قصة قصيرة: (6) الآنســــة (ر)
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
أقسم (ل) أغلظ الأيمان أن يتزوج بنت الجيران (ر) ، مهما غلا مهرها ، وأشتد وطيس التحديات أمامــه ، غير آبه لما يخبئه القدر له من مفاجآت أو نوائب ! ........... رآها في يقظته ومنامه : عسجدية الشعر ، قرنفلية الوجه ، باسمة المحيى ، فارعة الطول ، يغار منها القمر ! صبية فاتنة اخترقت مخيلته بيسر ، واستقرت في عقله الباطن كموطن آمن يلجــأ إليه وقت تسّود الدنيا بوجهه ، ويكفهر نهاره !
عاشا جارين حميمين منذ نعومة أظفارهما بلا تحفظ ، يدخلان بيت أحدهما الآخر دون استئذان ودون وجل ، ويتبادلان الطعام والشراب بلهفة . وعصر كل يوم تقام حفلة شاي العصر في أحد بيوتهما........هما جاران ، تربيا سوية ، وأكلا سوية ............ لا سر خفي بينهما ، ولا شيء ينغص حياتهما ، لدرجة خال بقية جيران الحي أنهما أسرة واحدة ، فيما لم يساور أحدا منهم الشك أن (ل) هو لـ (ر) عاجلا أم آجــــــــلا .
كان في ربيعه الثالث والعشرين : قوي العضلات ، معتدل القامة ، واسع العينين ، مجسدا كل عنفوان الشباب ، يطفو على بحيرة من العملات الصعبة والسهلة، آلت إليه من أبيه الذي قضى في حادث مروري مروع . تشتهيه كل يافعة شريكا لحياتها ومتمما لنصفها الآخر ! كان متميزا في مراحله الدراسية : علميا ، وسلوكيا ، واجتماعيا ورياضيا ........ كان محبوبا من لدن زملائه وأصحابه ، محترما من قبل أساتذته ، مستحبا من كل جيرانه . ترك كلية علوم الحسابات وهو في المرحلة الثانية ليواصل عمل والده تاجرا للمواد الكهربائية والالكترونية بالجملة والمفرد ، فيما كانت (ر) في سنتها الأخيرة من دراستها الإعدادية .
لم يعرف معاني المفردات التالية طيلة حياته : الكبت والحرمان والبؤس والإحباط والمستحيل ....... عاش في بحبوحة ويسر وكأنه ولد وفي فمه ملاعق من الذهب وهو من أبناء الذوات ! لم تعن له فكرة إلا ونفذها ، ولم يخطر بباله شيء إلا وترجمه إلى واقع ملموس بلمح البصر . بيد أن ما أرقه وقض مضجعه كان موضوع التقرب من (ر) والزواج منها على سنة الله ورسوله . فهي شغله الشاغل ليل نهار، صبح مساء . فأسرته لم تقف حجر عثرة في طريقه ولا في طريق أسرتها . لكن ثمة سرا دفينا يحول دون تحقيق مآربه!
تدرك (ر) جسامة الورطة التي وقعت فيها: فمن ناحية تعرفه أكثر مما هو يعرف عن ذاته......، وهو كذلك . إذن ، المستقبل أمامهما وضاء ، وليس هناك ثمة ما يحول دون زواجهما.
وكانت ستلوم نفسها إذا ما فرطت به ، وفي عين الوقت كانت ستندم مدى الحياة إذا ما اقترنت به حسب مقولة أمها ! وأعجبي .... أحست وكأنها وسط لغز مبهم ! كانت تشعر وكأنها ضحية لعبة شد الحبل : ضائعة ، تائهــة ، مغلوبة على أمرها ، يساورها الشك بأنها ربما تعاني من الشيزفرينيا ، مما عمق من كآبتها !
ظلت تلح على أمها أملا بالموافقة على الزواج منه ، مغرية إياها بشتى الإغراءات فإذا بالأخيرة ترفض بشكل قاطع ! وكانت تسلط الضوء عليه وعلى شخصيته ، وأسرته وثروته ناعتة إياه بالعريس اللقطة الذي لا يتكرر ! ومع هذا كانت توصد الأبواب بوجه ابنتها ، مما ساور (ر) الشك أن يكون شخص ما عشعش في مخيلتها فأحجمت عن الجواب!
توصلت الأسرتان إلى قرار حاسم لا رجعة فيه: لا زواج بين الاثنين قط.
ودب الغضب بين الفريقين وأقفلت الحدود بينهما إلى غير رجعة.
وإذ اقتنع (ل) بعدم جدوى محاولــة التقرب من جارته ، لجأ، وكله يأس ، إلى أمه كي تعجل بمراسيم خطوبة ابنة التاجر (ص) التي سبق وفاتحته بها . وتمت الخطوبة في بحر ساعات ، وجاء المأذون بعد يومين ليضع النقاط فوق الحروف ويسدل الستار عن عشرة العمر الفريدة التي أصبحت في مهب الريح بين عشية وضحاها!
وصلت حيثيات الأمور إلى (ر) محدثة صدمة عنيفة فيهـا . علا بكاءها ، وتغيرت ألوانها ، وتشوهت ملامحها .... وقض الزواج المفاجئ والمباغت مضجعها . نادتها أمها عدة مرات لتناول الغداء ولكن دون رد.
هزت الأم رأسها والدموع تنساب بغزارة من عينيها وهي تتمتم :
(أسمعت إذ ناديت حيا ، ولكن لا حياة لم تنادي).
نادتها عدة مرات أخرى ولكن دون جواب . فما كان منها سوى التوجه بخطى موءودة إلى غرفتها ....
ولشـدة دهشتها فإن وجه (ر) اصطبغ بالدموع الساخنة ، والانهيار العصبي أخذ منها الشيء الكثير . قالت متلعثمة بألم ومرارة:
- أنت السبب.........أعدك بأنني سوف لن أتزوج أحدا بعد الآن!
-لو كنت تعرفين السبب لبطل العجب!
قالت متهكمة: "وما هو هذا السبب كي يبطل العجب ؟"
- "أن (ل) هو أخوك في الرضاعة ! لا يمكنك قط الزواج منه، فهو حرام !!!