ليلة تسليم جلجامش لليهود (٦)
الأحد ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦، بقلم حسين سرمك حسن
بين باتا وأوزوريس:
ولنستمر مع الأستاذ ناجح في تأويله للحكاية حيث يواصل القول:
(وتميّز بايتي كذلك بخصائص ذات صلة قوية بعقائد الحياة / والانبعاث والخصوبة التي عرفها الاله "اوزوريس" الذي علم المصريين الزراعة، وهو إله للقمح وتحتفل بموته وبعثه، وهذا الاحتفال في جوهره احتفال بالبذر – الذي كان يقوم به بايتي - ص 74) (44).
ومن المهم أن نعيد التذكير بأن باتا لم يكن يقوم بالبذار وحده، فقد قاده الأخ الأكبر ووجّهه وذهب معه إلى الحقل، واشتغلا سوية في الحرث والبذار كما بيّنا سابقا حسب نصّ الحكاية الأصلي.
يواصل ناجح:
(واهم التناصات الموجودة بين حكاية الاخوين واسطورة الاله "اوزوريس" هي خاصية الخصاء وقطع الذكورة الدالة على قوة الرجولة والمعبر عنها بافعال جنسية / تخصيبية، وفقدان الالوهة الشابة المذكرة لقضيبها يعني رمزيا تعطل الاله عن مجاله الحيوي في نظام الخصوبة الكلي، وبذلك تتوقف الحياة بشقيها الانساني / الحيواني – النباتي - ص 75) (45).
لكن كيف فَقَد كل من الإله أوزوريس والشاب باتا ذكورته؟
ناجح نفسه يجيب على سؤالنا بالقول:
(بعد العثور على الصندوق الذي كان فيه الاله اوزوريس قطع الاله الشرير "ست" اوصال الجسد الالهي، وبحثت عنها الالهة "ايزيس" ووجدتها كلها، لكنها لم تعثر على ذكورته التي اكلتها سمكة الدلتا.
واخذ الشاب "بايتي" سكيناً مصنوعة من القصب وقطع عضوه الخاص، والقاه في الماء، فابتلعته سمكة شبوط، واغمي عليه وضعف فرثى له اخوه الاكبر اشد الرثاء، ووقف يبكي بصوت عال من اجله - ص 75 و76) (46).
انظر سيّدي القارىء - أولا - إلى التناقض في الإجابة على سؤالنا السابق: كيف فقد كل من الإله أوزوريس والشاب باتا ذكورته؟
ومن لسان ناجح فقدْ فَقَدَ الإله اوزوريس ذكورته بفعلٍ عدواني خارجي حينما قطع أخوه الإله الشرير "ست" جسده للمرة الثانية، وقسمه إلى أجزاء بعثرها في أنحاء البلاد، امّا باتا فقدْ فَقَدَ ذكورته بفعل ذاتي اختياري حين قام بقطع عضوه التناسلي بسكين من قصب.
وهنا، ألم تنتبه أيها القارىء إلى مفارقة جديدة يغالط بها ناجح نفسه؟ فقد قال قبل قليل إن الأرض التي يعمل فيها باتا ليس فيها قصب لكي يصنع أنبو زورقا منه يعبر به إلى الضفة الأخرى ليقتل باتا، والآن يقول إن باتا قطع ذكورته بسكين صنعها من القصب!!!
وانظر إلى التناقض والمغالطة المُضافين في جانب آخر مهم، حيث قال ناجح إن الأخ الأكبر مناظرٌ و"متناصّ" مع الإله الشرير "ست"، وهو أمر لم تطرحه الحكاية إلى أن قام أنبو بمطاردة باتا بسبب كذب زوجته الشنيع، والآن يقول ناجح أن أنبو بعد أن شاهد باتا يقطع ذكورته ويُغمى عليه، رثى له أشد الرثاء، ووقف يبكي بصوتٍ عالٍ من أجله! فهل هذه من سمات الإله الشرير "ست" في عدوانه المستمر على شقيقه الإله "اوزوريس"؟ هل أظهر ست لحظة ندم واحدة أو ذرف دمعة حزن بسيطة أو نطق بكلمة رثاء لاوزوريس؟ بالعكس لقد استمر في عدوانه حتى على حورس ابن شقيقه اوزوريس، ودخل معه في صراع دموي عنيف اقتلع فيه عين حورس اليسرى!! أليس هذا بفارق هائل بين الأسطورتين؟ وهل مازالت علامات "التناص" التي طرحها ناجح قائمة بينهما؟
يواصل ناجح الإصرار على التناصّ، وينقلنا إلى استنتاج تناصّي غريب آخر حين يقول:
(واندفاع الشاب "بايتي" لقطع ذكورته يفضي به الى محيط الالوهة الشابة التي عرفتها ديانات الشرق الادنى القديم، ولم يكن قطع الذكورة ختانا كما قال الأستاذ شكري محمد عياد وانما هو فعل له طابع ديني خاص بالالوهة الشابة في الشرق. وهو – ايضا – نموذج مصغر من الطقوس والاحتفالات الدينية التي تقام في موسم الربيع، وتقديم القربان البديل للاله اوزوريس – من خلال قطع القضيب – كي يعاود صعوده مرة اخرى.
ان اندفاع "بايتي" لقطع ذكورته، محاولة منه للتماهي مع الاله "اوزوريس" الذي صار مثالا لعدد غير قليل من الالوهة الشابة في الشرق. لقد خسر ذكورته بفعل ارادي وصار انموذجا محايثا للاله اوزوريس، ومتمثلا في الالهين ديونيسس وبسيبيل، بسبب من موقفه الكهنوتي، عوضته الالهة / وحصرا الاله حورس عن قضيبه المقدم قربانا للاله اوزوريس لان نص الحكاية يعلمنا بان الشاب "بايتي" قد نجح في اتصال ادخالي مع الزوجة التي خلقتها الالهة وقدمتها له - ص 76) (47).
إنّ مشكلة ناجح هو أن الأسطورة التي يتناولها بالدراسة، يتناولها كـ "مَشَاهد" و"لقطات" منفصلة مُقطّعة، وليست مترابطة مع باقي المشاهد واللقطات التي تسبقها، والتي تليها، ضمن إطار ما يُسمّى بـ "الصورة الكلّية - Gestalt". فحين نأخذ أي فعل أو موقف أو صورة من أية أسطورة أو حكاية بصورة مُجتزأة، ستصبح – وببساطة – مشابهة لأي فعل أو موقف أو صورة مُجتزأة من أية أسطورة أو حكاية أخرى. فعلى سبيل المثال عندما نأخذ من ملحمة جلجامش العظيمة مشهدا يقول فيه جلجامش لأنكيدو أنه سيكون ساعده الأيمن يحق لنا أن نصيح بلهفة: ها.. نفس ما قاله فرعون ليوسف التوراتي!!.. وهكذا. لكن إذا أعدنا هذا الموقف إلى سياقه في الأسطورة من ناحية، ووضعناه ضمن إطار الصورة الكلّية لها من ناحية أخرى، سنجد أن الموقفين لا يتشابهان أبداً.
هنا، ولأن باتا "قَطَعَ" أعضاءه التناسلية، فلابدّ أنّه – حسب وجهة نظر ناجح – يتناصّ أو يشبه الإله أوزوريس الذي "قُطعت" أعضاؤه التناسلية!! ليس هذا حسب، بل إنّ باتا يشبه كل البشر الذين كانوا يقطعون أعضاءهم التناسلية في أنحاء الشرق الأدنى القديم وهم في صخب احتفائهم بانبعاث الإله القتيل! فينطلق ناجح وعبر (17) سبع عشرة صفحة هي القسم الأول من الفصل الثاني (تعطيل الألوهة الشابة)، لينقل لنا من مصادر متعدّدة كل حالات الإخصاء الذاتي الإحتفائي هذه في تاريخ البشرية! (من ص 77 إلى ص 94!!). وسيتوقع القاريء أن رحلة ناجح الطويلة والعميقة هذه سوف تقدّم له سبباً مقنعاً يبرّر هذا الفعل المدمّر، ويحمل وجهة نظر الباحث، لكنه سوف يجد بعد كل صفحتين أو ثلاث رأياً جديداً لأحد الباحثين، فلا تعلم ما هو العامل المحدّد الذي يجعل هؤلاء العبّاد يخصون أنفسهم بطريقة دمويّة مرعبة، ولكن بقناعة تامة بالفداء والتضحية. ستجد تبريرات كثيرة، ولكن من أهمها التالي:
(أعتقد أيضا – والكلام لناجح – بأن ضياع ذكورة الاله اوزوريس هو الأصل لهذا الطقس، المرتبط بالالوهة الشابة وخدم المعبد الشاب - ص 86) (48).
وهو رأي غريب.
فقد قام ست بقتل أخاه اوزوريس وقطع جسده إلى 14 جزءا (في رواية أخرى 42 جزءاً)، وعندما قامت زوجته الوفية بجمع أجزاءه المتناثرة لم تعثر على عضو ذكورته فقد أكلته سمكة في الدلتا (في نسخ مصرية للأسطورة تعثر الإلهة إيزيس على عضو زوجها). فهل هذا الإخصاء مقصود؟ أم أنه جاء كنتاج تصادفي بسبب رمي الأجزاء المقطّعة في أكثر من مكان؟
ما أقصده هنا هو أن اوزوريس لم يكن في نيته اخصاء نفسه، ولن يسمح لست – اذا استطاع – أن يخصيه. هذا (جرح) نتيجة عملية غدر.. نتيجة معركة إذا جاز الوصف، وليست جزءاً من فعل طقوسي هدفه الإخصاب والإنبعاث. وإله مخصي كيف يكون إلها للخصب والإنبعاث كما اعتبره الباحثون الأسطوريون وناجح منهم؟! وهذا الأمر لا يستقيم إلّا إذا اعتبرنا الدور الإخصابي والانبعاثي لا يقيم لعضو الذكورة (القضيب) أهمية ما، ويعتمد على (الدور) و(الوظيفة)، أو أنّه – أي دور الخصب والإنبعاث الكوني – مُرتهن بالإلهة الأم – عمليّاً لا "رسمياً" حيث كانت الشعوب تحتفل بالإله الشاب كرمز للخصب والانبعاث في ظل سلطة الإلهة الأم - وهذا أكثر دقّة. والإله أوزوريس إستطاع أن يخصّب الإلهة إيزيس بالرغم من بتر أعضائه التناسلية.
المصريون القدماء لم يكونوا "يخصون" أنفسهم في أعياد أوزوريس!:
ولننتقل إلى سؤال أكثر خطورة:
إذا كان طقس الإخصاء يعود إلى أسطورة الإله اوزوريس، فلماذا لا نجد مصادر تؤكّد قيام عبّاد اوزوريس بهذا الطقس في مصر القديمة؟ لماذا لم نقرأ أساطير وحكايات ومصادر تؤكد قيام كهنة معابد اوزوريس بإخصاء أنفسهم في احتفالات طقوسية سنوية مثلما قرأنا عن عبّاد تمّوز وأدوتيس وآتيس مثلاً؟
ما نقلته البرديات والمصادر هو أن أقصى عنف يحصل في احتفالات المصريين القدماء بالإله اوزوريس هو تمثيل الصراع بين الاله اوزوريس واخيه ست عن طريق النزالات الفعلية بالهراوات الخشبية التي تؤدي إلى إصابة المتبارزين بالجراح أو مقتل بعضهم. لكن لم نسمع - أبداً - عن وجود حفلات أو طقوس جماعية للإخصاء في المعابد المصرية المخصّصة للإله اوزوريس. وهذه غلطة كبرى مُضافة وقع فيها ناجح بسبب عدم تأنّيه وعدم إحاطته الشاملة بالحضارة التي يتحدّث عنها - وهي هنا الحضارة المصرية القديمة - وسنعرض أدلّة أخر على ذلك.
"سيبيل" ليست ذكراً بل أنثى!:
وكملاحظة سريعة أقول إن قول ناجح عن باتا:
(لقد خسر ذكورته بفعل ارادي وصار انموذجا محايثا للاله اوزوريس، ومتمثلا في الالهين ديونيسس وبسيبيل - ص 77) (49)
غير دقيق لأن (سيبيل) أنثى.. إلهة، وليست إلهاً ذكراً.