الأقليات السورية في مرايا الأدب
نشر في: الثلاثاء 27 ديسمبر 2016 | 06:12 ص 63 مشاهدة لا توجد تعليقات
ما يصح في السياسة قد لا تقبله الثقافة بمعناها المعرفي الواسع، فالتعدد الثقافي الإثني والمذهبي والطائفي في بلاد مثل سوريا كان على الدوام أحد أغزر المنابع الثقافية وأكثرها ثراءً وسط جغرافية تمتد بين بادية الشام مرورًا بالجزيرة السورية وصولًا إلى ساحل البحر المتوسط، ومن عين ديوار في أقصى شمال شرق سوريا إلى سهول حوران وجبل العرب جنوبًا. فلا السنة علب سردين مصفوفة بعضها فوق بعض، ولا الشيعة علب كبريت مصطفة بعضها فوق بعض، ولا المسيحي أو الدرزي عبوات كوكاكولا متناظرة في حجومها.
إن الخصومات التي مهدت لها النخب الحاكمة في المدن الرئيسة السورية، كانت على الدوام هي بذرة كل ما يحدث اليوم، كون معظم هذه النخب شكلت ما بعد الاستقلال عام 1946م نواة لبرجوازية وطنية جمعت أموالها من سرقة مواسم القمح والقطن يوم أن كانت لا تزال تمثل السلطة الإقطاعية الرسمية… هذا يحيلنا مباشرةً إلى طبيعة النص الذي أفرزته تلك النخب الهاربة، التي تركت الحبل على غاربه لنشوء برجوازية عسكرية عملت فيما بعد وعبر العديد من الانقلابات على تقليد سلفها البرجوازي، لكن هذه المرة عبر سرقة المال العام والهيمنة على امتيازات اقتصادية عملاقة داخل جسم الدولة. هذا النمط الاقتصادي من مراكمة الثروات جعل الصراع في سوريا دائمًا هو صراع بين الفقراء والفقراء. حرب يمولها الأغنياء بغض النظر عن الطائفة والمذهب والقومية. عائلات بعينها تسيطر على مقدرات البلاد، وتعمل ليل نهار على استنساب وريث دائم لثرواتها المنهوبة من قوت الجياع والمستضعفين والمغلوبين على أمرهم، والأهم من هذا وذاك هو استقواء هذه النخب الاقتصادية بالعائلة كمرجع نهائي يبتّ في أمور التجارة والصناعة وتحالفاتها مع شركات عابرة للجنسية والحدود الدولية، لصوص بلا حدود ترفعهم العائلة إلى مصافّ الأباطرة والمعصومين.
من هنا كانت الرواية السورية إشارةً قوية على عكس هذا الخراب العميم في إصداراتها. أقليات غنية مدعومة بعائلات أبدية في مواجهة أكثرية منكوبة ومحتقرة. لقد أسس هاني الراهب لهذه المفارقة في روايته «بلد واحد اسمه العالم» تمامًا كما هي الحال في روايته «الوباء» التي اعتمد فيها (الراهب) على تفكيك البنى القائمة ماركسيًّا في جدلية الدولة والعنف، مشرحًا القيم التي نشأ عليها الفقراء في الثقافات الفرعية، والتي برأيه «تتعارض مع قيم الطبقة المتوسطة التي اكتسبها الفلاحون والعمال وصغار الكسبة» متنبئًا بـ«مئة سنة قادمة ستكون عصر العنف، فضغط الدولة في العالم سيزداد، والخائفون سيخرجون من جلودهم ويصيرون مادةً للعنف. العنف الشامل وطغيان الدولة سيلغي القانون نهائيًّا، ويعيد الفقراء إلى وضع همجي، تفكك وانحلال، لكل قيمة وبنية وعلاقة»؟
نزاعات جانبية
هذه النبوءة هي ما دفعت فيما بعد الكاتب سعد الله ونوس (1941- 1997م) لقراءة المدينة العربية المعاصرة من موقع الفقراء نفسه والشعور بغطرسة المركز على الأطراف، فنصوصه التي استلهمها من التراث العربي، وخصوصًا كتاب الليالي العربية «ألف ليلة وليلة» كانت جميعها تدور أحداثها في مدينة بغداد، على نحو «مغامرة رأس المملوك جابر» و«الملك هو الملك» حيث تحضر المدينة كفضاء للدسائس وحفلات التنكر، وسقوط الأقنعة، وقطع الرؤوس، في حقبة تاريخية وصفها المؤرخون بزمن «الشطار والعيارين» وتحالف السلطة مع عيونها وأصحاب شرطتها وجلاديها على الشعب ومصايره؛ فيما تحضُّر دمشق كمدينة تتألف في نصوص صاحب مقولة «محكومون بالأمل» من سجون ومواخير وأسواق وقلاع كما في مسرحيته «طقوس الإشارات والتحولات». ليصل الصراع إلى أشده في مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباني» النص الذي يعدّ مجابهة صادمة بين العقلية الرجعية وفن المسرح… مجابهة وضعت إشارات استفهام كثيرة على دور المدينة لمسؤولياتها الحضارية، لكنها لا تخلو من حزازات نخبوية مضمرة، تعلن انتماءها لقيم اجتماعية مرموقة، لكنها مواربة في تحديد موقفها من تطاحن «أكثريات ريفية فقيرة» و«أقليات مدن غنية»، وأسبقية سكان الثانية على الأولى. إذًا ليست الأقليات ولا الأكثرية، لا الغالبية المذهبية بل الغالبية السياسية التي تقهقرت عامًا بعد عام، لتجد النزاعات الجانبية ثغرات في هذا الجدار، ولتظهر فروقات هائلة بين عائلات ريفية وأخرى مدينية، أو انتمت إلى المدينة وتقمصت (الدمشقة) في سلوكها الحياتي ومظاهرها العامة، وصولًا إلى سيادة أخلاق السوق، وانهيار كبير للطبقة الوسطى في المجتمع السوري التي كانت تخفف من الغلواء بين جانبي الصراع، ما ظهر جليًّا في ازدياد أحزمة الفقر حول المدن الكبرى، من أحياء عشوائية يقعي فيها حطام هذه الطبقة المتوسطة السورية من متعلمين وحرفيين ومثقفين وعمال وموظفين حكوميين.
واقع معقد عكس صورة تحت مدينية في شؤون عديدة اختص بالقضاء والمحاكم الشرعية والأحوال الشخصية، ليدفع الكاتبة والأديبة روعة يونس إلى القول: «أبناء الأقليات أو المذاهب الذين يفضلون تبعية شؤونهم القضائية إلى غير القضاء الرسمي- وزارة العدل. أقصد تحديدًا: المسيحيين والشيعة والدروز، الذين يقصدون في تخاصمهم (المحكمة الروحية) لدى المسيحيين. و(المحكمة الجعفرية) لدى الشيعة. و(محكمة المشايخ) لدى الدروز. يُفترض بأتباع هذه الديانات والمِلل أن يوجّهوا ضرباتهم القاضية لرجال الدين- القضاة في تلك (المزارع) المسماة محاكم؛ لأنهم في معظمهم يمارسون (ظلمين) ظلم الدين وظلم رجاله، فضلًا عن الظلم المكتسب لدى البشر. وعدم اللجوء إليهم للتخاصم والاحتكام لديهم». إن شئتم بعض الجرأة، ولتكن وقاحة- تتابع يونس: «إن ظلم المؤسسة القضائية المتمثلة بوزارة العدل ومحاكمها أخفّ وقعًا على النفس من ظلم من يخبرك أنه ممثل المسيح، وممثل الإمام المهدي، وممثل الحاكم بأمره على الأرض».
الأقليات والأكثرية ومآلاتها
باستشهاد طويل لصبحي العمري، أحد الضباط الذين خاضوا غِمار الثورة ضد العثمانيين وشهد معركة ميسلون ضد الفرنسيين، يعكس فيه مسألة الأقليات والأكثرية ومآلاتها مع رحيل العثمانيين. إذ يقول العمري: «خرجنا من الحكم التركي ونحن متفرقون مفكّكون إلى مسلم، ومسيحي، وشيعي، وسني، وإسماعيلي، ونصيري، ودرزي… ومن القوميات الأخرى: تركي، وتركماني، وشركسي، وكردي، وألباني، وأرمني… وجميع هذه الديانات والمذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها، كل منها تعتبر نفسها غريبة عن الآخرين، وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق. فلقد كان المسيحيون بصورة عامة لا يزالون تحت تأثير الماضي. لقد كان المسيحي في العهد العثماني مواطنًا من الدرجة الثالثة، لا يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، فلا يعقل أن ينقلبوا بمجرد خروج الأتراك قوميين عربًا، وينسوا كل ما مرّ بهم من مظالم وإهانات خلال تلك القرون الطويلة، وهكذا كانت أكثرية المسيحيين، غير مرتاحة للحكم الوطني، فبقوا أصدقاء لفرنسا؛ أما اليهود فهم شعب عدوّ لكل ما هو غير يهودي، يفضلون أن يكونوا تابعين لأي حكم أجنبي؛ والشيعة في حيّهم منكمشون يشعرون بغربتهم عن الأكثرية السنية، وقد لجأ عدد غير قليل منهم للحصول على الجنسية الإيرانية لتحميه من ظلم الدولة؛ والنصيرية في جبالهم منعزلين تحت وطأة الفقر والجهل والإهمال، لا يعرفون عن الحكم سوى أنه ضريبة إلى الجابي في يد الجندرمة (الدرَك)؛ وهكذا الإسماعيليون المرتبطون مذهبيًّا واجتماعيًّا بآغا خان؛ والدروز في مناطقهم الجبلية يشعرون بغربتهم عن جميع من يحيط بهم، وهم دائمًا في ريبة وعدم اطمئنان، والحكومة في نظرهم عدو متربص بهم. أما الأقليات العنصرية، كالأتراك والشراكسة والتركمان وغيرهم، فبقي ولاؤهم للأتراك، يعتبرون أن حركة القومية العربية، التي فصلتهم عن الأتراك المسلمين بالتعاون مع الإنكليز الكفار، حركة خائنة، ويتفق معهم بهذه الفكرة أكثرية رجال الدين المسلمين، والكثير من العامة».
في روايته «قصر المطر» يتعرض ممدوح عزام لهذا الموضوع راصدًا لأنماط عقائدية في محافظته السويداء – جبل العرب، مما دفع بعض المشايخ في الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها الكاتب السوري عزام، إلى إصدار بيان بإهدار دمه بحجة أن «قصر المطر» أساءت إلى المجتمع الدرزي وأخلاقه، وشوهت عاداته وتقاليده ومقدساته وأبطاله الأسطوريين. طالب هذا البيان الذي وقّعه مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته وسحبها من الأسواق، علمًا بأن الرواية صادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 1998 وقال البيان: إن الرواية والراوي على السواء شوَّها أبطال التحرير الأسطوريين أمثال (سلطان باشا الأطرش).
تجاهل الإعلام السوري وقتها هذا البيان وردود الأفعال الأخرى عليه، مثل بيان المثقفين للتضامن مع الكاتب. على حين غض النظر اتحاد الكتاب العرب آنذاك عن هذا الحدث، ولم يتضامن مع الكاتب، بل دعاه إلى طلب الغفران والتراجع عما فعل ومصالحة شيوخ طائفته. مازن عرفة في روايته «وصايا الغبار» يذهب أيضًا إلى استعراض واقع عيش الأقليات من خلال قصة حب يرويها بين شاب دمشقي من الطائفة السنية وبين فتاة من الطائفة الدرزية، تنتهي قصة العاشقين بزواج الفتاة من رجل ينتمي إلى طائفتها. الواقع الفني الأدبي للرواية السورية يزخر بهذه الأمثلة، ومنها روايات كل من روزا ياسين حسن «أبنوس» ورواية سمر يزبك «طفلة السماء» ورواية «تجليات جدي الشيخ المهاجر» لحسيبة عبدالرحمن؛ إذ تناقش كل من الروائيات السالفة الذكر موضوع التقمص والدين عند الطائفة العلوية.
حق منح الهوية الوطنية للأقليات
ممدوح عزام
سمر يزبك
«واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد» أظنه شعارًا كشف وحشية ولا إنسانيّة الحرب السورية، وهو من أكثر الشعارات افتراء على الحقيقة والواقع، يقول الكاتب والناقد ياسر إسكيف ويتابع: «لم يعنِ هذا الشعار سوى إعلان أكثرية عن ملكيتها الحصرية لحق منح الهوية الوطنية للأقليات. فالشعب السوري لم يكن يومًا كتلة متجانسة ومتماسكة. فالشعب الواحد مقولة فارغة من أي معنى، أو محتوى، بعيدًا من وعي المواطنة في إطار الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية. وهذا ما لم يعرفه، أو يختبره، السوريون يومًا. وكان المجتمع السوري، تاريخيًّا، أكثريّة عربية مُسلمة (سنيّة)، وأقليّاتٍ دينيّة، وقومية، ومذهبيّة، تتعايش فيما بينها وفق علاقة، أو علاقات، مُركّبة ومُعقّدة. حيث تتقاطع هذه الأكثرية قوميًّا مع الأقلية المسيحية العربية، ومع الأقليات المذهبية الإسلامية. بينما تتقاطع إسلاميًّا مع أقليات أخرى (أكراد، وتركمان، وشركس) وتتباعد، أو تتناقض، كما في حالة الأكراد، قوميًّا».
إن الخصوصيات الثقافية هي الطاغية في التمييز بين الأكثرية والأقليات السورية، إذ لم تتوقف تلك الأقليات عن إنتاج مجموعتها الخاصة من القيم والمعايير، كما الأعراف والتقاليد والطقوس، وتجلى هذا بشكل شديد الوضوح في النتاجات الإبداعية (أدبًا وفنًّا) التي عكست فضاء الحريّة الذي تمنحه تلك الأقليات لأفرادها، من ناحية أنها بالأساس تكوّنت على المُفارقة والاختلاف والتمايز. ومن اللافت بهذا الخصوص حجم المُكابدة التي عانتها اللغة في الخروج من استنقاعها وتخثّرها لتتمكن من قبول واحتواء المُختلف من التصوّرات، والرؤى، والمشاعر، والأحاسيس، حتى بدت في أحيان كثيرة غريبة عن نفسها، أو مُختطفة منها، حتى إن بعضهم قد رأى في هذا تخريبًا للغة، أو أن اللغة ذاتها قد تواطأت مع خرابها وسعت إليه. وبالتالي لا أظنها مصادفة أن يكون، على سبيل المثال لا الحصر كل من أدونيس، وحنا مينة، وسعد الله ونوس، وسليم بركات، وممدوح عدوان، ممن ولدوا في بيئات تعود للأقليات.