المفكران : "حاج حمد" ود.الشحرور:
"الداروينية" حين تتحزم بالقرآن (5)
من القضايا المفصلية في كل فكر إسلامي يطرح فلسفة جديدة أن نتبين موقف صاحبه من "الحدود"فهي مؤشر واضح على توجه الكاتب ومدى تناغمه مع شبه المستشرقين في قضايا الحدود.
في حالة مفكرنا"حاج حمد"يؤكد بشدة أن التشريع سلطة إلهية،فيقول :
(وسلطة التشريع هي سلطة إلهية وليست نبوية وليست بشرية .. ولا يمكن أن تنالها بالقياس ولا بالإجماع ولا باتفاق السلف الصالح ،فالله وحده هو الذي يحيط علما بدقائق مصدر التشريع "منهجية الحق"،فقد حرم الله من قبل على اليهود"طيبات"أحلت لهم ،ورد الأمر إلى تعنتهم وظلمهم ولم يرده إلى القياس أو إلى قاعدة الضرر :"فبظلم من الذي هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا" النساء : 160) { ص 623 ((جدلية الغيب والإنسان والطبيعة : العالمية الإسلامية الثانية) / محمد أبو القاسم حاج حمد / دار الهدى + مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد / الطبعة الأولى 1425هـ = 2004م)}
بطبيعة الحال هذه عجيبة أخرى من عجائب مفكرنا،فهو يريد من الله – سبحانه وتعالى – أن "يقيس" والفقهاء يقيسون على أحكامه سبحانه وتعالى .. فعلى أحكام من سيقيس الله سبحانه وتعالى؟!!
ويؤكد "حاج حمد"حاكمية الله – سبحانه وتعالى – كذلك في مسالة الربا .. فيقول :
( كما لا نستطيع أن نتأول ما ورد فيه "التحريم""فنبيح"الربا تحت أي اسم من الأسماء أو شكل من الأشكال.
تشريعات الحرام تبقى كالمنهج ثابتة لا تتغير في أي زمان أو مكان إلا ذلك الاستثناء الذي أشار إليه الله في حق بني إسرائيل) { ص 623 (جدلية ..)}
وحتى على المستوى العقلي البحت يحذر مفكرنا من جريمة الزنا .. ويرى أنها – لو تأمل البشر – تستحق أقسى العقوبات أي الرجم :
( فما بينه الله لنا من هذه الحالات إنما يشكل خلفيات ضرورية لتحريم الزنا من ناحية،ولمنع التبني من ناحية أخرى. فالمطلوب هنا بيان ذلك منهجيا بوجه مدارس اللبرالية الإباحية التي تفكك مسلمات التكوين العائلي (..) فإذا فشا الزنا في القوم وفشا التبني أورثوا عائلاتهم انحرافات لا تحصى ولا تحصر. ولاكتشف الناس أن عقوبة الرجم أولى بالزاني من عقوبة الجلد لولا أن شرعة الإسلام ناسخة لشرعة التوراة وتقوم على التخفيف والرحمة){ص 79 ( جدلية ..)}
يفهم من هذا الكلام أن مفكرنا يرى أن عقوبة الزنا هي الجلد – دون أن يفرق بين مُحصن وغير مُحصن - ثم نجده في موضع آخر يتحدث عن"تكفير"الله لجميع سيئات المسلمين،ما عدى حالتين تمسان الذات الإلهية والبيت المحرم!! يقول "حاج حمد":
( فالتكفير يلحق بالمسلمين في هاتين الحالتين فقط وهما مما يمس بالذات الإلهية المحرمة والبيت المحرم،أما ما عدا ذلك فيكفر الله نفسه السيئات عن المسلمين بما يصيبهم به من نقائص في صحة أو مال أو ولد :"إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير"البقرة 271) {ص 273 ( جدلية ..)}.
وكأن حديث مفكرنا عن رجم الزاني .. لو تأمل البشر .. وتحريم الربا الذي لا يقبل الجدل،أو تحت أي مسمى من المسميات .. أصبح خافتا هنا!!
ثم يلمح مفكرنا إلى مأزق المشتغلين بالدعوة حيال "الحدود"فيقول :
( كل"مشتغل"بالدعوة الإسلامية خارج الإطار الجغرافي التقليدي للمسلمين سرعان ما تواجهه مشكلة العقوبات البدنية كقطع اليد والرجم والجلد .. في هذه الحالة يلجأ إلى كل أنواع المبررات المنطقية ليؤكد على ضرورة هذه العقوبات منطلقا في دفاعه عنها كونها أمرا إلهيا غير قابل للتغيير وقد أثبته الله في نصوص كتابه){ ص 645 ( جدلية ..)}
إذا كيف يحل "مفكرنا"هذه المعضلة؟
يكتب مبتدأ بآية كريمة :
(يقول الله تعالى "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " المائدة 48.
تنص هذه الآية على معنى خطير في التشريع إذ تقول "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا"ولتحليل تركيب هذا النص يمكن إيراده على نواح شتى لاستبانة الفارق في المعنى .. {لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا} في هذا المبنى المحرف يعني أن الله قد قيد التشريع به وأنزله أمرا دينيا دون الرجوع إلى أبعاد أخرى .. هذا معنى{لكل منكم جعلنا}.
أما النص بـ{لكل جعلنا منكم } فيعني أن الله يرد التشريع إلى {منكم}أي جعلنا التشريع منكم أي مطابقا لخصائصكم وتكوينكم وأعرافكم. وبمعنى أكثر تحديدا أن الله ينزل حكمه متوافقا مع أخلاقية الواقع وسلوكياته ضمن توافق تام مع الظرف التاريخي. فالشرعة والمنهاج هما استخلاص إلهي مقيد بشخصية الواقع،وقد أراد الله – عبر هذا النص – أن يطلعنا على نسبية التشريع المنزل تبعا للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة. ){ ص 646 ( جدلية ..)}
وكأن مفكرنا ينسف قوله السابق :
(وسلطة التشريع هي سلطة إلهية وليست نبوية وليست بشرية .. ولا يمكن أن تنالها بالقياس ولا بالإجماع ولا باتفاق السلف الصالح ،فالله وحده هو الذي يحيط علما بدقائق مصدر التشريع "منهجية الحق") { ص 623 ((جدلية الغيب...)}
وقوله الآخر :
( كما لا نستطيع أن نتأول ما ورد فيه "التحريم""فنبيح"الربا تحت أي اسم من الأسماء أو شكل من الأشكال.
تشريعات الحرام تبقى كالمنهج ثابتة لا تتغير في أي زمان أو مكان إلا ذلك الاستثناء الذي أشار إليه الله في حق بني إسرائيل) { ص 623 (جدلية ..)}
في "تحليله" للآية 48 من سورة المائدة،يصبح الربا – وغيره – متعلقا بالظرف التاريخي .." وأخلاقيات الواقع وسلوكياته ضمن توافق تام مع الظرف التاريخي"حسب نص كلام مفكرنا!!
نعود لتحليله لآية سورة المائدة،فنجده يوسع الفكرة بالقياس على بيئة اليهود،التي تنزلت فيها العقوبات التي فرضت عليهم،يقول :
(إن نظرة على البيئة التاريخية وأنماط العقوبات في ذلك العصر اليهودي توضح لنا أن ذلك الشكل من العقوبات كان دارجا في الحوض الحضاري التقليدي. فالحضارة العمورية السابقة على الديانة اليهودية كانت قد اختارت نفس هذه الأشكال وقد اشتهر بها "قانون حمورابي حوالي 2100 ق.م "(..) فمن نفس تلك البيئة التاريخية وعلى نفس نمطها جاء التشريع وقد أثار هذا التداخل بين الأعراف الوضعية والتشريعات الدينية خيال بعض علماء الأنثروبولوجية مما دفعهم للاستنتاج إلى الدين ليس سوى حامل أيديولوجي لثقافة تاريخية محددة. (..) إن الثابت في التشريع هو"مبدأ العقوبة"أو الجزاء،أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر على حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه. بهذا يستوعب القرآن متغيرات العصور ويبقى كما أراد له الله صالحا لكل زمان وكان ( ..) إن هذا القول يفجر قضية في الوعي الديني المعاصر برمته هي مسألة تعلق بجوهر الدين وعلاقته بأشكال الوعي المختلفة. فالأديان جميعا قد تنزلت في مرحلة تاريخية معينة في تطور الإنسان){ ص 647 ( جدلية ..)}
وهكذا يقرر مفكرنا هنا مع الأنثروبولوجيين أن "الدين"ليس أكثر من حامل أيديولوجي لثقافة تاريخية محددة!!!
وهكذا يتطور الأمر مع مفكرنا من التشديد على جريمة الزنا .. وأن التحريم مسألة خاصة بالله سبحانه وتعالى وحده .. ليصبح الأمر: "أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر على حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه"حسب كلامه !!
بغض النظر عن اختلافنا الشديد مع ما طرحه "حاج حمد"هنا .. إلا أن هذه ليست قضيتنا هنا،ولكن السؤال :
هل كان مفكرنا أمينا مع فلسفته المادية ؟ بعد تناقضه من ما قرره أولا من أن ما حرمه الله – سبحانه وتعالى – لا يمكن أن يحله أحد لأن الله – سبحانه وتعالى – هو المشرع .. والاستثناء الوحيد متعلق بحالة خاصة هي اليهود!
سنأخذ ثلاثة أمثلة تظهرأن أن مفكرنا لم يكن أمينا مع فلسفته المادية و"محاكمة " عصر الراشدين، حسب أعراف هذا الزمان لا على أعراف زمانهم.
أول الأمثلة .. يتعلق بما حديث في سقيفة بني ساعدة بعد انتقال الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى – إنا لله وإنا إليه راجعون – ويشن "حاج حمد"حملة شعواء على ما حدث في السقيفة،فيقول :
( ثم استرجعت السماء نورها المحمدي وأبقت نورها القرآتي،فانعدمت الصلة بين العرب ووسيط المنهج،فتنازعوا الأمر منذ أول يوم في السقيفة. فضاقت أولي الأمر{منكم} لتصبح من بينكم "مهاجرين فقط"ثم ضاقت فأصبحت ( فيكم – مجلس الشورى الذي شكله عمر بمعزل عن الأمصار لاختيار من يخلقه) ،ثم ضاقت فأصبحت "عليكم – بالوراثة الأموية العباسية ". إنها فتن كالليل المظلم . وقد كان الرسول على علم بتفاصيلها. إذن لماذا سكت عنها؟
إنه الفرق بين عقلية تدرك المنهج،وعقلية تعمل بموجب القدرة العملية. فالمنهج يعني الالتزام بمقتضيات السلام والوحدة في التجربة البشرية. وبمعنى آخر العلو على مطلقات التنابذ في شكلها القبلي. بين الأنصار والمهاجرين،وبين القبائل فيما بينها،وبين العرب وغير العرب؟ فعبارة السقيفة المشهورة : منا أمير ومنكم أمير !هي عودة إلى حالة التنابذ. أي إلى خارج المنهج بعد فقدان العملية الوسيطة (..) إذن لم يكن من مهمات النبي أن يتجاوز بوعيه واقع مرحلته وخصائصها الفكرية .. فظل الرسول حافظا للعلاقة ما بين المنهجية في مطلقها والتطبيق في نسبيته،أي في حدود إمكانيات الفهم العربي للقرآن){ ص 637 – 738 ( جدلية ..)}
بل يعيد بداية الانحراف – التناقض – عن الإسلام إلى .. السقيفة أيضا !! فيقول :
( ولا ترجع جذور التناقض إلى سلسلة الانحرافات الواضحة التي عددها المجددون في المراحل المتأخرة كشرب الخمر والزنا و القتل العمد،وإنما ترجع إلى البداية منذ وفاة الرسول وفي سقيفة بني ساعدة .. هناك البداية ثم أخذ التناقض في الاتساع بين المنهج الإلهي والسلوكية الحضارية (..) كم هي مأساة أن يموت"عثمان"بيد بعض أبناء الصحابة وأن يقود الصحابة وأبناؤهم من بعدهم حملات التصفية الدموية التي ظللت الجزيرة العربية وما بين خراسان والمغرب بألوان قاتمة من الدماء){ ص 619 ( جدلية .. )}
ومرة ثالثة ... سقيفة بني ساعدة .. فيكتب "حاج حمد" :
(ولكنه حذر كثيرا من فتن تأتي بعده"كقطع الليل المظلم"ومع ذلك تركهم وجها لوجه مع القرآن،فطفحت السلبيات في سقيفة بني ساعدة ){ص 633 ( جدلية ..)}
لا أدري كيف لم ينتبه مفكرنا الكريم إلى أنه بهذا الكلام يعلن فشل المنهج،وسقوطه سقوطا مدويا .. لحظت غياب "الوسيط"أي"القدوة"أي الحبيب صلى الله عليه وسلم!!
ثم ما الذي كان ينتظره الفكر المادي من قوم يعيشون في القرن السابع الميلادي؟ غير توريث الحكم كما هو الحال في "البيئة "المحيطة .. وهو الأمر الذي استمر ربما حتى بعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789،أي بعد ألف سنة من سقيفة بني ساعدة!!
ولكن الواقع يقول أن تجربة سقيفة بني ساعدة كانت تستحق وقفة أكثر رحمة وعدلا من مفكرنا الكريم .. ففي ظل "بيئة توريث الحكم"لم يورث الصديق رضي الله عنه الحكم لابنه .. ولا فعل ابن الخطاب رضي الله عنه ذلك .. بل وضع "مجلسا" .. كما لم يورث سيدنا عثمان رضي الله عنه الحكم .. وحتى سيدنا علي – عليه السلام .. وهو في ذلك الموقف الحرج .. يقول عن تولية سيدنا الحسن – عليه السلام – لا آمركم ولا أنهاكم.
أين نجد مثل هذا في بيئة القرن السابع ؟!!
ليس هذا فقط .. بل الأمر بدأ برجل من فخذ صغير من قريش .. "بنو تيم" .. ثم تلى ذلك رجل من فخذ آخر ليس كبيرا بدوره .. "بنو عدي" .. ثم جاء دور الفخذين المتنافسين في الجاهلية .. "بنو أمية" و"بنو هاشم" .. فهذه الإيجابيات التي لا تتناسب وأعراف بيئة القرن السابع لم يرها مفكرنا الكريم!!
المثال الثاني .. لعدم وفاء "حاج حمد"لفلسفته المادية،هو زواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من أمنا عائشة رضي الله عنها .. وهي صغيرة .. أي أنه يكرر شُبه المستشرقين مرة أخرى .. بل وصل الأسى بمفكرنا أنه قال أننا نتمنى لو لم يتزوج الحبيب صلى الله عليه وسلم من أمنا رضي الله عنها وهي في تلك السنة!!
العجيب أن مفكرنا يتحدث عن تقبل "بيئة"ذلك العصر لزواج الصغيرات .. ثم ينتقد الأمر بعقلية بيئة مختلفة وعصر مختلف!! لماذا والأمر في يتماشى مع البيئة؟
يقول مفكرنا :
(فمثلا،كانت التجربة العربية التي نشأ ضمنها"محمد"تتقبل بواقعية تامة الزواج من صغيرات السن،وقد تزوج"محمد""عائشة بنت أبي بكر الصديق"وهي في السابعة،ونحن ننظر الآن من منطلق قيم مختلفة،وكم يودّ بعضنا ألا يكون الرسول قد فعل ذلك .. بل هناك رجال في عصرنا يبلغ أحدهم السابعة والسبعين ويقدم على الزواج من فتاة صغيرة تعتبر ممارسة الجنس معها في عالم اليوم – حلالا أو حراما – أمرا غير مقبول (..) هل كان "محمد"مخطئا؟أو هل كان مصيبا؟ مثل هذه الأسئلة التي لا تبصر من الأمور سوى الأبيض أو الأسود تنم عن عقلية غير قادرة على الإحاطة بالأمور من أهم جوانبها. (..) "فمحمد"في زواجه من "عائشة"كان يصدر من شرعية اجتماعية،ذات بُعد أخلاقي معين،متعارف عليه في واقعه.){ ص 626 - 627 ( جدلية .. )}
إذا تجاوزنا محاكمة المفكر "حاج حمد"لماضينا أو عصر الرسول صلى الله عليه وسلم على مقاييس الثقافة الغربية اليوم .. فهل ما ذهب إليه "حاج حمد"هو المشهد كله؟ رغم أنه ينطلق من ثقافة مادية .. أباحت مؤخرا "زواج الشواذ" .. فهل نربط "ديننا"وتشريعاتنا بهذه الثقافة التي تسمح "أعرافها "الآن بزواج الشواذ؟!!
ليس هذا فقط بل إن الثقافة الغربية نفسها .. قد لا توافق مفكرنا على ما ذهب إليه .. وهي تجد نفسها في مأزق حمل المرهقات،رغم كل الجهود المبذولة للتثقيف ،وصرف موانع الحمل .. إلخ.
على كل حال كتب بيجوفيتش :
(العلاقة الجنسية مع شخص تحت الرابعة عشرة في إيطاليا هي عمل إجرامي. وتم في عام 1985م إطلاق مبادرة التخفيض {هكذا} هذا الحد إلى سن الثانية عشرة ) { ص 135 – 136 ( هروبي إلى الحربة ) : علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : إسماعيل أبو البندورة / دمشق / دار الفكر / الطبعة الثالثة 1429هـ = 2008م}.
كما يضيف عند حديثه عن الدعارة في البرازيل : ( كثير من هؤلاء الصغيرات يمتن من مرض السل،والجوع،والسكين والمسدس،والأمراض الجنسية. بين سن 11 – 12 عاما تلد الفتيات الطفل الأول،ويضعنه أمام أبواب الكنيسة،والفقيرات يضعنه في الشوارع،أو في الملاجئ ..){ ص 207 ( هروبي إلى الحربة ) : علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : إسماعيل أبو البندورة / دمشق / دار الفكر / الطبعة الثالثة 1429هـ = 2008م}.
وإلى البلد المحافظ بريطانيا :
(لندن – وكالات الأنباء :
"ومن جهة أخرى وافق نواب الحزب في البرلمان ومعهم أغلب نواب الأحزاب الأخرى على تعديل قوانين الشذوذ الجنسي في بلادهم وتخفيض سن"السماح" به إلى 18 عاما بدلا من 21 عاما. والغريب أن التعديل الجديد صدر بأغلبية ساحقة بعد جلسة عاصفة شهدها مجلس العموم البريطاني (..) حيث وافق عليه 427 نائبا مقابل 162 نائبا صوتوا ضده. والأكثر غرابة إن إحدى النائبات (أدوينا كاري) في الحزب المحافظين لم تكتف بالتخفيض المقترح بل إنها دعت إلى تخفيض أكثر ليصبح 16 عاما ..){جريدة الشرق الأوسط العدد 5566 في 13/9/1414هـ = 23/2/1994م}.
هكذا في الوقت الذي يوجه"حاج حمد"سهامه إلى ماضينا،متأسفا،على الزواج من الصغيرات،متأسيا بالثقافة الغربية .. تقوم الثقافة الغربية نفسها .. بتخفيض سن السماح بذلك .. بل وتقر "زواج الشواذ"!!
سؤال آخر :
كيف ترفض "الداروينية"زواج فتاة .. سمحت لها"الطبيعة"أن تحمل وتلد ؟!! ألا يعني ذلك أن جسد تلك الفتاة قط "تطور"إلى الدرجة التي تسمح لها أن تصبح "زوجة"؟!!
المثال الثالث .. ونحن دائما مع شبه المستشرقين نفسها،فمفكرنا يقول :
(فالمرأة يظهرونها غير متكافئة مع الرجل في الحقوق،ومتكافئة معه في الواجبات،فشاهدتها نصف شهادة الرجل،وحظ الرجل في الميراث مثل حظ الأنثيين ){ص 39 ( جدلية ..)}.
لم يوسع"حاج حمد"الحديث حول ميراث المرأة،لذلك لا يلزم أن نوسع،نحن أيضا،الحديث عن وجود حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل،وأخرى ترث أكثر مما يرث الرجل – كما كتبنا في الرد على تلك الشبهة تحت عنوان : "أستاذ سناء كيف حصرت النساء في البنت؟!!" - ما بعد زواج الصغيرات،وميراث المرأة سوى تعدد الزوجات،ولمفكرنا فيه وجهة نظر .. وهي أن التعدد أبيح ليتزوج الرجل بامرأة لديها أيتام .. والأمر في إطار الخوف من الكوارث التي تحدث عند مساكنة المتبنى !!
يقول "حاج حمد":
(قد جاءت عبارة فانكحوا ما طاب لكم من النساء مقيدة غير أن العرب أدركوها مطلقة.
هنا تضمين إلهي لحكمة مكنونة،فالوصي على الأيتام حين لا يكون زوجا لأمهم يجد نفسه معها بحكم السقف في جو عائلي واحد – كموقف "يوسف"،وجعل التصرف في مال اليتيم ينطلق من أبوة حقيقية عبر الزواج من أمهم فيختفي عنصر التبني.
فهذه السورة تبتدئ بالتركيز على النفس الواحدة والعلاقة الثنائية،ثم تبيح التعدد ضمن وضع اجتماعي محدد لا يتعلق برغبة الزواج المجردة كما ذهب المفسرون وإنما بالعناية بالأيتام وحدد الله للعدد أربعة فقط.
في هذه الحالة يصبح للزوج الحق في القيام بأموال الورثة القصر مع اشتراط الرزق الجاري عليهم والكسوة لهم،ومعاملتهم معاملة حسنة تزيل عنهم الشعور باليتم،حتى إذا بلغ اليتامى سن الرشد مع المساهمة في ترشيدهم،تعود إليهم أموالهم،لتي يمنع التصرف بالإسراف في أصولها،كما يمنع المبادرة باستهلاكها قبل كبرهم.(..) كان الرسول يدرك أن الحكمة الإلهية المكنونة في القرآن لا تحبذ تعدد الزوجات والزواج من الفتيات بالذات لمن كان متزوجا لذلك رفض بشدة زواج "علي"من أخرى،وقد احتار المفسرون في ذلك الموقف فتأولوه تبعا لأفهامهم فقالوا إن الرسول لم يكن يرغب في أن يجمع رجل واحد بين ابنته وبين ابنة عدو الله .. فمنذ متى يحرم الرسول ما أحله الله ؟){ ص 631 ( جدلية ..)}
وسبق له ان قال :
( فقد أوضحنا أن أي بحث في هذه المسألة لا يضع في اعتباره دلالة قصة"يوسف"مع"امرأة العزيز"(منع تواجد عنصرين أجنبيين امرأة ورجل – ضمن سقف واحد) ودلالة "منع التبني".. لا يستطيع أن يدرك حقيقة مقدمة سورة النساء .. لم يكن هدف السورة قط إباحة التعدد ولكنها لمعالجة مشكلة الأيتام مع رفض تبنيهم من ناحية و رفض وجود كافلهم مع أمهم من ناحية أخرى،مما يجعل التعدد مشروطا بالزواج فقط للعناية بالأيتام م الرحم.
هذا المعنى الدقيق غاب عن المفسرين التقليديين؟ والسؤال لماذا غاب عنهم؟ هل لعجزهم اللغوي ؟لا،فقد كانوا فرسان الكلمة،ولكن غاب عنهم"الأسلوب الفكري التفسيري نفسه"كان يتعامل مع القرآن ضمن أشكال الأجزاء والسور والآيات ولم يستطع أن ينفذ إلى المنهجية الناظمة حيث يربط نص في سياق سورة بنصوص تبدو ذات غايات مختلفة في سور أخرى){ص 655 (جدلية .. )}
وهنا عدة مسائل :
أولا : على طول حديث مفكرنا عن مسألة التنبي،كان الحديث عن سيدنا يوسف ،وسيدنا رسول الله – عليهما الصلاة والصلاة والسلام – ولم يتحدث عن "الربيبة"وهي بالنسبة لزوج الأم "فتاة"في مقام الابن المتنبى .. فهل تحدث نفس الإشكالات؟!
ثانيا : لم يذكر المفكر في حالة وصول الأيتام إلى سن الرشد هل يطلق أمهم .. أم يستمر الزواج؟
ثالثا : إذا قلنا أن أهل تلك الفترة ،وحتى المفسرين الذي جاءوا بعد ذلك،لم يفهموا أن التعدد "مقيد"بأم الأيتام .. فماذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
المفكر يرى أنه فهم ذلك .. بدليل أنه رفض زواج سيدنا علي عليه السلام،بأخرى .. ويكاد أن يسخر من الذين قالوا أن سبب ذلك هو رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع ابنة نبي الله – عليه السلام – وابنة عدو الله تحت سقف واحد.
قد يسال سائل ... كيف يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن فهم الصحابة لإطلاق التعدد .. وهو مقيد .. ويتركهم يتزوجون مثنى وثلاث ورباع .. من غير أمهات الأيتام؟ وهل التعدد بغير ذوات الأيتام حرام أم مكروه؟
وأخيرا : أين المنطق أو العقل في أن يتزوج "رجل"بثلاث نساء – إضافة إلى زوجته – كل واحدة لديها أيتام؟ هذه دار أيتام .. وليست أسرة!
وبعد .. إ إضافة إلى أن مفكرنا الكريم لم يكن أمينا مع الفلسفة المادية التي ينطلق منها،والتي كانت تحتم عليه أن يحاكم ماضينا حسب بيئته .. فإن مسألة تعدد الأزواج لم تكن مفتوحة في القرن السابع الميلادي فقط،بل إننا نجد – في عصرنا الحديث أي بعد أكثر من ألف سنة من الفترة التي حاكمها "حاج حمد" – مؤلف قصة الحضارة يقول عن تعدد الزوجات :
(ونذكر من بادئ الأمر أن الإنسان بفطرته ينزع إلى تعدد الأزواج،وأن لا شيء يستطيع أن يقنعه بزوجة واحدة إلا أقسى العقوبات،ودرجة كافية من الفقر والعمل الشاق،ومراقبة زوجته له مراقبة دائمة){ ص 89 جـ 4 مجلد 5 ( قصة الحضارة ) : ول ديورانت : ترجمة : محمد بدران }
وينقل عن سابقيه من النصارى :
( وارتأى لوثر وهنري الثامن وأرزم والبابا كلمنت السابع أن الزواج من امرأتين يمكن أن يرخص به تحت شروط معينة،وخاصة إذا كان بديلا للطلاق (..) وكان البيت الذي يضم زوجا وزوجتين أمرا مألوفا كثيرا في فرنسا ،مثال ذلك البيت الذي كان يضم هنري الثالث وكاترين دي مدتشي وديان دي بواتيه،){ ص 200 جــ5 مجلد 6 (قصة الحضارة ) ول ديورانت / ترجمة : محمد أبو درة / القاهرة / طبعة جامعة الدول العربية}.
إذا فالراهب الألماني مارتن لوثر – 1483 – 1546 – مُطلق عصر الإصلاح في أوربا،وفي القرن السادس عشر الميلادي .. كان له ذلك الرأي المعتدل في التعدد،بينما يحاكم فيلسوفنا التعدد الذي جرى في القرن السابع !!
وأخيرا .. هل نهبط بديننا إلى مستوى .. التماهي مع ما تطلبه الثقافة الغربية .. التي تغير وجهها كل حين ؟!!
إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله


أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني