🔮 فِقهُ بِناء الإنسان في القرآن
🔰الَّلبِنة السابعة والأربعون
{ والتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } ..
يا لبساطةِ القسَم .. و يا لِقوّة مَرامِيه !
تَبدو الكَلمات خَافتةٌ في أول التِّلاوة .. فإذا أَرْجَعْتَ العَقل مَرتين ؛ ينقلبُ إليكَ العقلُ مُحَلِّقاً في رُؤى زَخرَت بها مُفردات القَسَم المَهيب !
فإذا الكَلمات ثَقيلة الظِّلال !
في السورة ..
صوتٌ دافئ ؛ ينقلكَ إلى مُروج التِّين والزَّيتون ..
وضُوء قدُسيٍّ ؛ فوق {َ طُورِ سِنين } ..
وكَثيب رملٍ ؛ عَشِقَ الوَحي في البَلد الأمَين !
{ والتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ }..
رباعيةٌ ؛ توقِفك على ناصيةِ الرُؤيا ..
فما هي أسرارُ هذا القسَم ، ومالذي يغشاكَ من مَعانيه ؟
قسَمٌ .. يمتدُّ مِن الشَام إلى موطنِ شريعةِ إبراهيم عليه السلام ، وَيعْبُر بك إلى مِصر ، ثمّ مكَّة
و التِّينِ !
هُنا ..
رائحةٌ تُصبح وحيَاً نشْتمه في ذكريات الأَنبياء !
وقد قيلَ :
أن {ّ التِّين } .. رمزٌ للجَبل الذي استقرَت عليه سفينةُ نوحٍ عليه السلام ؛ يومَ شاخَت البَشرية ، واحدَودَب وَعُيها ، حتَى استَحقَّت الطّوفان !
والتِّين ..
قيلَ أنَّه ؛ رمزٌ لجَبلٍ في دِمَشق !
وقيلَ ..
هو التِّين في خَمرية ألوانهِ التي اشتَدَّت حتَى السَواد ؛ مثل مؤمنٍ لمْ يَسلب الشَيطان مِن لونه ولا معناه شَيئاً !
{ وَالزَّيْتُونِ } ..
مدىً ؛ يتّسع في جُذوره لكلّ الخَضرة التي انبثَقت من أُمنيات المُصلحين حتَى أضاءَت !
يحتَضِر الزَيتون وينوحُ ؛ إذا ظلَّ خاوياً من صوتِ نَبيّ !
ويَغدو طليقاً في تَدفُّقه ؛ إذا مسَّته نارُ شَهيد !
الزَيتون ..
ذاكرةٌ ؛ تهزمُ النِّسيان ، وفي عُمره سِجِلُّ الحَقيقة ..
وفي كلّ جذرٍ ؛ عذاباتُ نَبيّ !
{ وَطُورِ سِينِينَ } ..
حيثُ خلَع موسى _ عليه السَلام _ على أعتابه ؛ كلّ وِزرٍ يُثقِل العبد حتَى يتَساقط !
{ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } ..
الذي انكسَر فيه العَطش ، وفارَت زمزمُ بمعنى النُور بعدَ شدّة الغسَق !
تشهقُ الرّمضاء ؛ ومُحمّد ﷺ يكتُب التَضاريس الجَديدة ، ويغسل عنها أوزارها ، ويضَع عنها إصْرها وعُبودية الأَغلال !
في السُورة ..
يلتقطُ القسَم رموزاً ؛ تربِط لك عُرى الَمعاني .. حيثُ ترخي الكَلمات معانيها ، وتَمنحك لحظة جمالّ أُسطوريّة !
فالرَّمل في { البلد الأَمين } ؛ يَقِظٌ لا غَفوَ بعد اليوم يُدْرِكُه !
{ والزَيتون } ؛ مَلكوتٌ مِن خُضرة الجَمال !
ورائحةُ التّين ؛ تَعبقُ في الرُوح .. والأشواقُ ؛ تُسَبّح للهِ في طُورِ سيناء !
رُباعيةٌ ..
يَرتحلُ إليها الأُنس ، ويبدأُ بها قسَم ؛ يتنزّل في صَحراء مكّة !
{ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ } ..
حيثُ نَسجت خَطوات الأنبياء خارطةَ سالَ الهُدى فيها .. خارطةٌ ؛ كان قدْ بلَّلها الَّليل طويلاً !
تُصبح الخَرائط ؛ هي الحُدود الجديدة للرُوح .. حيثُ تمتدُّ مِن غلالِ الأَنبياء !
من النّار المُتّقدة في طُور سيناء بِلا حَريق ..!
مِن انتظارِ الفَرج في لحظةِ نُوح .. ومِن السَّكينة الباردة ؛ التي تَجري تحت سَفينة نُوح عليه السلام ..!
ومِن رائحةِ التّين ؛ تُسافر عبرَ العُصور !
هُنا ..
تَرُفّ أجنحةُ الوَحي ..
هنا لحظاتٌ لا تُكْتَب !
يَسعى نهرٌ مِن النُّور ؛ بينَ العِراق والشَّام ، ومِصر ومكّة ..
يَرتوي الوادي مِن زَمزم ؛ فلا يظمَأ ..!
وتَغدو مكّة ؛ ثغرٌ يضْحك ..
ويقولُ لك القَسم :
تكونُ الأرض عَجفاء .. حتَى يمرّ عليها نَبيٌّ ؛ فتُصبح تيناً وزَيتوناً !
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ..
حتَى تَحسب بعدَ جواب القَسم ؛ أنّه لا انحناءةَ فيه ..
وليسَ فيه نَشيجُ العَوَج !
فكيفَ يَهوي هذا الإعتدال إلى أسْفلِ سَافِلين ؟!
كيفَ يُخدعُ الإنسان عن ذاته ؟!
كيف يُثخنُ بالجِراح ؛ حتَى يَعجز عن تخَطّي الظَلام ؟!
{ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ..
حتَى تظن ؛ّ أن مفاتيح اليقَظة في يَديه ..
وأن العُوج ؛ أوهَنُ مِن أن يَطرق عليه الأبواب !
و يا للتَّقابل ..
بينَ علوِّ طور سِنين ؛ وصُورة الإنسان في { أَسْفَلَ سَافِلِينَ } !
وبين ثباتِ شَجرة الزَيتون ؛ وبين المَرء إذْ يهوي إلى { أَسْفَلَ سَافِلِينَ } !
وبين رائحةِ التّين ؛ تَعبُق في المَدى .. وبين غيابهِ في { أَسْفَلَ سَافِلِينَ } !
سؤالٌ ..
يضج ُّ ويَلحقهُ سؤالٌ :
كيفَ ألقَى الإنسانُ بِذرتَهُ في قاعِ بئرٍ مُعْتِم ؟!
كيفَ .. والخارطةُ تتوهّج بوحيٍ عتيق ؛ وَهذا توقيعُ الأنبياء على خارطةِ الطَريق !
كيف تذْرف خَرابك أيُها الإنسان ؟! كيفَ يحومُ الخَواء عليكَ ؛ مثل غُراب ؟!
كيفَ تَنثني ؛ وتتعَجّل الإنحناء ؟!
وكيفَ لا تمدّ جَذرك في الأرض ؛ مثل { الزَيتون } ؛ ولا تُشرق مثل { طُور سنين } !
{ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ..
فلا انحِناء .. ولا انكسَار .. ولا ارتِداد .. ولا هاويةٌ إثرَ هاويةٍ في وَقْعِ خطَواتهم !
هُم النَّاجون فقطْ من السُقوط .. تتَدلّى أعمالُهم { دانيةً عليهم } ؛ مَليئة بزيتونِ الأنبياء !
{ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ..
يُفضي إليهم ؛ مثل { لؤلؤٍ مَكنون } !
( تهبّ رياحُ الجنّة على سَنابلهم ؛ فتظلُّ لَواقح ) !
العيُون غارقةٌ في سَرمدية التَّسبيح .. وقدْ تجلّى لها اللهُ بالرُّؤيا !
يُوغلون في القُرب ..
ويُدركون مَعنى ؛ { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } .. تلك عاقبةُ مَن تجذّر في نصوصِ الوَحي ، وما تلَوّن مثل { التّين } ومثل { الزَّيتون } !
تلك عاقبةُ مَن تعَوّذ باللهِ مِن خَلَل في الخُطى ، وكانَت حَياته عُلوّاً مثل { طُور سنين } !
تَختتم السُورة بقوله تعالى :{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } ..
فلَا تَشُدّك المَرافئُ عن سَفر الإستقامة ..
ولا تُثقِلكَ شَهوةٌ ؛ تَهبُط بكَ ذاتَ غَفلةٍ إلى { أسْفل سافِلين } !
🔹د.كِفَاح أَبو هَنّوْد 🔹