ليلة تسليم جلجامش لليهود (٣)


الأحد ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦، بقلم حسين سرمك حسن


فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي


سليمان مظهر يورّط ناجح المعموري و د.متعب مناف:


ويقول متعب واصفا ردّ فعل زوجة الأخ الأكبر (أنبو) بعد أن لم يستجب لإغوائها الأخ الاصغر باتا:
(.. واستفز الشهوة الى تلطخ وجه صاحبتها بالطين والدم والجروح - ص 19) (10) (وأؤكد على أنني أنقل العبارات بأخطائها الطباعية واللغوية).


ولو عدتَ، سيّدي القارىء، إلى النص الأصلي فلن تجد لا طين ولا دم ولا جروح ولا تلطيخ وجه، فهذه إضافات أدبية من عنديات سليمان مظهر الذي لا يتحمل أي مسؤولية في هذا الجانب، لأنه نبّه قارئه في مقدّمة كتابه إلى أنه أعاد صياغة الحكاية كي تطرب لها نفس القرّاء. والمشكلة ليست عند متعب مناف في هذا الموقف، بل عند ناجح الذي اعتاد على أن يجعل من كل حبّة قبّة، ويؤول كل كلمة إلى مخزون ذي دلالات رهيبة من المعاني الأسطورية (الجنسية خصوصا) والفلسفية واللغوية والنفسية، فتراه يأخذ كلمة ذكرها سليمان مظهر من عندياته وغير موجودة في النص الأصلي، ويبني عليها عمارات من التحليلات. والآن يظهر لنا أن ما تحمله من تعب وعناء كانا بلا سبب لأنّ الكلمة غير موجودة أصلاً.


مثال رقم (1):


يقول الأستاذ ناجح:
(رفعت المرأة عينها إلى الفتى.. كان رائعا قويا كواحد من الآلهة - ص 59) (11).
ويمهّد لاستثمار هذه الحركة ؛ حركة عين المرأة، أسطوريا ونفسيا، بالقول، وبحماسة:
(العين فاتحة الجسد وكاشفة شبقه، وهي المرسلة شفرات المحبة وإشارات الوله والجنون وهي فاضحة للمرأة أكثر من الرجل، لأنها – المرأة – ملزمة بالصمت ولا تعرف كلاما غير الإشارات / والشفرات التي تبثها، والعين أقدر من غيرها من أجزاء الجسم في إرسال رسائل الود والحب إلى الآخر-ص 5) (12).


ولا يستطيع ناجح تفويت حركة هذه المرأة بـ "عينها"، فيواصل كشف دلالات حركة العين هذه بالقول:


(إنها تستعين بعينها وما يساعدها من أعضاء على الإرسال، لأنها محجوبة عن حيز كبير من اللغة، وليس لها سوى بعض اللغة مثلما ليس لها سوى بعض العمر وبعض الحياة وهناك من اللغة ومن الحياة ما هو ليس من حاجات المرأة ولا من ضرورياتها - ص 60) (13).
ثم يواصل – تأسيسا على هذه الحركة ؛ حركة عين المرأة: (ورفعت المرأة عينها إلى الفتى ) فيبيّن كيف أن (العاشق يرى ما لا يراه غيره من الناس.. إنه يرى محاجر عيون لا نراها نحن.. وهو يرى محاجر العيون تحديدا - ص 60) (14) !!


ولكن هذا الشرح الطويل العريض الذي أقامه ناجح على أساس حركة (ورفعت المرأة عينها إلى الفتى)، هو وصف أدبي من ابتكار سليمان مظهر وغير موجود في نص الحكاية الأسطورية الأصلي !! أي أن ناجح يشرح ويفسّر شيئاً غير موجود في الأسطورة، وهو شيء بينه وبين سليمان مظهر إذا جاز التعبير.


ملاحظة مهمة:


لن اقوم بترجمة النصوص الإنكليزية لأنها من وجهة نظري بسيطة وواضحة للقرّاء المهتمّين بهذا المجال إلّا في حالات سأبيّن أسبابها في الموضع المناسب.


مثال رقم (2):


يقول ناجح أيضاً:
(وأحسّت المرأة كأن في أعصابها النار، وفي جسدها فحيح الأفعى – ص 61) (16).
وينطلق كعادته، متحمّسا أيضاً، في فكّ أسرار هذه العبارة، خصوصا أنها تتعلّق بالأفعى، وهي فرصة كبيرة بالنسبة له، فيقول:


(في النص وضوح للحظة الإغراء الأولى ودور الأفعى في ذلك هذا الدور المرتحل إلى الأنوثة، صار من خاصياتها التي عرفت بها. ومنذ لحظة الخطيئة الأولى التي وقع وزرها على المرأة حصل تناظر بين المرأة والأفعى التي تحولت في الحضارات الأمومية إلى رمز للألوهية وصارت علامة تتناوب مع الأم الكبرى في الفنون التشكيلية والعبادات في الشرق الأدنى القديم ولا يمكن العزل بين الآلهة انانا / عشتار – مثلا – والأفعى، إنها رمزها ودالها الفكري المعروف – ص 61 و62) (17).
ثمّ ينطلق ناجح ليقدّم أدلة مُضافة عن دلالات الأفعى الرمزية: الخلودية والجنسية والخصبية، وعلى مدى ثلاث صفحات (ص 62 و63 و64) مستعينا باقتباسات طويلة من ثلاثة باحثين هم:


- فراس السواح (من كتابه المعروف: لغز عشتار)
- عبد الله الغذامي (من كتابه: ثقافة الوهم)
- وابراهيم محمود (من كتابه: اللغة المحظورة)


ليعرض علينا كيف أن الأفعى مرتبطة بالمرأة وبالدورة القمرية، وكيف أن حية الأم الكبرى تشير إلى خصائص عشتار القمرية ؛ حديث طويل لكن لا رابط له ولا صلة بالحكاية موضوعة النقاش.. لماذا؟


لأن الحكاية لا يوجد فيها أي ذكر للأفعى على الإطلاق، وهي إضافة من سليمان مظهر. والقاريء ليس مسؤولا عن اعتماد باحث لا يعرف النسخة الأصلية من الأسطورة التي يحلّلها، ويعتمد على نسخة أدبية منها كتبها مؤلف من القرن العشرين، على الرغم من أن متعب مناف وصفه بأنه من "الآثاريين الثقاة"!


وفي تفسيره المطوّل الذي لا سند له في الحكاية عن الأفعى يقول ناجح إن (البنية الذهنية البطرياركية مدركة تماما لما حصل في الحكاية واعتمدت كليا على قدراتها اللغوية لتاسيس وتكريس خطابها الثقافي ضد الأنوثة لأن الثقافة سلطة أولا وكل سلطة – مهما كانت – تسعى إلى بناء نفسها وتحصين قوتها.. واندفاع الخطاب الثقافي الضدي للتذكير بلحظة الخطيئة الأولى، هو دعوة لتكريس العلاقة الثقافية / الاجتماعية بين الأنوثة والأفعى، لأنهما يلتقيان بعناصر عديدة مشتركة- ص 63) (18).


أي أن الثقافة الذكورية الأبوية هي التي تسعى دائما للتذكير بأنّ الأنثى هي أفعى، وتحديدا أفعى الخطيئة. جيّد. عندما يُقحم سليمان مظهر، وبعده ناجح المعموري، موضوعة الأفعى في نص حكاية خالٍ منها، ويقدّم الباحث شرحا طويلا عن دلالات الأفعى الإيجابية والسلبية، والحكاية منها براء، ألا يساهم هذا – حتى لو بالغفلة وحسن النية والحماسة – في تعزيز الجهود البطرياركية المسمومة لتشويه الأنوثة من باحث يحاول كشف واستعادة الدور الإخصابي العظيم للسلطة الأمومية ؟


ولكن ما هو أهم من ذلك هو أن هذه الجولة الطويلة التي قام بها ناجح مع الأفعى منذ فجر الخليقة، لا صلة لها بالحكاية أبداً، لأنها غير موجودة أصلا فيها، وأضافها سليمان مظهر بفعل صياغته الأدبية لها.


ولكي نتأكد من أنّه لا توجد حركة رفع عين – من جديد - ولا فحيح أفعى في النص الأصلي للحكاية،


وهذا المقبوس – ومعه المقبوس السابق – من الحكاية، يحكي الوقائع من دخول الأخ الأصغر باتي على زوجة أخيه التي كانت تمشّط شعرها، ومحاولة إغوائها له حين شاهدت جسده القوي وهو يحمل ما مجموعه 276 كيلوغراماً بحساباتنا الحاضرة كما يقول "ماسبيرو"، ثم خروجه غاضبا (كنمر من الجنوب كما يصفه كاتب الحكاية) إلى الحقل لتسليم حبوب الذرة إلى أخيه الأكبر.
وفي نقل ناجح مقبوسات عن الباحثين الآخرين تشعر بأنه يستميت ليلتقط أي شيء فيه عين أو أفعى ويلصقه بحديثه من دون تدقيق.


مثال رقم (3):


مثلا – وسوف اذكر أمثلة أخر في سياق الحديث – نقل ناجح اقتباسا عن عبد الله الغذامي الذي ستكون لنا معه وقفة مستقلة ؛ الغذامي الذي يصول ويجول بمفاهيم خاطئة أغلبها مُترجم لا يحاسبه عليها أحد لأننا ثقافة معصوبة مهزومة تطبّل وتهلهل لبريق كلّ مصطلح دخيل، ولا تركن إلى التمحيص العقلي الدقيق – يقول فيه:


(العاشق يرى ما لا يراه غيره من الناس.. إنه يرى محاجر عيون لا نراها نحن.. وهو يرى محاجر العيون تحديدا - ص 60) (20).


وهذا الإقتباس مأخوذ من كتاب (ثقافة الوهم) لعبد الله الغذامي (ص 164 تحديدا). ومنه يبدو أن الغذامي – ويتبعه ناجح بالضرورة - لا يعرف تعريف محجر العين ولا مكوّنات العين التشريحية تحديداً. فمحجر العين أيها الأخوة القرّاء هو:


(جزءٌ من التجويف الجمجمي الذي تستقر العين بداخله. وتتكوّن من عظم الخد (العظم الوجني) cheekbone، والجبهة forehead، والعظم الصدغي Temple، وجانب الأنف. وتكون العين مستقرّة ومسنودة داخل محجر العين بواسطة وسادة من الدهون. وبذلك يوفر محجر العين حماية كاملة للعين من أي صدمات أو ضرر) (21).


فهل هناك تلفيق أكثر من هذا الذي يعتبر العاشق يرى المحاجر العظميّة الفارغة داخل الجمجمة؟!


تعبيرات عشوائية لا معنى لها، يمرّرونها في رؤوس القرّاء العرب المساكين الذين لا يحرّك عقولهم حتى الضحك عليها، ويبتلعون المصطلحات والتعابير الطنانة لأنّها طنّانة.


عندما قام باتا بتوبيخ زوجة أخيه بشدّة على محاولتها إغوائه، وذكّرها بأنها مثل أمّه، مثلما أن أخاه الأكبر أنبو مثل أبيه، قرّرت الزوجة الإيقاع به وتأليب زوجها / أخيه عليه. ناجح نقل عن سليمان مظهر أنها قامت بتلطيخ جسمها بالطين وخدشت ذراعيها وكفيها لتوهم زوجها - إذ يعود - بأنها آثار معركة عامرة بالمقاومة، عندما حاول أخوه اغتصابها - ص 37) (22) .


وهنا يطلع علينا ناجح بتحليل من النادر أن يفكر فيه قارىء وهو أنّ هناك هدف مُضاف لدى الزوجة من تعفير جسدها بالطين غير هدف تأليب زوجها على أخيه، وهو:


(إن تلطيخ جسدها بالطين لم يكن علامة الحزن والسلب كما كان عند العراقيين القدماء في الحضارة السومرية / الأكدية في وقت بكاء الإله دوموزي / تموز وقت نزوله للعالم الأسفل، وإنما كان ذلك في مستواه النفسي العميق، محاولة الإستعانة بالطين البارد للتقليل من شهوة الجسد الثائر، وترطيبه وإنقاذه من النار المشتعلة فيه، نار الشهوة والغضب والحقد في آن. أمّا خدش الذراعين، فإنها توميء في الطبقات العميقة على آثار لذّية لحظتها يمارس الفحل البطرياركي فحولته في إرواء وإطفاء شبق الجسد الأنثوي - ص 66) (23).


ولا أعلم عن أي فحل بطرياركي يطفيء شبق الجسد يتحدث ناجح ؟! فباتا أهان الزوجة الخائنة وخرج، والزوج أنبو غير موجود. أعود للتأكيد على العثرات التأويلية الجسيمة التي يسببها القفز فوق "سياق" النصّ ؛ أيّ نص. في حالة عدم التمسك بسياق كل حالة نصبح في حال كمن يرى أن كل شيء يصلح لأي شيء، ويساوي أي شيء، وبأي تأويل. وهذا ما يميّز تأويلات ناجح هنا: القفز من مكان لآخر، والإنتقاء من كل كتاب مقطعا أو فكرة. استمع إليه وهو يواصل التحليل:
(وهي من علامات تلك اللحظة الغائبة عن الوعي لأن الإثنين ملتحمين معا في أتون الجسد، وترقّب الإنطفاء الشهوي بسقوط ماء الرجولة / ماء القلب كما أطلق عليه السومريون - ص 66) (24).


فعن أي اثنين ملتحمين معاُ يتحدّث ناجح ؟ هل هما باتا وزوجة أخيه اللذين تشاجرا وافترقا؟ وعن أي ماء رجولة يتكلم ؟ هل هناك اتصال جنسي جرى من وراء ظهورنا ؟
المهم أنّ لا ناجح المعموري، ولا متعب مناف، ولا سليمان مظهر قبلهما، سأل نفسه:
من أين جاء الطين ؟ وهل هجم عليها باتا في ساحة من الطين أم في غرفة نومها المرتبة والنظيفة، وهي غرفة نوم الزوج مالك الأرض المرفّه كما تخبرنا الحكاية ؟!


وفوق ذلك كلّه لا يوجد مثل هذا الحادث في الحكاية الأصلية، والمشهد كلّه من اختراع سليمان مظهر !! فليس في النص الأصلي سوى تعبير أن الزوجة أخذت كمّية كبيرة من الشحم، فبدت وكأنها قد ضُربت بعنف (يعني لا طين ولا لذّة خفيّة.. فقط ضرب شديد لتوجيه التهمة إلى باتا ). ويفسر "ماسبيرو" تصرّف الزوجة بدهن جسمها بالشحم بأنه لغرض منح الجلد بريقاُ واحمراراً يوحي بالضرب الشديد ويدل على وجود كدمات في الجسم.


وإليك أيها القارىء المشهد من النص الأصلي باللغة الإنكليزية حيث يدخل أنبو البيت فلا تقدّم له زوجته الماء كما اعتاد، ولم تسبقه بالنور كما تعوّدت (تركتْ البيت مظلماً)، بل كانت ممدّدة على سريرها وعلى جسدها آثار (ضرب) شديد، وهي تحدّث زوجها عن سلوك أخيه الأصغر الشائن الذي حاول أن يغتصبها:


وعندما يستمع أنبو لشكوى زوجته تشتعل أعصابه ويسحب خنجره. هنا يعتبر ناجح الخنجر رمزا لـ "القضيب". وهذا ما يُتفق عليه في التحليل النفسي لكن ضمن أي "سياق" يا تُرى ؟ ولأجل اي وظيفة ؟ ونحو أي غاية ؟


لقد استل أنبو خنجره لأنه يبغي قتل باتا الذي أوهمته زوجته بأنه حاول الإعتداء عليها. وحين لا يكون لدى أنبو خنجر جيّد مشحوذ فإنه لن يستطيع قتل باتا بقضيبه، أليس كذلك ؟ كما أنه يستطيع قتله بخنجر متوسّط حين يكون قضيبه صغيرا أو يكون فاقدا للقدرة على الإنتصاب. كما أنه من الممكن أن لا يستطيع قتل باتا بخنجر كبير مسنون، إذا كان باتا أمهر منه في القتال، حتى لو كان قضيبه ضخما. ما أريد التأكيد عليه من هذه المماحكات الضرورية هو "السياق" الذي يضاف إليه – بصورة طبيعية هنا - ما يُسمّى بـ "الحقل الرمزي – symbolic field" الذي تنتعش في تربته وتحت ظلاله الدلالات الرمزية. والسياق والحقل هنا يشير إلى أن خنجر أنبو ما هو إلّا أداة حادّة لقتل باتا، وأنّ لا مجال للتفكير بمعانيه الرمزية القضيبية. لأننا لو ربطنا الخنجر بقوة أنبو الجنسية الضعيفة – كما وصفها ناجح وكما تشير دلائل الحكاية – فإن الضعف الذكوري سوف يُضعف روح المقاتلة لدى أنبو، قياسا إلى باتا، ولكنه أداة للتعويض، مثل الجبان الذي يربّي شاربين كثيفين جدا على طريقة (شِفت شواربه وتغزّلت بيه) كما تشير الحكمة الشعبية الباهرة. ولكن هذا التعويض ليس في مبارزة، بل في حالة السلم، حين يحمله أنبو في حزامه، ويتفاخر به، ويُنشيء الأقاصيص حول معجزاته. لاحظ التخريج المنقول الذي يطرحه ناجح:


(الخنجر علامة على حيوية فحولة الزوج وطاقته المتدفّقة (أنبو حسب ناجح عاجز وليس لديه طاقة متدفّقة فيناقض نفسه – الناقد) وهو إشارة واضحة على الإستعلاء الذكوري، واقتدار على ممارسة فعل الجنس. فالخنجر / القضيب رمز مناظر للفحولة وأحدهما ينوب عن الآخر ومع رموز قضيبية كثيرة - ص 67) (26).


ولا أعلم كيف ينوب الخنجر عن القضيب حسب رأي ناجح. هل شاهدنا رجلا يذبح رجلا آخر ويقطع رأسه بقضيبه، أم رجلا يجامع امرأة بالخنجر ؟!!


إن الخنجر ينوب مناب القضيب (يخترق ويذبح ويجرح) ويرمز له في “الحقول الرمزية” أيّها السادة، مثل الأحلام (النوم واليقظة)، والفن، والأعراض العصابية. ثم لاحظ، أيّها القارىء، كيف أن الحكاية نفسها هي التي تفسّر الأمر بصورة معقولة حين تقول أن الأخ الأكبر حين سمع شكوى زوجته أصبح مثل فهد الجنوب (مصر الجنوبية) وشحذ خنجره (والمترجم يترجمها على أنها سكين – knife، وليست خنجراً – dagger!!)، ووقف خلف باب الإسطبل (الزريبة) لكي يذبح أخاه عندما يعود من الحقل مساءً جالباً مواشيه.


والغريب هو أن ناجح قد قرأ تأويل القصة هذه في كتاب (البطل في الأدب والأساطير) للراحل الدكتور شكري محمد عياد، ولاحظ أن شكري قال بأن الأخ الأكبر قد شحذ (رمحه)، وليس خنجره، فتابع معي كيف يفسّر ناجح رمز الرمح هذا:


(وإذا اعتمدنا على الرمح – الذي ذكره الأستاذ شكري محمد عياد كنموذج للسلاح الذي استعمله أنوبو في منازلة أخيه المرتقبة فإن القراءة التأويلية له لا تختلف أبدا وإنما يكون الرمح – أيضا – رمزا قضيبيا ينتهي بحشفة شبيهه بحشفة القضيب. ولقد كشف النقاب عن رموز قضيبية على نطاق واسع في اليابان القديمة، كما هو الحال في الصين والهند وأفريقيا وبلدان أخر كثيرة، رغم أنه غالبا ما تظهر اليوم على نحو مموّه أو في اشكال تجريدية ففي الأسطورة القديمة إن شكل الرمح المرصع يشبه [العمود – القضيب الذكري] وهذا العمود الذي ينتهي بكتلة كبيرة تشبه حشفة القضيب - ص 68) (28).


وفعلا فقد استُخدم الرمح في بعض الحضارات القديمة كرمز للخصب وكمكافيء للقضيب، ولكن ما هي الظروف السياقية التي تجعلنا نقول إن الأخ الأكبر قد سحب رمحه لأنه يريد عرض قوّته القضيبية أمام زوجته وأخيه الأصغر ؟ وكيف سنثبت أنه لم يسحبه و"يبُرْدَه" لغرض قتل أخيه من دون تداعيات قضيبية ؟ ثمّ أن الإنسان من قبل 5 ملايين سنة - كما تشير الدراسات - قد صنع نوعين من الرماح:


- نوع للرمي عن بعد، وهو الذي يكون دقيقا ورفيعا ومدبّبا لكي يشق الهواء، -ونوع للضرب، ويكون غليظا وصلبا جدا (أشبه بهراوة طويلة) (29).


فإذا كان أحد النوعين له حشفة، فلماذا صنع نوعا بلا حشفة، إذا كان المرجع الرمزي واحداً ؟ ثمّ لماذا ننسى حقيقة فيزيائية عرفها الإنسان القديم بالتجربة والخبرة المتراكمة وهي ضرورة وضع "ثقل" في نهاية الرمح كي يصل هدفه، ويصيبه بنهايته، ولا يتقلّب في الهواء ويسقط (في القرن العشرين قام مجرمو الولايات المتحدة الأمريكية بتثقيل رؤوس صواريخ كروز باليورانيوم المنضّب لكي لا يؤثر الهواء على مسيرته وهو يقطع آلاف الأميال من ناحية وليولد درجة حرارة عالية جدا تذيب الحديد وأجساد الضحاياعند الإختراق !!).
وعندما يأتي الأخ الأصغر باتا إلى البيت مساءً، يُدخل أبقاره إلى الزريبة فتقول البقرة الأولى لراعيها باتا:


(أخوك الأكبر يقف ممسكا خنجره ليقتلك. أهرب من أمامه)


فسمع ما قالته البقرة الأولى. ثم دخلت البقرة الثانية، وقالت الشيء نفسه، فنظر باتا أسفل باب الزريبة، وشاهد قدمي أخيه واقفا خلف الباب ممسكا بالخنجر، فألقى ما يحمله على الأرض، وهرب مسرعاً. وبالمناسبة يقول "ماسبيرو" إن باب البيت المصري أعلى من عتبته دائماً، ولا يصل إليها ؛ هناك فراغ بين الباب والأرضية، وهناك الكثير من الرسومات القديمة تُظهر ذلك – ص 162هامش 17) (30).


وأن تتكّلم البقرة في الأسطورة فهي ظاهرة عاديّة جدا، حيث تقوم نظرة الإنسان الأسطوري على أن "جوهر" الموجودات من بشر وحيوان وجماد هو جوهر واحد، وأن جميع مكوّنات هذا الكون "تتراسل" وتتفاهم فيما بينها. ولكن من المؤكّد أن البقرة المصريّة خارج الأسطورة وفي الحياة اليومية لم تكن تتحدّث في المقهى أو تغني في الحمّام. الأسطورة نظام خاص له اشتراطاته الخاصّة. ففيها يتكلم الحجر والبقر.. وتبكي الشجرة.. وتنوح السنابل كما هو الحال لدى ورثتها من الشعراء. لكن ناجح ينطلق وبحماسة ليشرح لنا كيف أن البقرة هي رمز للإلهة الأم في الحضارات القديمة، وعناصر للإنجاب والخصوبة حتى لحظة الصراع العنيف مع السلطة البطرياركية الذكورية... وكون ننسون أم جلجامش توصف بالبقرة الوحشية.. ثم اختفاء البقرة وظهور الثور السماوي.. وكيف ظهر الإله الإبن وأخذ عن أمّه صفاتها القمرية فصار يُرمز له بالثور الوحشي... و..و..و.. والكثير من الإقتباسات والشروحات عبر ثلاث صفحات ونصف (من ص 68 إلى ص 71 داخلة) !! وكل ذلك لأن بقرة باتا قالت له إحذر أخوك خلف الباب!!


وأنا لا أنقل هنا حالة استثنائية مرتبطة بهذه الحكاية أو بهذا الكتاب، بل هي قاعدة في أسلوبية ناجح وطريقته البحثية في كل الحالات وكل كتبه.


ملاحظة مهمة:


في الإقتباس من التوراة سوف أعتمد على نسخة الكتاب المقدّس بترجمة الآباء اليسوعيين، والصادرة في بيروت عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، عام 1983.