِّص قلبكَ مِن شِرك الخَفقات .. خَلِّصه لله ؛ حتَى يَخلُص لكَ أثرُ الذكِّر ..
ولقد قِيل ..
متَى ما غابَت رُوحك عن الذِّكر ؛ تَعطّل الأثَر !
طَهِّر كَلامك مِن لَوثته ؛ حتَى تُرفَع لكَ حَوائِجك .
عَن مُعتمر بن سُليمان قال :
كانَ على أبِي دَيْن ، فكانَ يَستغفرُ اللهَ تعالى .. فقيلَ له .. سَلْ الله يَقضي عنْكَ الدَين .. قال :
إذا غفَر لي ؛ قضَى عنّي الدَين !
إذْ كاَن يَعلمُ ..
أنَّ كُلّ بَعيدٍ عن الذكر .. بعيد عن الإستغفار ؛ مَحجوبٌ عَن التَوفيق ..
وكُلّ بَعيدٍ عن الذِّكر ؛ ظامِىء
يا وَلدي !
كانَ النَّبي ﷺ يَميسُ جلالاً في الذِّكر ..
تَرقّ الأنفاس ، ويهتَزّ غُصنُ الشَوق إذا قال ؛ ( لبَّيْك اللهمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ بين يدَيْكَ، ونحنُ بكَ وإليك ) !
يقولها ..
وهُو يَشُمّ ريحَ الذِّكر في سِجلات المَلائكة !
يقولها ..
وهو يرَى تَعبِئة الحَقائب للسَّفر الطَويل !
كانَ يتسَامى على معارجِ عِليّين ..
هُناك .. حيثُ يَستريحُ المُتعَبون ..
هُناك .. على مَدارج { فَلا تَعلَمُ نَفْسٌ ما أُخفيَ لَهُمْ مِن قُرَّة أعيُن } ..
وقَد صَدق عَلِيٌّ - رَضي اللهُ عَنهُ - يوم قال :
إذا رأيتَ الله يُؤنسكُ بِذكره ؛ فاعلَم أنَّه يُحبُّك !
كانَ عُمْرُ النَّبي ﷺ وِردا ًدائماً ( أُمِرتُ أنْ يكونَ صَمْتي فِكْرا ً ونُطْقِي ذِكْراً ) ..
حتى أن مَن رآهُ ؛ ظَنّ الكون صارَ ناسِكاً مُتَعبِّداً !
يَسيرُ الصَّحب على هَديه ..
فهذا أبو هُريرةَ - رَضيَ اللهُ عَنْه - يقول له أحدهم :
أراكَ لا تَفترُ عن الذِّكر ؛ فَكم تُسَبِح ؟
قال : مِئة ألف .. إلاّ أنْ تُخطئ الأصَابع !
ومِن بَعده .. كانَ خالِد بنْ معدان يُسبّح كُلّ يَومٍ أربَعين ألفَ تَسبيحة ؛ سِوى ما يقرأُ من القُرآن !
قال تِلميذ :
مَن يَقدِر على ذلك ؟
رَدّ الشَّيخ :
قَد قالها السّلَف ؛ ( إنَّما قَطعُكُ ؛ عَدمُ استِعدادُك ) !
كانَ النَّبي ﷺ يُعَلِّم أصحابَه سُنَّته بِقوله :
( من استَطاعَ ألَّا يبيتَ إلَّا طَاهِراً ذاكراً مُسْتَغفراً ؛ فليفْعَل ، فإنَّ الأرْوَاحَ تُبْعَثُ على ما قُبِضَتْ عَلَيهِ ) .
بالذِّكر يا ولدي ..
يزدادُ الطُّهر في الأثوابِ ؛ حتَى تَصير الرُّوح طُهراً !
إنَّ الذِّكر يُعمرُ ما هَدمَته الخَطايا ..
وفي الرُّوح نقصٌ فادح لا يُرَمِّمه ؛ إلا الذِّكر !
قُل الَّليلة :
يا الله ..
يا مُنتهى الحُبّ ..
يا الله ..
يا مُنتهى الوُدّ ..
نَتعثّر بالخَطايا في أوَل النَّهار .. وأنتَ مَن يَسمعُ نَحيبَ سُقوطِنا !
ياربِّ ..
في رُواقِ المُنيبينَ دُموعٌ هي المِسك ..
فيا رب نستَعيذُكَ مِن زَلّة الكَلِم ؛ قَبل زَلّة القَدَم !
ونستجيرُ بِك مِن عَجز الجَنان ؛ قبلَ عَجز الِّلسان !
يا رَب ..
ّ أوسَع ما يكونُ الكَريم بالمَغفرة ؛ إذا ضاقَت بالذَّنب المَعذرة !
قُل الَّليلة :
أعوذُ بالله مِن غُربةٍ عَنه ..
وأعوذُ بالله أنْ يُطوى بِساطُ الشَّوق عَنّا .
واعْلَم ..
أنَّ ( للنِّية صَوتٌ يَسمعهُ الله ) ..
فاصْدُق في تَوبَتِك مِن قِلَّةِ ذِكْره !
🔹د.كِفَاح أَبو هَنُّود 🔹
________